ريادة المسرح في مصر
وإذا عُدْنَا مرة أخرى إلى ما كَتَبَهُ تادرس وهبي في فَصْله عن التمثيل بكتابه «الأثر النفيس»؛ سنجده تحدَّث عن نشأة التمثيل عالميًّا. وعندما تحدَّث عن هذه النشأة في مصر قال: ولما رأى الخديوي إسماعيل أن البلاد في حاجة إلى استكمال ما تناقَصَ من وسائل العمار شيئًا فشيئًا، لا سيَّما بعد أن مرج البحرين يلتقيان، بحر الروم والبحر الأحمر، وأصبحت مصر — كما نُقِلَ عن لسانه — قطعةً من أوروبا، أنشأ مرسح «الأوبرا»، وجعل فاتحة العمل فيه رواية «عائدة»، وأنعم عَلَى الأستاذ يوسف فردي يومئذٍ بمبلغ طائل من المال ليجزيه أَجْرَ ما وقَّع أدوارها عَلَى أنغام الموسيقى. ولمكان عناية الخديوي المذكور بأرباب المعارف انصرفت نحوه وجوه الغرباء لما كان يخصهم به من الإيثار، وفي جملتهم جماعة من فضلاء الشام، ذوو إلمام بفن التمثيل، تلقَّوْه إما مباشرةً وإما بالواسطة عن المغفور له المعلم مارون النقاش، الذي نَبَغَ بجبل لبنان في أوائل القرن التاسع عشر، وأولاهم بحُسْن الأحدوثة الفاضلان سليم أفندي النقاش وأديب بيك إسحاق مثلًا بمصر والإسكندرية ما كانت تسمح لهما به ظروف ذلك الزمان، وجاء عَلَى أثرهما أديب زمانه عبد الله أفندي نديم، فمثَّل بالإسكندرية رواية عنوانها الوطن.
ونفهم من هذا الكلام، أن تادرس وهبي عاصَرَ هذه الأحداث، وربما شاهَدَهَا بنفسه، عَلَى اعتبار أنه من كُتَّاب المسرح. فقد تحدَّث عن افتتاح الأوبرا بمناسبة افتتاح قناة السويس، وعن تمثيل أوبرا عائدة، وسخاء الخديوي إسماعيل عَلَى ملحِّنها الموسيقار فردي. ثمَّ تحدَّث عن الرائد المسرحي العربي الأول مارون النقاش، ثمَّ تحدَّث عن أول من أنشأ مسرحًا عربيًّا في مصر وهو سليم النقاش بمساعدة أديب إسحاق، وهما من الشوام، ثمَّ تحدَّث أخيرًا عن عبد الله النديم كمسرحي مصري. وهنا يظهر السؤال المهم … أين يعقوب صنوع من هذا كله؟!
(١) الكتاب المنشور
لم يَبْقَ أمامنا إلا الحديث عن كتاب «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصدِّيق»، المنشور في هذا الكتاب، والمشتمل عَلَى مسرحية «يوسف الصديق»، وهو كتاب نُشِر عام ١٨٨٥، وتمَّ طَبْعُه في المطبعة الإعلامية، وبعض الملازم طُبِعَتْ في مطبعة مرآة الشرق المصرية. وأول ملاحظة لنا عَلَى هذا الكتاب، أن تادرس وهبي نَشَرَهُ بعد الحصول عَلَى ترخيص خاص من قلم المطبوعات بنظارة الداخلية، تبعًا للعبارة الموجودة عَلَى الغلاف!
والحقيقة أن حديثه عن قضية تحريم التمثيل دينيًّا، كان حديثًا يتَّسم بالذكاء والفطنة والتنوير أيضًا، حيث لم يقطع بتحريمه، وكذلك لم يقطع بجوازه إلا بشروط معيَّنة! ولأن هذه القضية خطيرة، وأن حديثه عنها — بما له من ثقل أدبي ومكانة اجتماعية مرموقة — سيُحْسَبُ له أو عليه! نجده يبدأ الحديث بأن هناك اتصال بين العلوم والفنون، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر من الناحية الاجتماعية. ثمَّ يضرب مثلًا بعلم التاريخ — الذي استحسنَتْه جميع الأديان، وخصوصًا الدين الإسلامي — هو العلم الذي أَنْتَجَ لنا فرعًا منه مجهول النسب، وهو فن التمثيل والتشخيص! والمقصود بمجهول النسب، أن التمثيل ليس من الأصول العربية أو الإسلامية، التي أَنْتَجَتْ أو استحسنتْ علم التاريخ! أي إنه اعتبر أن المسرحية التاريخية — عَلَى اعتبار مسرحية «يوسف الصديق» مسرحية تاريخية — فرعًا من علم التاريخ!
