المقامة الثالثة: في ما جرى ليوسف عليه السلام بدار فوطيفار وزير فرعون مصر
الفصل الأول: في مراودة امرأة العزيز ليوسف عن نفسه
قال ممثل امرأة العزيز:
إي وربي، لقد جَمَعْتَ المحاسن وأَصْبَحَ مورد محبتك عذبًا غير آسن، فلا جَرَمَ أن عُقِدَتْ لك راية التحكم في دولة الجمال، ولم يشاركْكَ أحد في صفة من صفات الكمال، فلله درك ما أزكى شمائلك التي هي أَرَقُّ من الشمائل، وفضائلك التي أَعْجَزَتْ بها الأواخر فضلًا عن الأوائل، وما أجمل محيَّاك الذي فَضَحَ البدر ليلة تمامه، وأشد سواد شعرك الدجوجي، الذي مد رواق ظلامه، وبالنضرة وَجْنَتَيْكَ مع اجتماع ضدين جنة ونار، ونصرة سهام لحظيْكَ في تأييد شوكة الورد وشقيقة الجلنار، فامْنُنْ بالعطف عَلَى هائمةٍ في أودية غرامك، وكأنما فؤادها طائر عَلَى غصن قوامِك، ولا تغادِرْها كل ليلة ترعى شقيقك الزاهر، وتدعوك بلسان الضمير لتميِّزك عنه بالفرق الظاهر، لا أحرق الله لك باصطلاء نارِ الجوى فؤادَا، ولا أَرَّقَ لك طَرْفًا هَامَ في أودية الهوى ولم يَنَلْ من وَصْل الغانيات مرادَا، فلعلك ترتاح لإجابة سؤل السائل، ولا تقابل دمعه بالنهر وهو في الحقيقة جارٍ سائل.
قال ممثل يوسف عليه السلام: أيتها المترنِّحة بصهباء الغرام الغيرُ ناظرة إلى تمييزها الحلال من الحرام، كيف أُقْدِمُ عَلَى انتهاك حرمة الأدب، وهو من محْض أعمال السفهاء ولا أُحْجِمُ عن قضاء هذا الأرب، وأنا مكتوب عند الله في ديوان الأنبياء. أمَّا المحاسن التي أَبْدَعْتِ في وصْفها بلسان الإطناب، وأوقعْتِ نفسك في حبائلها إجابةً لداعي عنفوان الشباب، فما هي إلا أعراض تمحوها يد الفناء من صحيفة البقاء مآل الصورة الآدمية وقت حلول القضاء والنقلة من عالم الأحياء، فيا لها من عظة يتَّعِظُ بها الرامق اللبيب، ويَعْتَبِر بمصيرها العاشق الذي يعلل النفس بوصال الحبيب، أوَلَيْس أنَّ شَعْري هو أَوَّلُ ما ينتثر عَلَى لحدي، وعيني هما أوَّل ما يسيل في قبري عَلَى خدي، وهل فاتَكِ أن وجْهِيَ الحسن هذا أوَّل ما يأكله التراب، وتعلوه صفرة الموت فتنقلب عن رؤيته أبصار الأتراب، كما أن سائر ما في الجسم يأكله الدود، وأصله من التراب وإلى التراب غدًا يعود، معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، وأتمني من بين العبيد دون سواي، معاذ الله أن أجزيه بدل الخير شرًّا، وأجيء والحالة هذه شيئًا نكرًا، فاستغفري مولاك إنه أقرب للتقوى، وتمسكي من وثيق العفاف بالسبب الأقوى.
قال ممثل امرأة العزيز:
أيها الرامي عن عمده الآخذ بسيف الصد من غمده، الذي غربت لِطَلْعَتِهِ الشموس، وأَرِبَتْ حميًّا حديثه بالكميت الشموس، حتام أُعَلِّل النفس بتَعِلَّة وَصْلك، وكلما أَوْشَكْت أن أجني ثمرةً حَمَتْها حماةُ قَوْلِك وفِعْلِك، تُسْمِعُني من الوعظ ما لا أطيق له سماعًا، وتكْشِف بِيَد الهداية عن وَجْه الحقائق قناعًا، ألا ترى كيف انْطَبَعَتْ في مرآة شكلي صورةُ محاسنك البديعة، وشبيه الشيء كما يُقال منجذِبٌ إليه بكهرباء الطبيعة، ولئن شئت أن تكون لك في تحقيق دعواي حرية الاختيار، وآليت أن تختبرني بما يرضيك من فنون الاختبار، فلا أُقْسِمُ بمن زَيَّنَ العيون بسواد الأحداق، وجَعَلَ صُبْح الجبين فتنة لذوي الصبابة من العشاق، لقد مَلَكْتَ أَزِمَّة قلبي وأَلَّبَ هواك بِلُبِّي، وغادرتني أكابد فيك أشواقًا، وأستعذب منك العذاب وإنْ مَرَّ مذاقًا، فرفقًا أيها الحبيب بحالي، ولا تَغْضُض الطرف عن استماع شكوى مقالي.
