مؤلفاته
وعلى الرغم من كثرة هذه المؤَّلفات، إلا أن هناك مؤلَّفات أخرى لم تذكرها هذه المراجع، مثل كتاب: «ترجمة الأمير الجليل المرحوم عريان بيك أفندي». ومهما يكن من الأمر، فأغلب هذه المؤلفات مفقود، ولا وجود له عَلَى الإطلاق! فقد أصبحَتْ معظمُ هذه المؤلفات مجردَ أسماء محفوظة في بعض المراجع! ولا نعلم فحواها ولا تفاصيل صفحاتها العتيقة! والبقية الباقية من أسماء هذه المؤلفات، والتي ما زالت محفوظة بفهارس بدار الكتب المصرية، ما هي إلا مجرد بطاقات تحمل أسماء هذه الكتب، وغير مسموح بتصويرها، رغم وجودها الفعلي، بسبب قِدَمِها وتآكلها، وعدم صلاحيتها للتصوير!
وأمام هذا الأمر، بَذَلْتُ جهدًا كبيرًا بمساعدة الدكتور سامح مهران رئيس المركز، والأستاذ رضا فريد يعقوب مدير إدارة التراث بالمركز، ومساعِدَتِهِ الأستاذة رانيا عبد الرحمن، للحصول عَلَى إذنٍ كتابي بتصوير بعض مؤلفات تادرس وهبي، بكاميرا خاصة، بعد مكاتَبات ومراسَلات رسمية كثيرة! وبسبب هذا العناء، ولثقتي الكبيرة في استحالة تكرار هذه المحاولة من قِبَل الباحثين في المستقبل، سأصف هذه المؤلفات مُرَتَّبَة حسب تاريخ نَشْرها. مع ذِكْر أغلب مقدِّماتها ومدائحها وتقاريظها الواردة فيها، ما عدا وصف مسرحية «يوسف الصديق»، الذي سيحتل الصفحات الأخيرة من هذه الدراسة.
(١) كتاب في النحو
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الواهب العطية، والصلاة والسلام عَلَى خير البرية. أمَّا بعد … فالإنصاف نصف الدين، والتعسف من شأن المتعنتين، وأداء الشهادة أَمْر واجب ولو مع اختلاف الدين. فمَنْح الشهادةِ الخالصة لكل ذي فضيلة علمية أو أدبية من شِيَم أرباب الأخلاق المُرضية. ولذا سَوَّغَ لي الميلُ إلى الرجوع إلى الحق في الجملة — بقَطْع النظر عن الاختلاف في الجنس والملة — أن أهنئ الشاب النجيب البارع الأديب، الآخذ من الاجتهاد العلمي بنصيب، حتى انتظم في سلك معلِّمي اللغة العربية، وصار ذا فِكْر مُصِيبٍ وسير جميل عن مهارته يُنبي، جناب تادرس أفندي وهبي معلِّم اللغتين الفرنساوية والعربية بإحدى مدارس الأقباط المصرية، بأنه قد أجاد في تأليف هذه الرسالة، بفكرته الذكية السيالة، حيث أبرز فيها كثيرًا من قواعد النحو، عَلَى صورة السؤال والجواب، غير حائد عن طريق الصواب. فهي رسالة مختَصَرَة مفيدة، ذات فوائد ابتدائية عديدة، نافعة لكل طالب، بغية لكل راغب، فناهيك به باذلًا نفسه لِنَفْع أبناء جنسه. وحيث إن هذه منفعة قدَّمها بيديه، فلا بأس بإدخال السرور عليه، فهو ممدوح عَلَى هذه الفعلة، ولا يذمُّه إلا ذو غفلة. والحمد لله في البدء والختام، والصلاة والسلام عَلَى أشرف الأنام، محمد وآله وصحبه الكرام، ما طلعت ذكاء، ودرجت الظباء. قاله بلسانه، وكتبه ببيانه، راجي غفر الأوزار، إبراهيم عبد الغفار.
ومما يُلاحَظ عَلَى هذا التصدير، شيوع السجع والصنعة اللفظية في أسلوب كتابته، وهو أسلوب شائع في كتابات القرن التاسع عشر. كما أن كاتبه من المسلمين، ولعله أحد المشاهير المغمورين. ومن المحتمل أنه كان مدرِّسًا للعلوم العربية، بدليل كتابته لتصدير خاص بكتاب في علم النحو. ومن أهم ما جاء في هذا التصدير أسلوب التسامح الديني الذي أوضحه الكاتب؛ حيث أكَّد عَلَى أن شهادته بنبوغ ومهارة المؤلف شهادة حق وإنصاف رغم اختلاف الملة والدين.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الفاعل المختار، الذي بيده الرفع والخفض، وهو العزيز القهار. أحمده حمدًا يُعْرِب عن صِدْق حُبٍّ، سَلِمَ جَمْعُه من التكسير، وأَشْكُرُهُ شكرًا تُحَرِّكَ عوامِلُه ما سَكَنَ في صميم الضمير. وأصلي وأسلم عَلَى خيار الأنبياء والمرسلين، الذين خفضوا جناهم لمن اتَّبَعَهُمْ من المؤمنين. أمَّا بعد، فإنه لشمول العدالة الخديوية كلَّ حاضِرٍ وبادٍ، وانتشار فضائلها عَلَى كافة العباد، وإشراق الديار المصرية بأنوار العلوم والمعارف، وتعزيزها بالمنافع واللطائف. ففضائلها ظاهرة لا تُنْكَر، وفواضلها الزاهرة أجلُّ من أن تُذْكَر. ولكوني ممن غَمَرَتْهُ هذه المراحم، وشَمِلَتْه تلك المكارم، أحْبَبْتُ أن أقدِّم خدمةً لأبناء وطني المصريين، ولا سيَّما الأمة القبطية، الآخذة بالعناية الخديوية في أسباب التمدين. فوضعت هذه النبذة اللطيفة، والنخبة المختصرة المنيفة، وجَعَلْتُها عن طريق السؤال والجواب، لتسهيل تناوُلِها عَلَى الطلاب، متجنِّبًا فيها التقصير المُخِلَّ، والتطويل المُمِلَّ، مع فوائد جمة وزوائد مهمة، فجاءت بحمد الله في فنِّ النحو واسِطَةَ عِقْدِهِ وخلاصةَ نَقْدِهِ، وسمَّيتها الخلاصة الذهبية في اللغة العربية. وهذا أوان الشروع في المقصود، بعون الملك المعبود، فأقول وعلى الله القبول.