وبعد أن وضع هذا المعنى، الذي يُجيز فن المسرحية التاريخية دينيًّا، عَلَى اعتبار أنه فن ناتج من علم التاريخ المستحسن دينيًّا، نجده يقول: «إلا أن هذا الفن المستحسن لا يمكن لنا الحكم له أو عليه، وأن نسبة التحريم أو الجواز تصل إليه، إلا إذا عرضناه بذاته وصفاته عَلَى حُكْم الشرع، الذي قَبِلَ الأصل ولم يَنُصَّ عَلَى قبول الفرع!» وهنا يَتَنَصَّل علي فهمي من كلامه السابق بلباقة وحنكة! فقد خشي أن يُفْهَمَ كلامه عَلَى أنه فتوى يفتيها في جواز التمثيل شرعًا؛ لذلك يُحيل هذا الأمر إلى المفتي أو إلى الحاكم الشرعي؛ لأن التمثيل يَحْتَمل الوجهين؛ الجواز أو التحريم، ولكنه يساند الجواز عَلَى التحريم، بدليل قوله: إن الإسلام أصَّل هذا الفن، وهو علم التاريخ، ولكنه لم يَنُصَّ عَلَى قبول الفرع وهو فن التمثيل!
وبعد أن أوضح أنَّ حلَّ هذه القضية في يد الحاكم الشرعي أو المفتي، نَجِدُه يدلي برأيه الخاص في هذه القضية، فيُظهر استحسانه لهذا الفن الذي يُطهِّر الأخلاق ويتوافق في موضوعاته مع قواعد الدين الإسلامي. أمَّا سلبياته التي لا تليق بالإنسانية — ويُطْلِق عليها اسم المدنية — فهي مرفوضة ومن الممكن إزالتها والتغلب عليها. ولو حدث هذا فإن هذا الفن بمدلوله الأصلي إن خلا من عوارض تَشِينُه، وتحلَّى بمباحات تَزِينُهُ، وتَقَلَّدَ بعلو هِمَّة، وتجرد عن انتهاك حُرْمَة، ولم يكن آلة موصولة للنفوس الدنية إلى ارتكاب ما لا يليق بالإنسانية؛ فهو الواجب سياسةً والجائز شرعًا، والمباح عادةً والمحلل طبعًا، والحسيب النسيب أصلًا وفرعًا.
وفي الكتاب مقدِّمتان كتبهما تادرس وهبي، الأولى بدأها بملخَّص شديد عن تاريخ مصر في عهد ذي القرنين، ثمَّ في عهد البطالسة وإنشاء مكتبة الإسكندرية، ثمَّ في عهد الرومان حتى الفتح الإسلامي لمصر عَلَى يد عمرو بن العاص. ثمَّ تطرَّق إلى عهد المماليك والعثمانيين والحملة الفرنسية، حتى وَصَلَ إلى عَهْدِ محمد علي باشا، وما قام به من إنشاء المدارس. ثمَّ خصَّص مساحة للحديث عن المدارس القبطية وما وَصَلَتْ إليه من تَقَدُّم، واشتغال طلابها في الوظائف الأميرية. ثمَّ تحدَّث عن نفسه وما قام به في مدرسة حارة السقائين، وأنه أراد وضْع قصة يوسف الصديق في قالب التمثيل، مع الحفاظ عَلَى معانيها كما جاءت في التنزيل. ويحذِّر الناقد من إساءة الظن به لتطرُّقه إلى هذا الموضوع. ويختتم مقدمته بوصف من حَضَرَ تمثيلها من الجمهور الغفير عندما مُثِّلَتْ لأول مرة في مسرح حديقة الأزبكية، وعلى رأسهم طلعة الأنجال … ويقصد بذلك حضور الأميرين عباس حلمي الثاني ومحمد علي.
والملاحَظ أن المؤلِّف سار في كتابته لهذه المقدمة عَلَى أسلوب السجع المتَّبع في جميع كتاباته بما فيه من صنعة لفظية، وتضمين لآيات القرآن الكريم باللفظ والمعنى. فعلى سبيل المثال قوله: «وأورد في كتبه ما فيه مزدجر حكمة بالغة»، مأخوذ من الآيتين الرابعة والخامسة من سورة «القمر». وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ. وقوله: «أوتوا من الحكمة وفصل الخطاب»، مأخوذ من الآية ٢٠ من سورة «ص»: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. وقوله: «وما له في الأرض من وليٍّ ولا نصيرٍ»، مأخوذ من آيات كثيرة، منها عَلَى سبيل المثال الآية رقم ٢٢ من سورة «العنكبوت»: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
وقوله: «وإذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة»، مأخوذ من الآية رقم ٣٤ من سورة «النمل»: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وقوله: «ولقد مكَّن الله في الأرض لذي القرنين»، مأخوذ من الآيتين ٨٣ و٨٤ من سورة «الكهف»: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. وقوله: «ونبَّه أجيالًا بها كنت تحسبهم أيقاظًا وهم رقود»، مأخوذ من بداية الآية رقم ١٨ من سورة «الكهف»: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.
وقوله: «فهي الروضة الناضرة ذات القطوف الدانية»، مأخوذ من الآيتين ٢٢ و٢٣ من سورة «الحاقة»: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. وقوله: «دعائم عظة تنشرح بتلاوتها الصدور»، مأخوذ من الآية رقم ٥٧ من سورة «يونس»: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقوله: «والله أسأل أن يتولَّاني بتوفيقه فيما عوَّلت، فهو حسبي، تبارك اسمه وعليه توكلت»، مأخوذ من الآية رقم ١٢٩ من سورة «التوبة»: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
أمَّا مقدَّمة الكتاب الأخرى، فقد قسَّمها المؤلف إلى فصلين: الأول تحدَّث فيه عن ملخَّص قصة يوسف عليه السلام، وفي الآخَر تحدَّث عن دلالة علوِّ درجة مصر في قصة يوسف. ثمَّ تأتي بعد ذلك مسرحية «يوسف الصديق»، وقد كتبها عَلَى هيئة مقامات، وكل مقامة تنقسم إلى فصول.
والمقصود بالمقامة — تبعًا للمفهوم الحديث للمسرحية — فصل المسرحية، والمقصود بفصول المقامة — تبعًا للمفهوم الحديث للمسرحية أيضًا — مشاهد فصول المسرحية.
واختتم المؤلف مسرحيته بخاتمة قصيرة، جاءت بعنوان «خاتمة وعظية وصفية لمُجْمَلِ السيرة اليوسفية»، اختتمها بقصيدة دعائية من قصائده. وكعادة تادرس وهبي في أسلوبه الكتابي، وجدناه ضمَّن هذه المقدمة عدة آيات من القرآن الكريم، سواء باللفظ أو المعنى، ومن أمثلة ذلك، قوله: «إن العمالة الصالح تجارة لن تبور»، مأخوذ من الآية رقم ٢٩ من سورة «فاطر»: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. وقوله: «إن الله عز وجل يبعث من في القبور»، مأخوذ من الآية السابعة من سورة «الحج»: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور.
وقوله: «ساعة تبيض فيها وجوه وتسود وجوه»، مأخوذ من الآية رقم ١٠٦ من سورة «آل عمران»: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وقوله: «وترى الناس سكارى وما هم بسكارى» هو جزء من الآية الثانية من سورة «الحج»: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. وقوله: «وجعل الله ما عملوا من عملٍ هباءً منثورًا»، مأخوذ من الآية رقم ٢٣ من سورة «الفرقان»: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
وقوله: «فلا أقسم برب الأرباب الذي فطر السموات والأرض»، مأخوذ من الآية رقم ٧٩ من سورة «الأنعام»: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وقوله: «إن المرء لينظر ما قدمت يداه» مأخوذ من الآية رقم ٤٠ من سورة «النبأ»: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وقوله: «ويحشرنا مع من أوتي كتابه بيمينه»، مأخوذ من الآية رقم ٧١ من سورة «الإسراء»: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وقوله: «يوم تُبلى السرائر»، هو الآية التاسعة من سورة «الطارق»: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ.
وبعد هذه الخاتمة سيجد القارئ «مقامة وهبية»، أي حكاية أو قصة قصيرة من تأليف تادرس وهبي، تحكي عن شيخ مُسِنٍّ يروي قصة اتِّصاله بشابٍّ شجاع مَلَكَ الكثير من الأراضي والبلدان، وتقلَّبت عليه الأحوال؛ تارةً بالسعادة وتارةً أخرى بالشقاء. ونعلم من هذه القصة، أن الشيخ المسن هو التمدن، أمَّا الشاب فهو الوطن، والمقصود به مصر! وهكذا نجد المؤلف يستخدم الرمز في رسْم شخصيات قصته، وهو أسلوب لم يُستخدم بكثرةٍ في هذا الوقت، ولعل تادرس وهبي بهذا النهج يُعْتَبَر من روَّاد هذا الأسلوب!
وبعد هذه القصة أو المقامة نجد «فائدة تاريخية» عن أحوال مصر أيام يوسف عليه السلام. ثمَّ بعدها يأتي جزءٌ كبيرٌ من الكُتَّاب، وهو عبارة عن مُعجم تفسير الألفاظ الواردة في مقامات الكتاب، مرتَّبة حسب القاموس المحيط للفيروزبادي. فعلى سبيل المثال نجده في باب «الألف المهموزة» يأتي بالترتيب الآتي: برأ، خبأ، درأ، رزأ، رفأ، عبأ، فيأ، كلأ، نبأ، ومأ. وكمثال لتفسير هذه الألفاظ، نجده يقول عن «كلأ»: الكلأ العشب، وكلأه الله كلأه بالكسر أي حَفِظَهُ وحَرَسَهُ. وهكذا يسير المؤلف في بقية أبواب المعجم حسب الترتيب الهجائي لحروف اللغة العربية.
ريادة المسرح المدرسي
في آخر صفحتين من الكتاب جاءت الخاتمة، وقال فيها المؤلف عن مسرحيته «يوسف الصديق»: «فجاء تمثيلها بالإطراء حريًا، نهضت به مع طلبة مدرسة حارة السقائين، فجاءوا بالعَجَب العجاب، وانتدبوا لإعلاء كلمة الآداب أيما انتداب، فأنا أُفَاخِرُ بهم وهم أولوا الفطن، وأحتسب كوني مُفْتَتِحَ بابِ التمثيل دون أبناء الوطن، حتى ينفسح نطاقه بعناية أولي الأمر، ونكون في غُنْيَة عن زيد وعمرو؛ لأنه الفن المحرِّض عَلَى الفضائل، الحاث عَلَى نبذ الرذائل». ونستنبط من هذا الكلام أمرين؛ الأول: أن مسرحية «يوسف الصديق»، قام بتمثيلها المؤلف تادرس وهبي بنفسه، مع طلاب مدرسة حارة السقائين القبطية. والأمر الآخر: أن تادرس وهبي هو رائد المسرح الأول في مصر، الذي ألَّف مسرحية تَعْتَمِدُ عَلَى مسرحة المناهج الدراسية! ولنناقش هذين الأمرين بشيءٍ من التفصيل.
ومما سبق نستطيع القول: إن تادرس وهبي هو أول أستاذ يمثِّل مع طلابه مسرحية منشورة ومؤلَّفة باللغة العربية! عَلَى اعتبار أن مسرحيات «أدونيس» و«العرب» و«المسرحية الحربية» تم تمثيلها مِنْ قِبَل الطلاب فقط، وأن مسرحية «الوطن وطالع التوفيق» تم تمثيلها مِنْ قِبَل الطلاب مع أستاذهم ومؤلفها عبد الله النديم بمسرح زيزينيا بالإسكندرية عام ١٨٨١، ولكنها غير منشورة، ومفقود نَصُّها. هذا بالإضافة إلى أن مسرحية «أدونيس» و«المسرحية الحربية» تم تمثيلهما باللغة الفرنسية، عَلَى الرغم من أن مسرحيتَي «العرب» و«الوطن وطالع التوفيق» تم تمثيلهما باللغة العربية، ولكنهما غير منشورتين ونصهما مفقود!
أمَّا الأمر الآخر، الخاص بأن تادرس وهبي هو رائد المسرح الأول في مصر، الذي ألَّف مسرحية تعتمد عَلَى مسرحة المناهج الدراسية! فهذا الكلام صحيح، ولكنه يحتاج إلى تحديدٍ أكثر. فمثلًا سيُلاحِظ القارئ أن تادرس وهبي قال: «وأحتسب كوني مُفْتَتِحَ بابِ التمثيل دون أبناء الوطن»! ولعل هذا القول يُفْهَم خطأً بأن تادرس وهبي هو رائد المسرح في مصر عَلَى الإطلاق! وهذا الأمر لم يَقْصِدْهُ تادرس وهبي، بل إنه الرائد المصري الأول للمسرح المدرسي كصاحب أول مسرحية مدرسية منشورة في كتاب!
والدليل عَلَى ذلك، انه في عام ١٩٠٤، عندما نَشَرَ مسرحيته الثانية «بطرس الأكبر»، نصَّ صراحةً بأن الريادة المسرحية في مصر كانت لسليم النقاش وأديب إسحاق، رغم كونهم من الشوام! ولكنه هنا نصَّ عَلَى أنه مفتتح باب التمثيل دون أبناء الوطن! أي إنه كمصري له حق الريادة المسرحية بعيدًا عن الشوام! ولكنه ذَكَرَ أيضًا عام ١٩٠٤ أن عبد الله النديم سبقه في هذا الأمر، ولكن مسرحياته غير منشورة، ولم تكن تعتمد عَلَى مسرحة المناهج الدراسية، علمًا بأن «المسرحية الحربية» التي سَبَقَ ذِكْرُها كانت تعتمد عَلَى مسرحة المناهج الدراسية.
ومسألة مسرحة المناهج الدراسية، عبَّر عنها تادرس وهبي بقوله: «وأحتسب كوني مُفْتَتِحَ باب التمثيل دون أبناء الوطن، حتى ينفسح نطاقه بعناية أولي الأمر، ونكون في غُنْيَة عن زيد وعمرو»! وهذا القول يَقْصِدُ به تادرس أنه أول من فكَّر في شَرْح المناهج الدراسية عن طريق المسرح، عندما قام بمسرحة قصة يوسف الصديق كقصة تعليمية لطلابه، ويأمل في توسيع نطاق تجربته هذه، حتى تتخلص المدارس من ضَرْب الأمثلة «بزيد وعمرو» كنايةً عن أمثلة كتب النحو التراثية التي تستخدم «زيد وعمرو» في أمثلتها. وبناءً عَلَى ما سبق في مجمله، نستطيع القول: إن تادرس وهبي هو أول أستاذ يمثِّل مع طلابه مسرحية مدرسية منشورة مؤلَّفة باللغة العربية، تعتمد عَلَى مسرحة المناهج الدراسية!
المسرحية بين الشكل والمضمون
عَلَى الرغم من أن نص مسرحية «يوسف الصديق» بين يدي القراء الآن، إلا أننا سنُلْقِي بعض الملاحظات العابرة عليه؛ لنبيِّنَ أسلوب تادرس وهبي في كتابته للمسرحيات من حيث الشكل؛ لأن الأسلوب المتَّبع في هذه المسرحية هو الأسلوب نفسه المتَّبع في مسرحية «بطرس الأكبر».
- وأول ملاحظة لنا: أن المؤلف لم يقسِّم مسرحيته إلى فصول — كما هو معروف في أسلوب كتابته المسرحية حاليًا — بل قسَّمها إلى عدة مقامات! عَلَى اعتبار أن مفهوم ومعنى المقامة هو: «الخطبة أو العظة أو الرواية التي تُلْقَى في مجتمع من الناس»، وهو أحد مفاهيم ومعاني المقامة، كما جاءت في المعاجم اللغوية. وهذا الأسلوب يُعْتَبَر فريدًا، حيث إننا لم نجد مؤلِّفًا مسرحيًّا أَطْلَقَ عَلَى مسرحيته اسْمَ المقامة! بل المعروف في هذا الوقت أن المسرحية كان يُطْلَق عليها «لعبة، أو تشخيصة، أو رواية تشخيصية».