قال مُمَثِّل يوسف عليه السلام: كيف أرضى بما لا يرضى به عاقل، ولا أبى أن أسلك مسلك غوي غافل، أَنَسِيتِ أن الله حرم الزنى؛ لأنه كان فاحشة وساء سبيلًا، وحَرَمَ من يقربه نِعْمَةَ الغنى، فهيهات أن رَوِيَ مِنْ يَمِّ كوثره في الحياة غليلًا، فضلًا عن كَوْن سيِّدي أَكْرَمَ مثواي فهل أَكْفُر إكرامه، وعَهِدَ فيَّ الأمانة فأنَّى لي أن أخفر ذمامه، فكُفِّي أيتها السيدة عن مقالك، واحتفلي بادِّخار ما ينفعك في يوم مآلك، ولئن كُنْتُ لا أستطيع صبرًا عَلَى إغضابِك، ولا يسوغ لي إلا الامتثال لأداء فريضة الطاعة في محرابك، فإني في ما ترومين مُولَعٌ بالخلاف، أوثر الاعتكاف، في زاوية الصلاح والعفاف، فلا تُغَلِّبي هواك عَلَى عقلك، وتكتبي هذا الآباء في جريدة المؤاخذة بأقلام فضلك، واحتسبي نصحي وقاية من اشتغال نسوة المدينة بعذلك.
قال ممثل امرأة العزيز: ما بالُك ثمَّ ما بالُك، وما تلك الظنون التي يصورها خاطرك وبالك، أفكلما عَرَضْتُ عليك شكواي زاد جفاؤك، وكلما آنَسْتَ مني إقبالًا كان جزاءه صدُّك وإباؤك، فإن كان غرضك بذلك أن تجل لديَّ اعتبارًا، وأن تريني نجوم ليل المحبة في أفق الصدود نهارًا، فقد أَصَبْتَ محجة الرشاد، وكنت أول من ساد بالاطِّلاع عَلَى أسرار الحب وشاد، لا سيَّما لإفراغك وسائل الدلال في قالب الوعظ، وتَكَلُّفك الصبر عَلَى المخاطبة معي بما مَرَّ من اللفظ، وإن كنت في الحقيقة مستعصمًا غير راضٍ، وآثرت معاذ الله أن تتمسك بأذيال الإعراض، فقد أخطأت خطأً مبينًا، وأبطأت في انتهابِ وانتهازِ هذه الفرصة يقينًا. ثمَّ غَلَّقَت الأبواب وقالت: هيت لك، ودونك امرأة ملك بل شقيقة ملك، وقَدَّتْ قميصه من دبر واستبقا الباب، وألفيا سيدها فألبست عليه التمييز بين القشر واللباب.
الفصل الثاني: في ما جرى ليوسف عليه السلام مع فوطيفار وزير فرعون مصر
قال ممثل امرأة العزيز: أيها القرين الكريم، ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يُسْجَنَ أو عذاب أليم؟!
قال فوطيفار: من ذا الذي أَحَبَّ أن يأتي هذا المنكر في بيوت الوزراء، ويجعل نفسه هدفًا لبطش الأمراء دون مراء، مَنْ هو حتى أجاريه في أَمْر الإساءة الذي احتار لنفسه مضماره، وأجازيه عَلَى ما سوَّلته له نفْسه الأمَّارة، مَنْ هو حتى أُكَفِّر إساءته بالسجن الدائم، ولا أحرمه لوم عاذل عَلَى غوايته ولاثم.
قال ممثل امرأة العزيز: هو الغلام العبراني الذي أقمته عَلَى دارك وكيلًا، وفوَّضْتَ إليه فيها التصرُّف كما لو كان أصيلًا، اختلجت بصدره من العدوان خوالج، وتأجَّجَتْ بجوانحه وجوارحه نيران لواعج، وقد أَمْسَكَ بي فعمدت إلى الفرار، لأَتَخَلَّصَ من عبد سيئ يريد العبث بالمُحْصَنات الأحرار، والحمد لله الذي أعثرك فيه لتحكم عليه بما تريده وتصطفيه.
قال ممثل يوسف عليه السلام: ماذا أقول لأثبت براءة ساحتي إثباتًا كليًّا، وأُمْيطَ قناع الإقناع عن وجْه الحقيقة ظاهرًا جليًّا، ولا سبيل للحصول عَلَى تلك الغاية، أو الوصول في مقام المُحَاجَّة إلى حد الكفاية، هذا مع كوني لا أُقْدِم عَلَى تفنيد كلامها، أو المسيس — معاذ الله — بشَرَف مقامها.
ثمَّ أنشأ يقول ما معناه:
قال فوطيفار: إني لك أيها المحتال بالمحال، أظننت أن زوجتي كانت بغيًّا، أم تناسيْتَ كوني بك حفيًّا، فلأُودِعَنَّكَ السجن مليًّا، ولأذيقنك لباس الجوع والخوف ما دُمْتُ حيًّا.
ثمَّ أَمَرَ بسجنه بناءً عَلَى تلك الشكوى؛ ليَحْكُمَ عليه بما تقضي به خلاصة الدعوى.