المقامة الثانية: في حزن يعقوب عَلَى يوسف عليهما السلام، وما جرى له مع أبنائه بالتفصيل في هذا المقام
الفصل الأول: فيما جرى بين يعقوب وبين الرسول
قال ممثل يعقوب عليه السلام:
أيها الرسول الذي جاءني بما يسوء من الأنباء، كما فاجأني بالقميص الذي أَيْقَنْتُ أنه لأعز الأبناء، لقد أَذَبْتَ مني الفؤاد، وَحَجَبْتَ عن عيني طارِقَ الرقاد، واستلبت مني اللُّبَّ استلابًا، وغادرتني لا أعي خطابًا، ولا أحير جوابًا، فبالله إلا ما عللت فؤادي بتكرار مقالك، وأطفأت لوعتي بخبر مجيئك وانتقالك، فإني لم أُدْرِكْ إلى الآن معنى ما تقول، ولم أعلم يقينًا إن كنت رسولًا أو غير رسول، وكأني بك وقد كُلِّفْتَ بإعطاء قميص يوسف لأبيه ليمعن الطرف في أعلامه وحواشيه، فيا ليت رِجْلًا أَوْصَلَتْكَ إليَّ قُطِعَتْ، وعينًا هَدَتْكَ إلى لقائي قُلِعَتْ، فقد أثَّرت مني شجنًا كامنًا، وحَرَّكْتَ ما كان طيَّ الفؤاد ساكنًا، وكيف لا أَذْرِفُ بَدَلَ الدموع دمًا، ولا أعض يدي عَلَى ما جَنَتَا سدمًا وندمًا. وقد استلب مني الدهر دُرَّةَ يتيمة، وجوهرة لا تُقَوَّم بقيمة. فوا حسرتاه عليك يا ولدي، ووا حرَّ قلباه عليك يا فلذة كبدي، بل وا أسفاه عليك يا سندي وعضدي، زَهِدَ فيك الإخوة، فعقدوا عَلَى ضياعك النية جميعًا، ولم تُلْفِ لك من غائلةِ كيدهم مُنْجِدًا ولا شفيعًا، نقضوا عَهْدَ صغى الله ولم يراعوا، وأضاعوك يا يوسف ولكن أيَّ فتًى أضاعوا، فلله أية كبد لا تنقطع! أم أي فؤاد لا يحزن ويتوجع! بل أية عين لا تهمي وتدمع! ولقد كِدْتُ أمزجُ دَمْع المقلتين بدم المحاجر، وأوثر آيات الأحزان ولو بالخناجر عَلَى الحناجر، لولا أن دعاني داعي التثبت فأجبت لدعائه، لعلمي أنَّ تثبُّت المحزون يُوفِر في ثوابه وجزائه، ليتني الآن في زمرة الأموات، ولم تَذْهَبْ نفسي عَلَى ضياع يوسف حسرات، ويا ليت والدته أَدْرَكَتْني وَقْتَ حلول هذا المصاب، وشارَكَتْني في وَصْف مَن اغتصبه الضياع أيَّما اغتصاب.
قال الرسول: كيف تخاطبني بهذا الكلام؟ وتشير إلى دون سواي بإشارات الملام، مع علمك العلم اليقين، بأنه ما عَلَى الرسول إلا البلاغ المبين، وقد أَرْسَلَ معي هذا القميص أبناؤك الأسباط، المرتبطون بسبب الأخوة، كما هو الظاهر أَيَّمَا ارتباط، فجئت به وأنا عَلَى يقينٍ من أن الحسد لا يقود أمثالكم مهما يكن الأمر بحبل من مسد، ومع ذلك فإنه لكل أجل كتاب، ولا يقي مما قضى الله وَزَرٌ ولا حجاب.
الفصل الثاني: فيما جرى بين يعقوب وبين أبنائه، حين دخلوا عليه وهو يخاطب الرسول
قال ممثل يعقوب عليه السلام: حدَّثني قلبي — وناهيك بحديث الفؤاد — وصانتني الفراسة عن أن أهيم من الحيرة في كل وادٍ، وأَدْرَكْتُ — والله أعلم — بما كان وما يكون أنهم أضاعوه، وجاءوا أباهم عشاء يبكون، ولَكَمْ قُلْتُ له يا بني لا تقصص رؤياك عَلَى إخوتك فيكيدوا لك كيدًا، ويصيدوك من يَمِّ الثقة بشص الانتقام صيدًا، أَوَلَمْ أَذْكُر قَوْلَهُ وهو الصديق الأمين: يا أبتِ إني رأيت الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا رأيتهم لي ساجدين، وكيف بانت عَلَى وجوههم للكيد أمارة، وحسبوا أن ستكون له عَلَى عصابتهم أمارة، فقطعوا من صلة الإخاء ما كان موصولًا، ووصلوا من أسباب الجفاء ما وصلوا به إلى الغدر وصولًا، وإنما فعلوا ذلك ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فمن ثمَّ حَازَهُ سائم الشراء بأبخس الأثمان، بعد أن ألقاه إخوته بالقضاء المحتم في غيابة جُبِّ الأحزان.
قال قائل من أبنائه: مهلًا أيها الوالد مهلًا، وأهلًا بعتابك وسهلًا، كيف تَعْهَد فينا الإقدام عَلَى إضاعة أخينا، أتظن أنَّا أخذنا مبيض القسوة من الإغماد، ولم يَبْقَ مِنْ فَرْق بين قُلُوبنا وبين الجماد، أوْ لَمْ يَطُلْ عليه حين ذَهَبْنَا نستبق أَمَدُ الانتظار، وأكله الذئب فروى من دَمِهِ ظمأ تلك القفار، فتَعَزَّ يا أبتاه عَلَى فَقْده، وليكن بنيامين أَحَبَّ إخوته إليك من بَعْدِه:
وإلا فإلام تبكيه، وحتام تفتأ تذكر يوسف وتَرْثِيه، لقد ابْيَضَّتْ من الحزن عيناك، وأصبحت عَلَى شفا جُرُفٍ هارٍ من الهلاك، فخَفِّضْ عليك ما تلاقيه من بُرَحَاء الوَجْد، واعلم أنك إن لم تَرَهُ اليوم فسوف تراه بَعْد.
قال ممثل يعقوب عليه السلام: لا والله لَأَبْكِيَنَّ عليه ما دُمْتُ حيًّا، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، ولئن تَكُنْ قد سوَّلَتْ لكم أنفسكم أمرًا، فصبر جميل، والله حسبي سبحانه وتعالى ونِعْم الوكيل، فلا تخاطبوني في ذلك مرة أخرى، واعلموا أن التفويض أليق بمثلي وأحرى، ثمَّ أنشأ يقول ما معناه: