المقامة الأولى
الفصل الأول: في بيع إخوة يوسف إياه، وما حدث بينهم حين قَصَّ عليهم رؤياه
قال ممثل يوسف عليه السلام: إن الحب الأخوي ريحانة النفوس، والسر الذي تسري رقته في الجوانح كحميا الكئوس، بحيث يرتاح الأخ لأن يبايع أخاه بأنبائه، ويتابعه فيما يبديه له من ملاحظاته وآرائه؛ فلهذا جِئْتُ لِأَقُصَّ حلمًا رأيته عَلَى أسماعكم، بغية أن أقتبس تأويله من إبداء إبداعكم، أفتأذنون لي في سوق حديثه بنصه، وأن آتيكم أيها الأخوة بالخاتم وفصِّه.
قال قائل من أخوته: عليك بقصِّ ما رأيت في منامك؛ لعلك تمتطي بواسطة تأويلنا سنام مرامك.
قال ممثل يوسف عليه السلام: إني رأيت أحد عشر كوكبًا والقمرين سَجَدَتْ لي سجودًا، وكُتِبَتْ لي كتائب الإجلال — وايم الله — جنودًا، فأفتوني في هذه الرؤيا التي تحار فيها الأفكار، وأَطْلِعُوني بذكائكم البارع عَلَى ما انْطَوَتْ عليه من أسرار.
قال قائل منهم: ما بالُكَ تغاضبنا بهذا الخطاب وتأتينا من حديثك، ولكن لا بما حَسُنَ وطاب، حتى رأينا منك بطرف الفراسة أنك ستستأثر لنفسك بحق الرياسة، أتريد أن أبويك وأخوتك يخرُّون لك سُجَّدًا، وأن تصبح — عَلَى حداثة سنك — زعيمًا وسيِّدًا، اعلم أن دون إدراك تلك المُنْيَة خرط القتاد، والتخلف عن مثلها بغية كل طالب مرتاد، ولئن تماديت عَلَى قَصْدك كمن اغترَّ بزخرف المُحَال، ولم تكترث بصروف المستقبل مراعاةً لظروف الوقت الحال، لندمت عَلَى كَوْنِكَ تَظَنَّيْتَ السرابَ ماء، ولعلمت أن هاتيك الكواكب إن هي إلا أسماء، وقد أنذرناك إنذارًا يَعْقُبُه الجزاء، وحذَّرناك بما نَطَقَ به لسان الإخاء، فإن شِئْتَ فقم وامْضِ إلى أبيكَ، لعله بتأويل رؤياك يُنْبِيكَ.
ومن تلك الساعة أصرَّ إخوته عَلَى الانتقام منه، وعلق بأفئدتهم الغيط مما صَدَرَ عنه، وما زالوا به حتى أَغْرَوْه بمرافقتهم وآنسوه فأَنْسَوْهُ ما تعوَّده من مفارقتهم، ثمَّ اجتمعوا بيعقوب عليه السلام، فأَنْزَلُوه منزلة الإجلال، وخاطبه أحد أبنائه عَلَى لسان الكل، فقال: يا أبانا، دام عِزُّك وبقاؤك، ما لك لا تأمنَّا عَلَى يوسف وكلنا أبناؤك، تَعْلَم منَّا النصح له ولا تُبْدِيه، وتُنْضِي عن منكبيك رداءَ الخوف آونةً وأخرى ترتديه، أَرْسِلْه معنا غدًا يرتع ويلعب في مروج البادية، ثمَّ يعود إليك وأمارات السرور عَلَى محيَّاه بادية، وإنَّا له لحافظون وبعيون العناية يا أبتاه ملاحظون.
قال ممثل يعقوب عليه السلام: إني ليحزنني أن أفارقه فراقًا يعزُّ بعده اللقاء، وأن تذهبوا به وتغادروني حليفَ شَجَنٍ وبكاء، وأُشْفِق من أنكم بحفظه لا تحتفلون، وأن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون.
قال أحد أبنائه: كُنْ آمنًا مما تخشى بالله عز وجل، ولا تَرْكَنْ لما يخامر فؤادك من أسباب الوجل، وإِنَّ مِثْلَنا لَمِمَّنْ يرعى حَقَّ الأُخُوَّة، ويمنعه كَرَمُ تجارة مما بنا في المروءة والفتوَّة، وها نحن عن سوقنا وأيدينا حاسرون، ولئن أَكَلَهُ الذئب ونحن عصبة إنَّا إذا لخاسرون.
قال ممثل يعقوب عليه السلام: رَضِيتُ بإرساله ليلبث فيكم قليلًا ثمَّ يعود، وحسبي الله في مَنْ أَقْدَمَ عَلَى نَقْض العهود.
وحينئذٍ مضى يعقوب عليه السلام، فقام أحد أبنائه، كأنما نشط من عقال وخاطب إخوته في شأن يوسف وقال: حتام تغشانا من الذل غمرات، ونتغاضى عن صرائح الحقائق ونصائح الإشارات، ضُرِبَتْ علينا الذلة والمسكنة، وأَصْبَحَتْ سجية الجبن من قلوبنا متمكنَّة، يَمُنُّ علينا يوسف برؤياه مَنًّا، غير مُكْتَفٍ بكونه أحبَّ إلى أبينا مِنَّا، فيا أيها الإخوة (نداء من استفزته الأريحية والنخوة)، لقد علمتم أن أبانا لفي ضلال، كما أن أخانا يتهم وينجد في أودية الدلال، فإن آثرتم أن لا تذهب ريحكم، وأن يسير مسير البدرِ ليلةَ كماله مَدِيحُكُم، فاقتلوه قَتْلَ أولي الباس، أو ألْبِسُوه من الغربة عن الوطن شَرَّ لباس، وما أظنكم ترضَوْن بالذل والهوان، وتغضُّون الطرف عما أتاه يوسف من العدوان، وأنتم عصبة اعتصبتم من الاتحاد بعصابة، وأصبتم محجة الرشاد أيما إصابة.
قال قائل منهم: حاشا لله أن نحتمل ضيم الآباء، ونصبر عَلَى ما جاء به يوسف من الأنباء، وقد استرضينا أباه ليرسله إلى هذا المقام، حتى نُجَرِّدَ له متى قَدِمَ حُسَامَ الانتقام، فيرى أن أحلامه لا تستطيع له إنقاذًا، ويودُّ لو أنه اتخذ الاعتدال ملجأً وملاذًا، ثمَّ نجيء بدمٍ كَذِبٍ عَلَى قميصه، ليعلم أبوه أن الذئب أراغه بصفة قنيصه، لا زالت أيها الأخ في مشورتك الصادقة أهدى من القطا، تصونك أصالة الرأي عن الخطل والخطا.
ثمَّ رأى بعضهم يوسف قادمًا، فانتدب يقول (غير ناظر لما تَضَمَّنَهُ قوله بعين المعقول): قد قَدِمَ إليكم أيها الإخوة الأنجاب، صاحب الأحلام يختال في حلة الإعجاب، فاقتلوه أو اطرحوه أرضًا، يَخْلُ لكم وَجْهُ أبيكم ثمَّ تقضوا من التوبة فرضًا، فإن الذل خطة لا يرضاها الحر لنفسه، وإن أطعتموني فأَلْحِقوا حاضر يومه بغابر أمسه.
فأخذه بعضهم، فجَلَدَ به الأرض، ثمَّ جثم عَلَى صدره وقال له: قُلْ لرؤياك تخلِّصك من أيدينا، أو تمكِّنك من كَوْنِك تراوحنا من بعد وتغادينا، إذ ليس للمترفع عن الجوزاء سوى القتل وايم الله جزاء.
فاستغاث يوسف براءوبين، فتَشَفَّعَ فيه لدى إخوته بقوله:
بالله إلا ما حقنتم ماء وجهي بحقن دمه، وقدَّرتم أنه لم يَفِدْ إليكم ساعيًا عَلَى قدمه، أو ليست صلة الأُخُوَّة جامعة بينكم وبينه، تناجيكم بلسان الحال أن اتقوا فراقه وبَيْنَه، وإلا فإنْ أجمعتم عَلَى قتله، وعزمتم عَلَى انتهاج طُرُقِ الغدر وسُبُله، فكيف تلاقون أباه وقد أَحْرَقْتُم بنار الجوى كَبِدَه، أو تخاطبونه بلسانٍ وقد نَقَضْتُم ذمته وعهْدَه، فامحوا من صفات قلوبكم بَعْضَ آثار الحب، وألقوه إن كنتم فاعلين في غيابة الجب. (ثمَّ جاءت سيارة، فعَقَّبَ قَوْلَهُ بهذه العبارة).