ومما يُلاحظ عَلَى هذه المقدمة — بخلاف إشادة تادرس وهبي باهتمام الخديوي إسماعيل بالمدارس القبطية، وإنعامه عليها ورعايته لها في هذا الوقت — شيوع الأسلوب الإسلامي فيها! فكفى بتادرس وهبي أن بدأ خطبته بالبسملة، ثمَّ استخدم أسماء الله الحسنى (العزيز القهار). كما أن قوله «وأصلي وأسلِّم عَلَى خيار الأنبياء المرسلين»، قول لا ينطبق إلا عَلَى محمد ﷺ، عَلَى الرغم من عدم ذِكْرِ اسمه صراحةً. هذا بالإضافة إلى استخدامه معانيَ بعض الآيات القرآنية، عندما قال: «الذي بيده الرفع والخفض»، وهذا القول مأخوذ من معاني آيات قرآنية كثيرة، منها عَلَى سبيل المثال:
قوله تعالى في الآية رقم ٣٢ من سورة «الزخرف»: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وكذلك الآية رقم ١١ من سورة «المجادلة»: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وأخيرًا الآية رقم ١٦٥ من سورة «الأنعام»: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
(٢) ترجمة عريان بك
[عريان = ٣٣١، مات = ٤٤١، حليف = ١٢٨، العز = ١٠٨، والكرم = ٢٩٧]
ومن الملاحظ أن تادرس وهبي أرَّخ لهذه القصيدة بعام وفاة عريان بك عن طريق حساب الجُمَل، كما هو واضح من الأرقام والتاريخ أسفل الشطرة الأخيرة، علمًا بأن سنة ١٣٠٥ هجرية توافق سنة ١٨٨٨ ميلادية. كما يُلَاحَظ أيضًا استخدامه معاني الآيات القرآنية في قوله:
وهو المعنى المأخوذ من قوله تعالى، في الآيتين السادسة والسابعة من سورة «الفجر»: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. وقد اختتم تادرس وهبي هذا الكتيب أو هذا الرثاء بقصيدة مدْح لباسيلي بك، شقيق عريان بك المترجم له، قال فيها:
ويلاحظ عَلَى هذه القصيدة ختامها «ليس يُفْتَى وفي المدينة مالك»، وهو القول المشهور الذي أصبح مثلًا يُضرب بين الناس. ومالِكٌ هذا هو الإمام مالك صاحب أحد المذاهب الإسلامية الأربعة، ومهما يَكُنْ مِنْ أَمْرِ هذه الملاحظات فإن التساؤل الذي يطرح نفسه: من هو عريان بك هذا؟! وما أهميته التي تصل إلى درجة أن تادرس وهبي يخلده في كتيب مطبوع، علمًا بأن تادرس وهبي لم يطبع رثاءً لأحد آخر، غير الخديوي إسماعيل! فمن هو عريان بك الذي طالت قامته عند تادرس وهبي، كي يساويه برثاء الخديوي إسماعيل؟!
(٣) كتاب في الصرف
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله استأثر كَمَالُهُ بصفات الجلال، وتَعَالَتْ أفعالُهُ عن النقص والإعلال، أَحْمَدُهُ جلَّ في بيداء الجود ثناؤه، وتقدَّست في فضاء الوجود أسماؤه، وأسلِّم عَلَى أنبيائه المُرْسَلِين، أربابِ الدراية الذين امتازوا بسلامة القلوب، ونشروا في العالمين أعلام الهداية ففازوا بأعظم مطلوب. ثمَّ أَبْسُطُ أَكُفَّ الدعاء في محراب الولاء ببقاء الجناب، الذي لهج كل قائل بحديث علاه، وأفاء ظلاله عَلَى كل قائل، وهو القائم بأمر الله عزيز مصر «محمد توفيق باشا»، أطال الله أيامه، وأنفذ في كل ما شاء من المقاصد الخيرية أحكامه، ما جدَّ رُسُل اليراعة في بث العلوم، وتمثَّلت مُثُل البراعة في نث الكلوم. أمَّا بعد، فإن العلم أَرْجَحُ المناصب التي ينافس فيها البعيدُ والقريبُ، وأنجح المآرب التي يَعُضُّ عليها بالنواجذ كلُّ أريب لا يصدر عن موارده إلا كل ذي ذوق سليم ولا يلم بشوارده إلا كل حفيظ عليم، فهو مطمح أنظار العقلاء أُولي الهمم، ومسرح أفكار الفضلاء من الأمم، وإن لهذه اللغة التي أُقِيمَ عَلَى أساس البلاغة بناؤها، واستضاء بنبراس صناعة الصياغة أبناؤها، لخصائص مشهورة ومحاسن موفورة، لا يرفرف عليها إلا كل مأثور الكعب، ولا يحوم حواليها إلا من استسهل الصعب، فلا غرو وأن أصبح بيتها المحجوج لمن استطاع إليه سبيلًا، وخصمها الممجوج ولو جاء بالبيِّنات قبيلًا.