- والملاحظة الثانية: أن المؤلف لم يقسِّم مقاماته إلى مَشَاهِدَ، كما هو معروف حاليًا! بل قسَّم كل مقامة إلى عدة فصول، أي إن الفصل داخل المقامة عنده بمثابة المشهد داخل الفصل في الكتابة المسرحية الحديثة. وهذا الأسلوب فريد أيضًا، حيث كان المعروف في ذلك الوقت أن الفصول تُقسَّم إلى أجزاء، باعتبار الجزء هو بمثابة المشهد. وهذا ما قام به مارون النقاش في كتاباته المسرحية، المنشورة في كتابه «أرزة لبنان» عام ١٨٦٩.
- والملاحظة الثالثة: أن المؤلِّف كان يضع عناوين لمقاماته — أي لفصول مسرحيته — وعناوين أخرى لفصوله — أي لمشاهد فصوله — فعلى سبيل المثال نجده يضع عنوانًا لمقامته الثانية — أي للفصل الثاني من المسرحية — يقول فيه: «في حزن يعقوب عَلَى يوسف عليهما السلام، وما جرى له مع أبنائه بالتفصيل في هذا المقام، وفيه فصلان»، ثمَّ يضع عنوانًا للفصل الأول — أي للمشهد الأول من الفصل الثاني — يقول فيه: «فيما جرى بين يعقوب وبين الرسول»، ثمَّ يضع عنوانًا للفصل الثاني — أي للمشهد الثاني من الفصل الثاني — يقول فيه: «فيما جرى بين يعقوب وبين أبنائه حين دخلوا عليه وهو يخاطب الرسول».
-
والملاحظة الرابعة: أن المؤلِّف كان تارةً يكتب بعض الإرشادات المسرحية بصورة صحيحة،
واضعًا إيَّاها بين أقواس، وتارةً أخرى يكتبها ضِمْن سياق الحوار
بدون أقواس، مما أحدث بعض الخلل في سياق الحوار الدرامي. وكمثال
للأسلوب الأول نجد أحد إخوة يوسف يقول في ص٣٦: من وُجِدَ في رحله
فهو جزاء كما إنا نكون عبيدًا لمولاك يحق علينا ولاؤه، ويخفق عَلَى
رءوسنا عَلَمُ عَدْلِه ولواؤه … ثمَّ فتش رحالهم فاستخرج السقاية
من رحل بنيامين فقال: الآن حصحص الحق وزَهَقَ الباطل … إلخ.
وكمثال للأسلوب الثاني، ما جاء في ص١٤: ثمَّ رأى بعضُهم يوسف قادمًا، فانتدب يقولُ — غيرَ ناظر لما تَضَمَّنَهُ قولُه بعين المعقول: قد قَدِمَ إليكم أيها الإخوة الأنجاب صاحبُ الأحلام يختال في حلة الإعجاب فاقتلوه أو اطرحوه أرضًا يَخْلُ لكم وَجْه أبيكم … إلخ. وكان من المفترض وضْع العبارة الآتية بين قوسين: «ثمَّ رأى بعضهم يوسف قادمًا، فانتدب يقول غير ناظر لما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ بعين المعقول»، عَلَى أنها تَقَعُ ضمن الإرشادات المسرحية.
- والملاحظة الخامسة: تتمثل في شخصيات المسرحية وطريقة كتابتها، حيث جاءت هكذا: «قال ممثل يوسف عليه السلام، قال ممثل يعقوب عليه السلام»، ولم يَقُل مثلًا: «قال يوسف عليه السلام، أو قال يعقوب عليه السلام»! وهذا الأمر جاء عَلَى اعتبار أن كل شخصية منهما تمثِّل نبيًّا من أنبياء الله، ولا يحق دينيًّا أو رقابيًّا إظهارُ أحدهما عَلَى خشبة المسرح بصورة مجسَّدة! لذلك أراد المؤلف بقوله «ممثل يوسف، وممثل يعقوب» أن يعبِّر للجمهور أن مَنْ يقول هذا الحوار هو ممثل النبي لا النبي نفسه! وربما أثناء التمثيل كان ممثِّلَا يوسف ويعقوب خلف الكواليس، ولا يظهر منهما سوى صَوْتِهما فقط، أو كان هناك راوٍ يتحدث من خلف الستار. وهذا احتمال يؤكِّده قولُ المؤلف: «قال ممثل يوسف، قال ممثل يعقوب». والدليل الأكبر عَلَى ذلك، أن بقية الشخصيات كانت تتحدث هكذا: «قال قائل من أخوته، قال أحد أبنائه، قال قائل منهم، قال وكيل يوسف»، وهذا يعني أن هذه الشخصيات كانت تظهر بهيئتها؛ لأنها ليست من الأنبياء.
- والملاحظة الأخيرة: تتمثل في شخصية امرأة العزيز، حيث ذَكَرَها المؤلف هكذا: «قال ممثل امرأة العزيز»! وهذا يعني أن طالبًا قام بتمثيل هذا الدور، ولم يكن الدور لامرأة أو لطالبة! وهذا الأمر لا يحتاج إلى معاناة في تفسيره أو شرحه، حيث إن المسرح في مصر في ذلك الوقت كان الرجال فيه يقومون بأدوار النساء في الأغلب الأعم، عدا بعض الفرق الشامية القليلة التي جَلَبَتْ معها بعض النساء. وقد مرَّ علينا — في أحد الهوامش السابقة — كيف كان هجوم الصحافة عَلَى فرقة القباني، التي تنكَّر رجالها للقيام بالأدوار النسائية! فما بالنا لو وقفت طالبة لتمثِّل دور امرأة العزيز عَلَى خشبة المسرح في إحدى المسرحيات المدرسية عام ١٨٨٤!
والدليل عَلَى ذلك أن تادرس وهبي عَرَضَ في مسرحيته صورة عدل ورحمة يوسف عليه السلام في مصر، أثناء تعامُلِهِ مع الناس كأمين عَلَى خزائن البلاد، قبل وبعد المجاعة والقحط، بالصورة التي جاءت في القرآن، ولم يتعرض للصورة نفسها التي جاءت في التوراة رغم ثرائها الدرامي، الذي كان سيساعده في عَرْض أحداث مسرحيته؛ لأنها صورة تمثِّل جبروت السلطة دون النظر بعين الرحمة إلى الشعوب الجائعة. وبمعنًى آخر، إذا كان تادرس وهبي أراد أن يصوِّر بعض الأحداث الدرامية التي تخدم مسرحيتَه وقُدْرَتَه هو وطلابه عَلَى التمثيل، لكان عَرْض ما جاء في التوراة من أن يوسف عليه السلام ابتاع الطعام للناس في سنوات المجاعة السبع بالمال في السنة الأولى، وبالجواهر والحلي في الثانية، وبالدواب في الثالثة، وبالعبيد والجواري في الرابعة، وبالعقار في الخامسة، وبالأبناء في السادسة، وبالرقاب في الأخيرة … ولكنه لم يفعل ذلك، واعتمد عَلَى النص القرآني.
والدلائل بعد ذلك كثيرة، يستطيع القارئ أن يستنبطها بعد قراءة المسرحية، ومن ثَمَّ يقارن بينها وبين قصة يوسف عليه السلام كما جاءت ابتداءً من الإصحاح السابع والثلاثين إلى الإصحاح التاسع والأربعين في سفر التكوين بالتوراة، وفي الإصحاح السابع من سفر أعمال الرسل بالإنجيل، وفي سورة يوسف بالقرآن الكريم. وجميع هذه النصوص موجودة في ملحق الكتاب. وكل الدلائل والنصوص تؤكد أن تادرس وهبي ارتضى بالنص القرآني ليكون عماده الأول والأساسي في تآليفه لمسرحيته «يوسف الصديق».
هذه كانت رحلتنا مع تادرس وهبي بك، الذي يحتفل المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، بذكرى مرور سبعين سنة عَلَى وفاته، وبمرور مائة وعشرين سنة عَلَى تمثيلِ ونَشْرِ مسرحيته الأولى «يوسف الصديق»، وذلك بإصدار هذا الكتاب، الذي يحمل بين جنباته نص كتابه «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق» المتضمن نص مسرحيته «يوسف الصديق». والشكر كل الشكر إلى الدكتور سامح مهران رئيس المركز، الذي كلَّفني بكتابة هذه الدراسة، وأعطاني الفرصة كي أَنْفُضَ غبار النسيان والتجاهل عن شخصية مصرية نصرانية فريدة في نوعها، استطاعت أن تجسِّد معنى التسامح الديني بحفظها للقرآن الكريم واستخدام آياته في كل إنتاجها الأدبي!
كلية دار العلوم، جامعة المنيا
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة الإمارات العربية