وإن شئتم أن تضيِّعوه، فبيعوه لأولئك التجار، واقضوا ببيعه ما في أنفسكم من لبانات وأوطار.
قال قائل منهم: إن لأخينا هذا من رحمة الأخوة أَوْفَرَ نصيب، وسَهْم مشورته في هذا الصدد مصيب، فلا بأس من الأخذ بآرائه، ومخابرة أولئك السيارة في بيع يوسف وشرائه.
الفصل الثاني: في بيع يوسف للإسماعيليين
قال ممثل أحد الأخوة: أيها السادة التجار أولي الشرف والنجار، الذين رُزِقُوا سَعة الغنى، وجَنَوْا من رياض السعادة ثمرات المنى، هل لكم في شراء هذا الغلام البارع الصفات، الجامع في أفعاله لمحسنات البديع، وبديع المحسنات، الحريص عَلَى التمسك بأذيال القناعة والتمسك في ابتغاء مرضاة مولاه بالتنسك والطاعة، وهو مع ما اتصف به من صدق اللهجة وسلامة المهجة، إذا اؤْتُمِنَ عَلَى كتمان الأسرار نسج عَلَى منوال الأحرار، وها أنا أنادي عليه والشوق يفاجيني ويناجيني، والقلق أداجيه عَلَى مرارة فراقه ويداجيني، كأن من حبه روحًا في كل جارحة، أو بين قسي البين وأوتارها سهامًا جارحة، فقاتَلَ الله الحوادث الدهرية القهرية بأسرها، حيث أصابتني كما هو الواقع في حبائل أَسْرها، فلم أُلْفَ مناصًا من الانتفاع بثمنه، ولا طائل في البكاء عَلَى أطلال الربع ودمنه.
قال ممثل يوسف عليه السلام: أيها الإخوة، أيَّ شرٍّ جنيتُ؟ وأي ثمر من مغارس الإساءة جنيت؟ حتى تبيعوني بيع الرقيق، ويفوتكم أنما مثلي هو الحر الرقيق، فهل اجْتُثَّ من أفئدتكم عرق الإخاء، وصُمَّتْ آذانكم والحالة هذه عن سماع الدعاء، ألم يأتكم أنَّ مِنْ أعظم الكبائر قطيعة الرحم، وأن الله لا يرحم من عباده إلا مَنْ رَحِم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ويُحْتَسَبُ لكم الأجر عَلَى كونكم رحماء، واستحضروا في أذهانكم حال الأب الشفوق، القائم لكم من ضروب الإحسان بأداء الحقوق، وإن لم ترحموني وتواخوني، فارحموه وآخوه، أو لم تؤثر فيكم شفاعة يوسف فحسبكم في الانفراد أخوه.
قال قائل منهم: كيف ترجو أن يكون لك مِنْ شَرَك الإسماعيليين مناصٌ، وقد أوجبت علينا أن نَكُفَّ عاديتك بهذا القصاص.
قال ممثل يوسف عليه السلام: إن كان المُوجِب لبيعي هو الرؤيا التي قصَصْتُها، وخَلَّصْتُها من إبريز الحقيقة المحضة ولَخَّصْتُها، فأعاهدكم الله أن لا آتي بعدها بحديث، ولا أتنقل في الرواية من قديم إلى حديث، ولكن فاقضوا ما أنتم قاضون، واحكموا عَلَيَّ بما أنتم به راضون، فلست أخاطبكم الآن إلا بلسان العتاب، داعيًا عليكم دعوة مظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ثمَّ أنشأ يقول:
ثمَّ مضى إخوته بعد قَبْض دراهم معدودة من التجار، الذين ذهبوا بيوسف إلى مصر فابتاعه قائد الجند المسمى فوطيفار.