ولطالما جُسْتُ خلال ديارها، واستطلعْتُ الخفيَّ من آثارها، فكنت أودُّ لو أن بعض الجهابذة من الأساتذة، يلتقط من هذه الفنون الدر المختار، ويستنبط السر المصون من ضمير الاستتار، حتى بعث الله من ناظر المعارف أميرًا عليًّا، أقبل عليها إقبال العارف بشئونها مليًّا، فأساغ بيد الإحسان من غصَّتها، وجلا خرَّدها الحسان عَلَى منصَّتها، فأفعمت غرائبها النادرة وعاء كل خاطب، بعد أن كانت صفقتها الخاسرة، لا شهدها حاطب. ولقد أماطت المدارس القبطية حجب الالتباس، وسارت في كل حملية وشرطية عَلَى هذا القياس، مرموقة بأنظار السند الأكرم الصادع بمأثور اليقين جيد المراء، والبطريرك المعظم الذي لا يحيط بفضله المبين لسان إطراء.
ولما كان من العادة التي تتأيد بها السعادة، أنَّ مَنْ حذا حذو الألباء، ونسج في تأليفه عَلَى منوال الأدباء، أهداه لبعض ذوي المآثر المأثورة، والمفاخر المذكورة المشكورة، ممن يُقَدِّر المؤلف وما فيه، ويستطلع بقريحته النقادة وفكرته الوقادة طَلْع خَافِيه. وكان الأمير الأصيل، رب المجد الأثيل، صاحب الدولة «عباس بك» ولي عهد مسند الخديوية الشريف، وحامي حمى مصر المنيف، خير من اقتعد في هذا الوقت الحالي، سنام كل غاية، وتلقى عن والده الكريم حديث المعالي، دراية ورواية، تعيَّن عليَّ تقديم هذا الكتاب إليه، وأن أتشرف بعرضه عليه، حتى يفوز بلثم أعتابه، ويكون رسمه بعنوان جنابه، أدام الله إجلاله وكلأ كماله، إنه عَلَى ما يشاء قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.
وآخر ما يُلاحَظ عَلَى هذه المقدمة، استمرار تادرس وهبي في الحفاظ عَلَى أسلوبه، المعتمد عَلَى الاقتباس من معاني الآيات القرآنية، كقوله: «استأثر كماله بصفات الجلال»، وهو معنى مأخوذ من قوله تعالى، في الآية رقم ٢٧ من سورة «الرحمن»: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وأيضًا قوله: «أصبح بيتها المحجوج لمن استطاع إليه سبيلًا»، مأخوذًا من معنى الآية رقم ٩٧ من سورة «آل عمران»: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. وكذلك قوله: «أشرح صدر الصدور»، فمأخوذ من الآية رقم ٢٥ من سورة «طه»: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وأخيرًا قوله: «إنه عَلَى ما يشاء قدير»، فمأخوذ من آيات كثيرة وردت في القرآن، منها عَلَى سبيل المثال الآية رقم ١٨٩ من سورة «آل عمران»: وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وبعد مقدمة الكتاب، كتب المؤلف مقدِّمة علمية عن بيان علوم الأدب، حيث قسَّم هذه العلوم إلى أصول وفروع. فمن الأصول ما يُبْحَث فيه عن المفردات مطلقًا، وهو ثلاثة أنواع؛ الأول اللغة، وهو علم يُبْحَث فيه عن مفردات الألفاظ الموضوعة من حيث دلالتها عَلَى المعاني، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في حقائق الموضوعات اللغوية، والتمييز بينها وبين المجازات والمنقولات العرفية. وحُكْمُه أنه من فروض الكفايات، حيث قال بعض الحكماء: اللغة أركان الأدب والشعر ديوان العرب، ولولا اللغة ذهبت الآداب، ولولا الشعر بطلت الأحساب.
والنوع الثاني كان الصرف، وهو علم يُبْحَثُ فيه عن صور الألفاظ وهيئاتها، وموضوعه الأفعال المتصرفة والأسماء المتمكِّنة. والنوع الأخير كان الاشتقاق، وهو علم يُبْحَث فيه عن انتساب الألفاظ بعضها إلى بعض من حيث الأصالة والفرعية، وأقسامه ثلاثة؛ صغير وكبير وأكبر. ومن الأصول ما يُبْحَث فيه عن المُرَكَّبات وهو خمسة أشياء؛ الأول: النحو، وهو علم يُبْحَث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبناءً. والثاني: المعاني، وهو علم يُبْحَثُ فيه عن أحوال اللفظ العربي التي يكون بها الكلام مُطابقًا لمقتضى الحال … إلخ هذه المقدمة العلمية.
بعد ذلك تبدأ فصول الكتاب، ومنها: ميزان الأفعال المجرَّدة، في مزيدات الأفعال، في أحكام اسمي الفاعل والمفعول والصفة والمشبَّهة، في أحكام المنقوص والممدود والمقصور من جمع المذكر السالم، في أحكام التصغير، أحكام النسب … إلخ موضوعات علم الصرف المعروفة. وكان المؤلِّف يصنع تمرينًا مدرسيًّا للطلاب في نهاية كل فصل، كتدريب عملي عَلَى الموضوع أو كواجبات منزلية. وفي نهاية موضوعات الكتاب، أَدْرَجَ المؤلف قاموسًا لغويًّا لمعنى جميع الكلمات المستخدمة في الكتاب، عَلَى نسق المعاجم المدرسية المُبَسَّطة. وقد سار في ترتيب الكلمات عَلَى نهج القاموس المحيط للفيروزبادي. وكمثال عَلَى الكلمات الواردة في هذا القاموس، قوله: «حرب». الحرباء دويبة تستقبل الشمس، وتدور معها حيث دارت، وبها يُضْرَب المثل في التلوُّن. «شعث». الشعث محركة انتشار الأمر، والأشعث اسم رجل ومنه الأشاعثة، والهاء للنسب … إلخ.
وقبيل نهاية الكتاب، وجدْنا كلمة تقريظ للكتاب ولصاحبه، كتبها محمد الحسيني مُصحح العلوم بدار الطباعة العامرة ببولاق مصر القاهرة. قال فيها: يا من صَرَفَ نفوس الأذكياء إلى انتهاج مناهج الأدباء، فسلكوا بمجموع لفيفهم من ذلك أَقْوَمَ سبيل، وتصرَّفوا في فنون البلاغة بصحيح أفعالهم، ونافذ مفعولهم وأفكارهم؛ حتى أقاموا عَلَى براعة العربية أصحَّ دليل، وروَّحوا أرواحهم في رياض الأدب، بمعتلِّ نسيمها فبلغوا منتهى الأرب، وانتهلوا من منهلها العذب السلسبيل، فسبحانه من إله خصَّ من شاء بما شاء، فجعل الأدب مملكة دولتها اللطفاء والظرفاء، وحماتها مصاقع البلغاء وفرسان الفصحاء وأسود النبلاء. نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونصلِّي ونسلِّم عَلَى صفوته من خليقته وخلاصته من بريته.
أمَّا بعد … فلما كان علم الصرف محله من العربية محل الروح من الجسد، والضياء من العين، أعمل الفضلاء في تحصيله اليعملات، وأسهروا في تدوينه العين، فوطَّدوا قواعده وقيَّدوا شوارِدَه، وأصفوا موارِدَه، وأرووا صادِرَه ووارِدَه، فجاراهم في طريقهم، واندرج في عدد فريقهم، ظريف هذا الزمان، ونابغة هذا الآنِ، الذكي اللبيب، والجهبذ الأريب، ذو الفكر الثاقب واللب المتين، حضرة وهبي بك ناظر المدرسة بحارة السقائين، فصنَّف هذه الفكاهة الشهية، ومثَّل هذه النصة البهية، وحلَّاها بكل درَّة دريَّة، وجلاها في الحلة العبقرية، فبرزت تثيبه بحسن مثالها عَلَى أمثالها، وخَطَرَتْ تُعْجَبُ بلُطْف شَكْلها عَلَى أشكالها، وشرع مؤلفها في طَبْعها بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المعزية، فانتهت بحمد الله عَلَى هذا السمت الحَسَنِ، تلعب بلب عاشقها فتمنعه الوسن، في ظل الحضرة الفخيمة الخديوية، وعهد الطلعة المهيبة البهية التوفيقية، حضرة من أفاض عَلَى رعيته غيوث الإنعام، وشملهم بنظر الرأفة والإكرام، العزيز الأكرم، والداوري الأفخم، الملحوظ بعين عناية مولانا العظيم العلي، أفندينا محمد توفيق بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي، لا زالت الأيام منيرة بشمس علاه، والليالي مضيئة ببدر حلاه، ولا برح هنيَّ البال بأشباله الكرام، فرح الفؤاد بأنجاله الفخام، مدى الليالي والأيام، ملحوظًا هذا الطبع الجليل، والشكل الجميل، بنظر مَنْ عليه حُسْن أخلاقه، يثني حضرة وكيل الأشغال الأدبية بهذه المطبعة محمد بيك حسني.
وكان تمام طبعه وانجلاء بدره وكمال ينعه وابتسام زهره، في أواخر شهر الله المحرم الحرام عام سبعة بعد ثلاثمائة وألف من هجرة سيد الأنام عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم السلام، ما لا بدر تمام وفاح مسك ختام.
واختُتِمَ الكتاب بكلمة تقريظ ومدح أخرى، انتهت بأبيات مؤرخة لطباعة الكتاب، جاء فيها: ولما تمَّ طَبْعه، وحَسُنَ وَضْعه، أرَّخه الأستاذ العلامة اللغوي المشهور، رب الفضل المأثور، الشيخ طه محمود، أحد المصححين بالمطبعة الأميرية، التي هي بكل مدح حَرِيَّة، حيث قال — وأجاد في المقال: بسم الله الرحمن الرحيم. نحمدك الله حَمْد من صَرَفْتَ جوارحهم في صحيح الأفعال، وصَرَفْتَ جوانحهم عن أبنية النقص والاعتلال، فَلَمَّ جَمْعَهُمْ أن يُكْسَر، والْتَحَقَ مصغرهم بالمكبر. ونصلي ونسلم على السادة الصفوة، أولي المكانة والحظوة، من سَهِرَتْ لخشيتك أجفانُهُم، ومُلِئَتْ من الثقة بك أجفانهم.
أما بعد … فإن «مرآة الظرف في فن الصرف» مؤلَّفُ مَنْ أَصْبَحَ خدنًا للغة العرب، وإلفًا لفنون الأدب، حضرة الأستاذ وهبي بك مدرس اللغة المذكورة بمدرسة حارة السقائين المشهورة، كتابٌ سَلَكَ به مؤلِّفُه في هذا الفن المسلكَ الحسن، وتلطَّفت فيه ما شاء، أرأيت تلطف الوسن، يبلغ به الصرفي منتهى أَرَبِهِ، ويتمتع منه الأديب بحسن أدبه، فلله أي منهج نهجه، وأي كتاب له بَيْن كُتُب الصرف أرفع درجة، فما أحوج الطلاب إليه، وما أولاه بأن يعوَّل عليه، فهو لعمري حسنة من حسنات الدهر، ومحاسن هذا العصر، وأقوى دليل واضح عَلَى ما للمصريين من السعي الناجح، والعقل الراجح، وأنهم من الفضل والأدب في ثروة، ومن سلسلة المجد في الذروة، وأن من سوَّى بهم غيرهم لم يقدِّرهم قدرهم، ففي هذا الكتاب، فليتنافس أولو الألباب، وليغتنموا حصته، ولينتهزوا فرصته، وليبادروا إلى خيره العاجل، وليسمعوا قول القائل:
(٤) خطبة في رثاء الخديوي إسماعيل
في عام ١٨٩٥ مات الخديوي إسماعيل في منفاه بإيطاليا، ومن ثَمَّ حُمِل جثمانه ليدفن في القاهرة، فأقيمت له جنازة مهيبة يوم الاثنين الموافق ١١ / ٣ / ١٨٩٥. وبهذه المناسبة ألقى تادرس وهبي خطبة بليغة في رثائه، ومن ثمَّ نَشَرَها في نوفمبر ١٨٩٥ في كتيب صغير من ثماني صفحات، بعنوان «الأثر الجميل في رثاء جنتمكان أفندينا إسماعيل». وقد جاء عَلَى غلاف هذا الكُتيِّب الآتي: «من منشآت حضرة وهبي بك ناظر المدرسة القبطية»! وهذا يعني أن تادرس وهبي، تَرَكَ نظارة مدرسة حارة السقائين، وأصبح ناظرًا للمدارس القبطية، أي مشرِفًا عامًّا عليها! وهذا من أكبر المناصب التعليمية في ذلك الوقت. والغريب في الأمر أن هذا المنصب عَلَى أهميته الكبرى، لم يُذكر مطلقًا في أي مرجع من المراجع التي تتحدث عن تادرس وهبي!
وعلى اعتبار أن هذا الكتيب يحمل خطبة كاملة من خُطَب تادرس وهبي، حيث إنه كان خطيبًا مفوَّهًا — كما سنرى فيما بعد — بالإضافة إلى أن ديوان شعره وخطبه مفقود، سواء كان مطبوعًا أو مخطوطًا؛ لذلك لَزِمَ علينا ذِكْر هذه الخطبة بصورة كاملة، حيث إنها الخطبة الكاملة الوحيدة التي حَصَلْنا عليها، وفيها يقول الخطيب تادرس وهبي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، رَسَمَ في صحائف الأقدار لكل حيٍّ أجلًا، وبعث من محبي الخير لهذه الأقطار في كل عصرٍ رجلًا، فسبحانه قدَّر الجزاء عَلَى الإحسان تفصيلًا وجملًا، وبشَّر وأنذر كل إنسان ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا. إنا لله وإنا إليه راجعون. أحمده حمدًا يستدعي دوام المزيد، عداء الصروف، وأسلِّم عَلَى كلِّ رسولٍ كريم، بسط لواء الأمر بالمعروف، تسليم من لَاذَ بأعطاف التسليم، إذعانًا لمقتضيات الظروف، فعلم أن المُلْك لله وما قدَّر يكون.
أمَّا بعد … فإن القضاء المحتوم لا بُد من نفاذه عَلَى أي حال، ولكل إنسان أجل معلوم يؤدي إلى الارتحال، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ودوام الحال مُحال، ولله عاقبة الأمور، وهو شديد المِحال، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسْأَلون. فيا مصعِّرًا للناس خَدَّ علاه، بكرة وعشيًّا، إنما الفضل لمن أطاع مولاه، ولو كان عبدًا حبشيًّا، أفتذهب بحمامة الفؤاد، عَلَى نار الأوزار شيًّا، وقد ساء مَثَلُ الذين في كل وادٍ يهيمون. أمَا علمت أنك ستذوق من حياض الحمام صديدًا حميمًا، ويتخلَّف عنك كل حمام ولو كان صديقًا حميمًا، ثمَّ تتنبأ يوم القيامة بما صبغت به أديمًا، وتندم ولات حين ندامة، عَلَى ما قدَّمَتْ يداك قديمًا، وإنك ما فرَّطت في جنب الله لمغبون، فلا تستورِ زِنْدَ الاستئثار، بحب الذات واللذَّات، فتكون نموذجًا لذوي الاستبصار، في ملافاة ما فات، وأَحْسِنْ إذا ساعَدَكَ الجد، إن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات، واعلم أن مَنْ جَدَّ وجد، وكل ما هو آتٍ آتٍ، وإن لنا الأسوة بالسلف الصالح، وهم السابقون الأولون.
فيا من اختطَّ في مزاولة الأحكام خُطَّةَ أريب، قلَّ أن يضارعه في ضروب الأحكام ضريب، ويا من فارَقَتْ روحُه عالَمَ الأحياء في البلد الغريب، فاستمطر عليه شئون العلياء كل بعيد وقريب، بعد أن استحالت الحال وبُدِّلت الشئون. لقد أفحمت أمراء الكلام، عن الإلمام بما لك من آثار العمار، فكُنْتَ والحالة هذه حجة الإسلام، عَلَى كلِّ ممار في هذا المضمار، فما الذي يحتمله مقام الإسناد، من جلائل الأفكار ومآثرك المذكورة في كل نادٍ، لا يشوبها جحود ولا إنكار، وهذه جواري أفضالك المنشآت في بحار العلوم والفنون. فرحم الله جدك، استنبطْتَ ما كان كامنًا في صدر كل عاقل حيٍّ، حتى صارت مصر حرمًا آمنًا، يجبى إليه ثمرات كل شي، ففجرت الأرض عيونًا، حامت عليها حمائم الري، وملأت بأنوار الفضل عيونًا، كانت تغشاها ظلمات الغي، وإن لك يا مولاي لأجرًا غير ممنون.
ولقد راعيت جانب الاقتضاء، مستبقًا في كل ميدان، فكانت لك اليد البيضاء، في استقصاء ما وراء السودان، ولكان عنايتك بكل مفيد، مما لا يحتاج إلى بيان، وَصَلْتَ بحر القلزم ببحر سفيد، بعد أن كان بينهما برزخٌ لا يبغيان، وطال الفصال اتصالهما في الدول السابقة تمخَّضت القرون، ولقد جعلت المشورة قاعدة لسائر أعمالك، بدون استثناء، مستعينًا بالله في قضاء آمالك، بما يستوجب مزيد الثناء. ثمَّ تذرَّعت بأحسن ذريعة، فيما يمحو آثار اختلاف الأهواء، وشرعت للمحاكم المختلطة شريعة، سارت بالكل عَلَى خط الاستواء، بعد أن كانت تُسْتَحَلُّ بمصر حرمات القانون. ثمَّ حَذَوْتَ حَذْوَ جدك الفخيم في كل أمرٍ ذي بال، وبلغت مقامَ إبراهيم بما لم يخطر عَلَى بالٍ، فأيَّدت مقام الخلافة في مواطن الحروب، والحرب سجال، ودفعت عنها غوائل الكروب، بالمال والرجال، وكل ألف من جنودك بمائة ألف أو يزيدون، ومما يؤثر في تاريخ عليائك، أنك استصدرت خير رقيم، شددت به عضد أوليائك، من كل بادٍ ومقيم، ثمَّ بذلت غاية جهدك، في الاستئثار بالمُلْك والملك عقيم، وجعلت في أكبر أبنائك ولاية عهدك، عَلَى عمود النسب المستقيم.
وقد أصبَحَتْ سدتك كعبة لذوي الحاجات، وهم من كل حدبٍ ينسلون، ولم تَزَلْ قدوة لأولي الهمم القعساء، في اجتلاء كنوز المطالب، حتى ساء القدر وأساء، ولكل قضاء جالب، فتغاضَيْتَ جهد الإمكان، عن جناية الحظ السالب، فكان ما كان، وإن أمر الله غالب. وقد تضاربت الأفكار وتخالفت الظنون، فلله درك حَفِظْتَ علاقة هذه الديار كما تروم، بالخلفاء من بني عثمان، وسرت في بحر الروم، ميمِّمًا بلاد الرومان. ثمَّ استدعاك صاحب الإمامة الكبرى، بعد حين من الزمان، فاحتملْتَ عَلَى مرِّ الحوادث صبرًا، حتى حيل بين الروح والجثمان، ولم يدفع عنك المنون مالٌ ولا بنون. كيف لا وقد دبَّت إلى فؤادك السليم عقارب الداء من سائر الأعضاء، وأصبح جسمك السليم يتقلب عَلَى أحرَّ من الرمضاء، ثمَّ أَنْفَذَتْ فيك الأقدار، أحكامَ القضاء، ولم يُغْنِ إنك من ذوي الأقدار، بعد أن وقعت الواقعة وحمَّ القضاء، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ثمَّ جئت من الآستانة عَلَى قَدَر، وقد احتدم أوارُ الغليل، وصار ماء اليمِّ مشوبًا بكدر، وإن كان النسيم غير عليل، ووجد عليك الأقربون والبعداء، من بيت إسماعيل، وتمنَّوْا لو تأتي الفداء، والصبر عليل، وقد شاب الكدر عَلَى فَقْدك الصفا والحجون، فلا كان هذا الرزء الجليل، اتَّخَذَ سويداء المكارم غرضًا، ولم يَذَرْ لك سوى الأثر الجميل، جوهرًا ولا عرضًا، ولقد كان الاحتفاء بجنازتك من عظائم الأمور، واجبًا مفترضًا، ثمَّ أصبحْتَ من سكان القبور، بالرغم لا بالرضا، ولمثل هذا يا مولاي فليعمل العاملون، أَحْسَنَ الله عزاء المعالي، عَلَى احتسائك كأس الردى.
وأدام الجناب العالي (أفندينا عباس حلمي باشا)، علمًا مفردًا، ولا برح لآل جدِّه المشهور ملجأً وسندًا، وحسام جدِّه المشهور في ما يشاء مهنَّدًا، قائمًا فِينَا، بأمر الله في كل مفروض ومسنون، آمين.
طُبِعتْ في أواسط جمادى الثاني سنة ١٣١٣ هجرية.
ويلاحَظ عَلَى هذه الخطبة، أنها لم تكن رثاءً للخديوي إسماعيل فقط، بل كانت تأريخًا لحياته وأهم إنجازاته. فعلى سبيل المثال نجد الإشارة إلى أن وفاته كانت خارج مصر، وبالأخص في الآستانة، ومن ثَمَّ نُقِل منها إلى مصر كي يُدْفَنَ فيها. ثمَّ نجد الإشارة إلى قيامه بتطوير مصر من حيث العمارة والعلوم والفنون. وهذه الإشارة تُذَكِّرنا بما قام الخديوي إسماعيل من إنشاء المباني والميادين والمناطق السكنية الحديثة، ولا سيَّما منطقة الأزبكية. أمَّا في مجال العلوم، فكفى أنه انشأ مجموعة كبيرة من المدارس، منها: التجهيزية، والمبتديان، وأركان الحرب، والطب البيطري، ومدرسة الأنجال. وفي مجال الفنون أنشأ: الأنتقخانة ببولاق، ودار الكتب المصرية، ومسرح الكوميدي فرانسيز، والسيرك، والأوبرا الخديوية.
ولعدم مناسبة الموقف الحزين للخوض في أسباب تخلي الفقيد عن حكمه، نجد تادرس وهبي يُحيل الأمر عَلَى الحظ العاثر وقسوة القدر، الذي جعل الخديوي إسماعيل يتنازل عن الحكم لصالح ابنه الأكبر الخديوي توفيق، ومن ثمَّ نفيه إلى نابولي وتنقله منها إلى الآستانة … إلخ هذه الأمور. ثمَّ نجده في النهاية يصف مشهد الجنازة المهيب، ويستخلص منها ومن حياة الخديوي العِبَر والمواعظ، التي تتناسب مع مقام الخطبة.
كما يُلاحَظ عَلَى هذه الخطبة، تقدُّم تادرس وهبي في استخدامه للأسلوب القرآني الصريح. فبعد أن كان يستخدِم معانيَ بعض الآيات القرآنية، أصبح في هذه الخطبة يستخدم بعض الجمل الصريحة من الآيات، بل ويستخدم آيات كاملة من القرآن الكريم. فعلى سبيل المثال، قوله: «ليبلوكم أيكم أحسن عملًا»، مأخوذ من الآية السابعة في سورة «هود»: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وأيضًا من الآية الثانية في سورة «المُلْك»: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. أمَّا قوله: «إنَّا لله وإنا إليه راجعون»، فمأخوذ من الآية رقم ١٥٦ من سورة «البقرة»: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وقوله: «وما الحياة الدنيا إلى متاع الغرور»، مأخوذ من الآية رقم ١٨٥ من سورة «آل عمران»: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. وقوله: «ولله عاقبة الأمور»، مأخوذ من الآية رقم ٤١ من سورة «الحج»: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ. وقوله: «لا يُسْأَل عما يفعل وهم يُسْأَلُون»، هو نفسه الآية رقم ٢٣ من سورة «الأنبياء»: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وقوله: «بكرة وعشيًّا»، مأخوذ من الآية الحادية عشرة من سورة «مريم»: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وكذلك من الآية رقم ٦٢ من السورة نفسها: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وقوله: «وقد ساء مثل الذين في كل وادٍ يهيمون»، مأخوذ من الآية رقم ٢٢٥ من سورة «الشعراء»: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وقوله: «إن الحسنات يذهبن السيئات»، مأخوذ من الآية رقم ١١٤ من سورة «هود»: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. وقوله: «ففجرت الأرض عيونًا»، مأخوذ من الآية الثانية عشرة من سورة «القمر»: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وقوله: «بعد أن كان بينهما برزخ لا يبغيان»، مأخوذ من الآية رقم عشرين من سورة «الرحمن»: بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ. وقوله: «وكل ألف من جنودك بمائة ألف أو يزيدون»، مأخوذ من الآية رقم ١٤٧ من سورة «الصافات»: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. وقوله: «وهم من كل حدب ينسلون»، مأخوذ من الآية ٩٦ من سورة «الأنبياء»: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.
وقوله: «ولم يدفع عنك المنون مالٌ ولا بنون»، مأخوذ من الآية رقم ٨٨ من سورة «الشعراء»: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وقوله: «بعد أن وقعت الواقعة»، مأخوذ من الآية الأولى من سورة «الواقعة»: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وأيضا الآية رقم ١٥ من سورة الحاقة: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وقوله: «إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون»، مأخوذ من آيات كثيرة، ومنها الآية الثانية عشرة من سورة «النحل»: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وقوله: «ولمثل هذا يا مولاي فليعملِ العاملون»، فمأخوذ من الآية رقم ٦١ من سورة «الصافات»: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ.
ولم يَكْتَفِ تادرس وهبي باستخدام الآيات القرآنية في هذه الخطبة، بل استخدم أيضًا الأحاديث النبوية الشريفة باللفظ أو بالمعنى. فعلى سبيل المثال قوله: «إنما الفضل لمن أطاع مولاه، ولو كان عبدًا حبشيًّا»، مأخوذ من الحديث الشريف: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم يرى بعدي اختلافًا كثيرًا. فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضُّوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة». هذا بالإضافة إلى تطعيم خطبته بكثيرٍ من الحِكَمِ والأقوال المأثورة، مثل قوله: «من جدَّ وجد، وكل ما هو آتٍ أتٍ».
(٥) تاريخ بطرس الأكبر
وفي الباب الأول من الكتاب، تحدَّث المؤلف من خلال فصوله عن حالة العمران بمصر منذ عهد مينيس إلى العصر الحديث، حيث تجوَّل في تاريخ مصر القديم قبل الإسلام، حتى وَصَلَ إلى عهد محمد علي باشا وأسرته. ثمَّ خصَّص الفصل الرابع من هذا الباب للحديث عن فن التمثيل — وسيكون لنا وقْفة مع هذا الفصل لاحقًا — أمَّا الباب الثاني، فقد خصَّصه المؤلف للحديث عن ملخَّص تاريخ بطرس الأكبر، من خلال الحديث عن حالة بلاد الروس قديمًا، ومبايعة بطرس الأكبر بالمُلْك، وما قامت به شقيقته صوفيا من الفتن والدسائس، وتأسيس مدينة بطرسبورج مع نشر المعارف والعلوم، وزواج بطرس من كاترين، ثمَّ الحديث عن الخلاف بين بطرس وولده ألكسيس، الذي وصل إلى حد إعدام إلكسيس، ومن ثمَّ وفاة بطرس الأكبر.
أمَّا الباب الثالث والأخير، فقد خصَّصه المؤلف لنص مسرحيته «بطرس الأكبر»، أو كما أطلق عليها «في محاكمة ألكسيس». وهذه المسرحية قسَّمها إلى خمس مقامات ذي عناوين محدَّدة، وكل مقامة تتكون من فصلين من الفصول المعنوَنة. وحوارها يتنوع بين النثر المسجوع ذي الصنعة اللفظية، وبين الشعر الغنائي ذي المذاهب والأدوار الموسيقية. والمسرحية عبارة عن وضع القصة التاريخية المذكورة في الباب الثاني في قالب تمثيلي مع تضمينها الآيات القرآنية بالألفاظ والمعاني.
سبحانك اللهم وبحمدك، نحمدك حَمْد من خضعوا لباهر سلطانك وعظيم مجدك، ونشكرك يا من وَهَبَ الإنسان، بالقلب واللسان، أفضل ما وهب، شكرًا ننتظم به في سلك من أحسنوا في خدمة مولاهم الأدب، وقاموا بما وجب، حتى فازوا بالأرب، وحازوا رفيع الرتب. ونسألك أن تشغل بما يُرْضِيكَ منَّا القلوب والألسنة، وأن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أَحْسَنَه. وأن تصلي وتسلِّم عَلَى من جَعَلْتَ له من محاسن الأخلاق أعوانًا وأنصارًا، وأعطيته جوامع الكلم واختصرت له الكلام اختصارًا، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين، ومن كانوا بهديهم مهتدين، وعلى آثارهم مقتدين. أمَّا بعد … فلما كان لعلم التاريخ ورواية أخبار الأولين من الفضل المبين، والنفع المتين، ما يقتضي تقدُّمه في الصف الأول من العلوم النافعة، وكونه عضوًا رئيسًا عاملًا في مصالح الدين والدنيا، لا سيَّما في نَظَرِ من حَسُنَتْ آدابهم، وقَوِيَتْ بحسن التربية من الكمالات أسبابُهم. فإن العاقل إذا مارس التاريخ، وتصفَّحَ أخبار الأوائل؛ لم يعدم واعظًا يوعظه، ومؤدِّبًا يؤدِّبه ويوقظه، ومرشِدًا يبصِّره بالمحاسن فيرغب فيها، وبالمساوئ فينبذها وينفيها، ومسليًا ومثبِّتًا للفؤاد المحزون، الذي خامَرَتْه الهموم وساوَرَتْه الشجون. كما قال الله لنبيه ﷺ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا. انبعثت همة حضرة صاحب العزة وهبي بك ناظر المدارس القبطية، إلى تدوين سيرة الملك الهُمام مشيِّد الدولة الروسية، بطرس الأكبر، واقتصاص ما جرى له مع ولده ألكسيس، الذي جفا أباه وخانه وعقَّه، ونكث عهده، ونبذ ودَّه، وجحد حقَّه، وجرى مع هواه وشيطانه، في عنان بغيه وعدوانه، فأمكن الله منه أباه وأوقعه القضاء في سوء الجزاء بما كسبت يداه، وذلك مصداق ما يُؤْثَر عن العرب من حكمهم الباهرة وأمثالهم السائرة «من حفر مغواة أوشك أن يقع فيها.»
تصدَّى ذو الفضائل الوهبية لهذه الرواية التاريخية، فأفرغها في أحسن القوالب، وسلك بها من طُرق التمثيل أَحْسَنَ المذاهب. وأهداها إلى الأدباء في أفصح اللغات، لسانًا ولسنًا، وصاغها صوغًا بديعًا وحَسَنًا، وحلَّاها بأبيات عَلَى غيره أبيات، قد ملأها برقائق الحِكَم والعظات. وبالجملة فقد تلطَّف (حفظه الله) في هذه الرواية ما شاء، فسبحان من أَقْدَرَهُ عَلَى مثل هذا الإنشاء، حتى أصبحَتْ تجرُّ ذيل إعجابها، عَلَى صواحبها وأصحابها، عَلَى أنها ليست بالغريب عَلَى مثله، العزيز عَلَى فَضْله ونُبْلِه. بل هي سهل عليه يسير، في جنب ما عُرِفَ به من الفضل الكثير، والأدب الغزير. قام بها خدمةً لوطنه تكسبه الأجر، وتخلِّد له طِيبَ الأحدوثة وجميلَ الذكر، وتطول. فأجرى طبعها عَلَى نفقته بالمطبعة الأميرية، في عهد الدولة الفخيمة الخديوية العباسية، مدَّ الله ظلالها، وأَلْهَمَ العدل والإصلاح رجالها. وفرغ من طبعها في أوائل جمادى الثانية عام ١٣٢٣ من هجرة مَنْ هو للأنبياء خِتَام، عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام.