أيامنا في مدينة الخرطوم
(١) اليوم الأول الجمعة ٨ فبراير
سافرنا اليوم من واد مدني حوالي الظهر إلى الخرطوم، وكان توديعنا حافلًا كاستقبالنا، وقد وقف القطار عند «الحصاحيصة» لمدة ربع الساعة قدَّم سكانها المرطبات والقهوة والسجاير مع ترحيب عظيم. وعند الساعة السادسة مساءً وصل القطار إلى محطة الخرطوم، حيث كان في انتظاره مئات المستقبلين من كبار الموظفين والقضاة وخريجي كلية غوردون، وموظفو الري المصري والشبان، فتعانق الفريقان وحمل الشبان الدكتور محجوب ثابت على الأعناق وأركبوه السيارة، وسار رتل السيارات من المحطة حتى فندق «جراند أوتيل» على النيل الأزرق، بين التصفيق والزغاريد على طول الطريق، وينزل بالفندق الموظفون الإنجليز، الذين ليست لهم مساكن ويدفعون أجرة خاصة، وينزل به كبار السائحين، وأُعدت للأعضاء باخرتان حكوميتان أمام الفندق، فملأ الأعضاء الفندق والملحق المجاور له والباخرتين، لكل منهم غرفة. وبعد أن استراح الأعضاء من وعثاء السفر، وبدلوا ملابسهم، نزلوا إلى شرفة الفندق وخرج بعضهم لشراء بعض الحاجيات ومقابلة بعض الأصدقاء، وحضر آخرون من علية القوم يتقدمهم أصحاب الفضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان، والشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء السودان، والشيخ الفيل مفتي السودان، وغيرهم.
(١-١) مأدبة عشاء أقامها كونتو ميخالوس
لبس الأعضاء ملابس السموكن ونزلوا إلى قاعة الطعام بالفندق حيث أقام مسيو كونتو ميخالوس مساءً مأدبة عشاء حضرها ١٢٠ مدعوًّا من كبار موظفي الحكومة الإنجليز، ومحمد بهي الدين بركات بك الذي وصل إلى الخرطوم قبل البعثة بأيام، وعبد القوي أحمد بك وأعضاء الغرفة التجارية بالخرطوم، وبعض آل المهدي. وألقى كونتو ميخالوس خطبة، وألقى رشوان باشا خطبة أخرى.
وتم التعارف بين الأعضاء وكبار المدعوين، ثم انتهت الحفلة قبيل منتصف الليل، وآوى الأعضاء إلى فراشهم.
(٢) اليوم الثاني ٩ فبراير
عند السيد الميرغني – في الغرفة التجارية – في مكتب حضارة السودان – في سراي الحاكم – حفلة شاي في الغرف التجارية – خطاب مسيو كونتو ميخالوس – خطاب رشوان محفوظ باشا – خطاب أباظة بك.
•••
توجهت مع إخواني الساعة التاسعة صباحًا إلى دار حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني شيخ الطريقة الميرغنية المنتشرة في ربوع السودان والحجاز وأفريقيا وقسم كبير من البلاد المصرية.
أظن حضراتكم قد أدركتم من زيارة السودان أنه على صورة تختلف عن الصورة التي ارتسمت عندكم قبل زيارته، وقد وددنا لو كان عدد البعثة أكبر؛ لأنه كلما زاد العدد، زاد عدد المتحدثين بالخير عن السودان وحقيقته.
والتفت فضيلته إلى الدكتور محجوب وقال له: هل تنوي أن تزور مسقط رأسك دنقلة؟ فقال الدكتور: من الأسف أنها لم توضع في البرنامج.
فقال فضيلته: «إن هذا الوقت هو خير وقت لزيارتها، ولكن الطريق ليس سهلًا، وطريق النهر أفضل؛ لأنه لا يوصل إلى دنقلة بالسكة الحديدية، ويظهر أن ضيق الوقت هو الذي أخرجها من البرنامج، وأظن الدكتور يحن إلى مسقط رأسه.»
فقال الدكتور: آي والله.
فقال الأستاذ خميس: إن الدكتور يريد أن يبقى في السودان.
قال فضيلته: ما هو الدكتور محجوب بتاعنا وليس بتاعكم … «ابتسام».
وقد أنشأ الجد الأعلى للسيد علي الميرغني الطريقة الميرغنية في مكة، وهاجر جده السيد محمد عثمان الميرغني من مكة إلى سواكن فكسلا، فنشر طريقته في شرقي السودان، ولما توفي قام مقامه ابنه السيد الحسن الميرغني، وبعده ولده السيد محمد عثمان والد السيد علي الميرغني، وقد وطد آل الميرغني دعائم الدين الإسلامي في السودان، بما نشر السيد محمد عثمان الميرغني الكبير من الأهازيج والقصائد والمدائح النبوية، بما يوافق حداء الإبل وأغاني الأفراح والمآتم في البادية في لغة سهلة ولهجات تلائم كل قبيلة. وللطريقة الميرغنية في باب الوزير بالقاهرة زاوية وتكية، ويأخذ بها النوبيون وسكان أسوان وإريتريا، ولهم خلفاء.
ومنذ عهد بعيد منحت الحكومة البريطانية السيد الميرغني وسام القديسين ميخائيل وجورج ونيشان فيكتوريا من درجة فارس، وهما يمنحان لقب سير.
والسيد علي الميرغني في الخامسة والخمسين من عمره — بالحساب الهجري — وهو نحيف الجسم، قصير القامة، حاد البصر، هادئ الطبع، متواضع، حلو الحديث، أسمر البشرة كسكان مديرية أسوان. هاجر وهو صبي من كسلا إلى سواكن إلى القاهرة، حيث نشأ فيها، ثم عاد إلى السودان بعد انتهاء الثورة المهدية؛ لأن الميرغنيين كانوا خصومًا لها وأنصارًا للحكومة المصرية.
والسادة الميرغنية من أشراف الحسينية بمكة، وينظر إليهم السودانيون كأبناء بيت النبوة.
ثم انصرفنا من دار السيد الميرغني وزرنا سراي الحاكم العام بالسودان، ويقولون عنها «السراي» وهو معدود نائب الملك، ولذا فهو عادة لا يقبل دعوة من فرد، وقد قيدنا أسماءنا في دفتر المقابلات، في مدخل السراي، وشهدنا سيوفًا وخناجر وحرابًا وبنادق ومتراليوزات ودروعًا وتروسًا للإنجليز والجيش المصري والدراويش المهديين، تمثل الأسلحة التي استعملت في فتح السودان واستعادته والثورة المهدية، كما يرى الزائر لديوان وزارة الحربية المصرية شارع الفلكي بالقاهرة الأسلحة المعلقة بجدرانها. ورأينا الأثر الذي كان به السلم إلى دار غوردون باشا، وفي محله صورة تمثله في ملابسه الرسمية وجاكتته مفتوحة عند أعلى درج السلم والدراويش يحملون الحراب ويهجمون عليه.
ثم زرنا الغرفة التجارية بالخرطوم واستقبلنا مسيو كونتو ميخالوس والسيد عبد المنعم ويونس محمد ومصطفى أبو العلا وتوتنجي وكفوري والأديب معاوية محمد نور سكرتير الغرفة، وغيرهم.
وقد عقد اجتماع تأيَّد فيه القرار السابق بتأليف لجنة زراعية مصرية سودانية وأخرى تجارية.
ثم زرت منفردًا مكتب جريدة حضارة السودان مع فضيلة رئيس تحريرها فضيلة الأديب الشيخ أحمد عثمان القاضي، ثم زرت جريدة السودان لصاحبيها الشيخ عبد الرحمن أحمد والسيد السواكني.
بعد ذلك مررت بشوارع الخرطوم فألفيتها واسعة نظيفة وهادئة، والمباني من طبقة واحدة، والأسواق عامرة بمطالب الحياة، وللترام خطوط ثلاثة؛ هي خط دائري، وخط إلى خرطوم بحري، وخط من الوسط إلى أم درمان يمر بالخرطوم بكوبري على النيل الأبيض، الذي يلتقي بالنيل الأزرق عند الخرطوم، ويشبه ترام الخرطوم أقدم طراز لترام القاهرة، وبه درجتان، ويوجد تذاكر ذهاب وإياب بقيمة مخفضة. وأسعار التاكسي معتدلة، وتوجد عربات ركوب يجرها جواد واحد.
وليس بالخرطوم ولا بأي مدينة مجارٍ، ولكنهم في كل مكان يضعون الجرادل تحت المراحيض وتنقل الجرادل ليلًا ويوميًّا، كما في رأس البر.
ومررنا بكلية غوردون، وتعد من مصاف المدارس المتوسطة في مصر، ولكن برنامجها أصبح أقل من قبل، وبها الأقسام التالية: قسم لتخريج المترجمين والكتبة، قسم المحاسبين، قسم القضاة الشرعيين، قسم المهندسين، قسم المعلمين، قسم إعدادي يدخل خريجوه مدرسة كتشنر الطبية، ويوجد قسم داخلي للكلية.
وأكثر منازل الخرطوم من الطوب الأحمر المحروق، وتتصل بالحدائق. وهي مدينة حديثة أنشأها محمد علي الكبير، وخربتها الثورة المهدية ونقلت العاصمة إلى جارتها أم درمان التي تحتفظ بالحي الوطني والمنازل القديمة. وقد جُدد بناء الخرطوم بعد استعادة السودان.
(٢-١) حفلة الغرفة التجارية السودانية
خطب رئيس الغرفة وبعض أعضاء البعثة
أقامت الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم في دارها الخاصة المنظمة الأنيقة الملحق بها حديقة، بعد ظهر اليوم، حفلة شاي تكريمًا لأعضاء البعثة، حضرها الكثيرون من التجار والوجهاء.
خطاب مسيو كونتو ميخالوس
بالنيابة عن لجنة وأعضاء الغرفة التجارية أريد أن أبث إليكم جميعًا ترحابًا قلبيًّا. لما كان لي الشرف في مقابلة بعضكم في القاهرة في يوليو الماضي، صرحت بمحاولة ترتيب زيارة السودان.
وبأننا نحن من جهتنا هنا سنعمل على رد هذه الزيارة؛ ذلك لأني فكرت أن هذه أحسن وسيلة لتقريب التجار بعضهم لبعض، وبعمل كهذا نكون قد مهدنا الطريق لحسن التفاهم بين بلدينا.
وإني أعبر عن جميع من في السودان بشعور الشكر والامتنان لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون وللجنة الجمعية الزراعية الملكية، ولسعادة يوسف باشا قطاوي، ولحضرة عبد المجيد أفندي الرمالي الأول رئيس والثاني سكرتير غرفة القاهرة التجارية، ولسعادة أمين يحيى باشا وشكري خميس أفندي الأول رئيس والثاني سكرتير غرفة الإسكندرية التجارية، وللجنة النقابة الزراعية المصرية العامة؛ لتلبية الدعوة وترتيب هذه البعثة في السودان.
للسودان أصدقاء كثيرون في القطر المصري، ولكن ليس فيهم الحماس الكافي الذي نشهده في ضيفنا الرفيع فؤاد أباظة بك؛ فنحن مدينون له أكثر مما نحن مدينون لغيره؛ نظرًا للمتاعب التي يتحملها ليوحي إلى الشعب في مصر الثقة بالسودان، ولأنه رسول التعاون وترويج صلات الصداقة بين شعبي القطرين. للعائلة الأباظية أبناء ممتازون كثيرون، ويحق لي أن أطلب من فؤاد بك أن يتنازل عن لقب «أباظة» وأن يسمي نفسه «فؤاد بك السوداني».
لقد انقضى أسبوعان على نزولكم في بور سودان، ولقد سافرنا معًا إلى سواكن وطوكر وكسلا والقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتي وأم روابة والأبيض، وقفلنا راجعين إلى أبا وجزيرة الخرطوم، وهي المراكز المهمة، ولقد حيِّيتم في كل جهة تحية ودية، وقابلكم الموظفون بوجوه باسمة، وتباحثتم مع الأعيان والتجار الأجانب والوطنيين في جو يسوده الود والصفاء، كما أن جميع أهالي السودان قابلوكم في كل قرية ومحطة مررتم بها ليحيوكم تحية أخوية، وليعبروا عن آمالهم بأن تكون لزيارتكم نتيجة لها أثرها.
نعم نحن هنا زعماء التجارة وطلائع التقدم في السودان ننظر إلى حضوركم بيننا بنفس الآمال الزاهية التي تملأ قلوب سائر السكان.
لقد تكلم المصريون كثيرًا عن السودان، ولكن قليلًا منهم من يلم إلمامًا كافيًا بأحوال معيشتنا وحالات الحياة هنا. وإني متأكد أن بعضهم ليس عنده فكرة صائبة عن التقدم الذي وصلت إليه البلاد منذ إعادة الاحتلال، والطريق الذي مهد السلام، والقانون الذي تسير عليه.
لقد قابلكم حكام المقاطعات في كل محطة، ولقد رأيتموهم في العمل، ولقد سمعتم من أفواههم تاريخ محنهم والصعوبات التي تعوق واجباتهم المعقدة التي يقومون بها، ولقد رأيتم الصداقة التي يعاملون بها الأهالي، وكيف ينظر هؤلاء لتلك الفئة القليلة من الرجال الموزعة هنا وهناك لإقامة العدل والصراحة.
ولقد شاركتمونا قليلًا في رداءة الجو الذي يشتغل فيه هؤلاء الحكام، ولم تسمعوا منهم أي شكوى، بل بالعكس لم يكن هناك سوى حماس وثقة في النفوس، ورضاء عام.
وإذا علمتم أن الحكام والتجار وجميع الأهالي كانوا يشتغلون في السنوات الأخيرة تحت حالات غير طبيعية بأجور مخفضة وخسائر في رأس المال تتوالى، فإني متأكد أنكم تشعرون بأكثر من الإعجاب نحوهم، وأنكم دون شك ستحملون معكم لبلدكم هذا الإعجاب، وستبلغون مواطنيكم ما علمتموه عن الإدارة والأهالي والحياة في السودان، وأن تبينوا لهم الخطوات العظيمة التي خطتها هذه البلاد في طريق التقدم والمدنية بالرغم من الأزمة التي أوقفت نشاطنا وشتتت أفكارنا، وإني أرجو بما توصلتم إليه من معرفة أن تبلغوا مواطنيكم أن السودان لا يحتاج إلى العطف قولًا، وإنما نحن نرجو المساعدة العملية لإنماء مواردنا وزيادة نشاطنا.
في الساعات القليلة التي لم نشتغل فيها بالقطار سنحت لنا الفرصة بأن نتبادل الآراء — كما سنتبادلها مدة إقامتكم هنا — في المسائل المختلفة التي تلفت النظر من الوجهة التجارية والزراعية.
وإني لا أنتظر حصول معجزة لتغيير الحالة بقوة سحرية؛ إذ كل تقدم يحصل سيكون نتيجة مجهود متحد دون ملل من الطرفين.
لهذا السبب أنا لا أنتظر نتائج سريعة من محادثاتنا وتبادل آرائنا، ولكنني أنظر إلى المستقبل بثقة، وآمل أننا في مدة إقامتكم هنا سنضع أساس التعاون بيننا، وبعد رجوعكم إلى مصر ستبدأون في بناء الأعمدة لربط المصالح المختلفة وتكوين لجنة دائمة للسودان تجمع ممثلي تجارتكم وصناعاتكم وزراعتكم.
والغرفة التجارية السودانية تمثل هنا جميع هذه المصالح، وحينئذ ستجعل الهيئتان من واجبهما تبادل الآراء بطريقة مستمرة لإنماء التجارة بين القطرين، ويجب عمل ترتيبات أيضًا لكي تجتمع اللجنتان مرة كل سنة في القاهرة وفي الخرطوم على التعاقب؛ إذ إن اتصال الأفراد بعضهم ببعض ضروري لنجاح مجهوداتنا.
إن المسائل الاقتصادية والتجارية تقود العالم اليوم كما ستقوده في القابل أكثر من أي قوة مسلحة؛ ولهذا السبب آمل في أن زيارتكم سيكون من شأنها أن تمحو شبهات الماضي السيئة بين بلدينا، وأنها ستجمعهما بمجهود خالص نحو الصداقة والمودة.
وأزيدكم القول إن زيارتكم سيكون لها تاريخ وأثر في مستقبل بلدينا، كما ظهر لكم من الاستقبالات الودية التي قابلكم بها جميع الموظفين. حكومة السودان تميل نحو بلدكم، وإن إقامتكم في الخرطوم ستهيئ لكم الفرصة لأن تتبينوا بأنفسكم الحق في كلماتي.
إن السودان كان موضوع نزاع بين ممثلي بلدكم والحكومة البريطانية في المحادثات العديدة التي حدثت، وزيارتكم لنا، واتصالكم بموظفي الحكومة ومن يعتد به، سيجعلكم تعتقدون بأن الأحوال في السودان ليست كما يعتقد مواطنوكم، وأن الأثر الشخصي الذي يرتسم لكم سيجعلكم — كما آمل — قادرين على تذليل الصعاب، وأن يساعد على تحقيق تفاهم شريف بين البلدين اللذين يرفرف علماهما على رءوسنا.
وفي ختام ترحيبي بكم أريد أن أعبر عن امتاننا لسعادة حاكم عام السودان، وكذلك لجميع الحكام وللجنة الغرفة التجارية السودانية الذين عاونوني قلبيًّا على أن تكون زيارتكم سارة. ويصعب عليَّ أن أذكرهم جميعًا بأسمائهم، ولكنكم تتفقون معي أن أخص بالثناء مصلحة السكة الحديد للترتيبات العظيمة التي عملتها لراحتكم.
وأرجو أن تكون ذكريات إقامتكم في السودان سارة ومفيدة. ا.ﻫ.
«تصفيق حاد في مواضع مختلفة.»
خطاب رشوان محفوظ باشا رئيس البعثة
جناب المستر كونتو ميخالوس
حضرات السادة:
وصلت بعثتنا إلى عاصمة السودان، ونفس كل واحد منا مفعمة بعاطفتين تملكانها ولا تزالان تتجاذبانها: عاطفة الشكر وعاطفة الإعجاب.
فإذا أردنا أن نعبر عن شكرنا ألفينا كل بيان عاجزًا عن إيفائكم حقكم؛ فمنذ وطئت أقدامنا هذه البلاد ونحن نقابَل بمنتهى الحفاوة والتكريم في كل مرحلة من مراحل طوافنا وأمارات البشر والترحيب تعلو الوجوه.
ناهيك بما هُيئ لنا من أسباب الراحة وطيب العيش، ومن إتقان في دقائق ذلك يعز مثيله على أي بلد آخر من بلاد الحضارة. ونحن لا ندري — وايم الحق — من من حضراتكم نخص بشكرنا وكلكم قد طوقتم أجيادنا بفضل لن ننساه. على أننا نتوجه بأخلص عبارات الامتنان لحضرة صاحب المعالي الحاكم العام ولحضرات رجال حكومته لما تفضلوا علينا به من جميل الاستقبال والحفاوة، ولما قدموه لبعثتنا من تسهيلات حمَّلت بعضهم مشقة وجهدًا جهيدًا. ونذكر بأطيب الثناء أيضًا حضرات رجال غرفة السودان التجارية، وجناب رئيسها المحترم المستر كونتو ميخالوس لتنظيم رحلتنا تنظيمًا دلَّ على التناهي في حسن الذوق والكرم، وقد جشَّمهم ذلك تعبًا كثيرًا.
أما باقي إخواننا السودانيين؛ تجارهم وزرَّاعهم وأعيانهم ومن انضم إليهم من الأجانب، فلهم منا خالص الحمد وجزيل الشكر على ما غمرونا به من الحفاوة وحسن الاستقبال، ونسأل الله أن يجزيهم عنا الجزاء الأوفى.
إنا نغتبط غاية الاغتباط بما شاهدناه من دلائل التقدم والرقي في مرافق الحياة المختلفة بالسودان من منشآت اقتصادية وأعمال عمومية يفسح المجال لأكبر الآمال، ونشهد للقائمين بها بالحكمة وحسن التدبير. وإن حسن النية المتبادل بين البلدين في العمل على زيادة التعاون الزراعي والاقتصادي بها جدير بأن يتغلب على أية صعوبة لو وجدت في هذا السبيل. ويسرنا أن نعلم أن المناقشات التي تدور بين المختصين من الهيئتين تبشر بالوصول إلى نتيجة ترضاها البلدان، وبذلك يوضع الأساس لمستقبل كله خير وسعادة لهما، وإنه ليهون علينا ما لاقيناه من حرارة الجو في هذه البلاد في بدء رحلتنا في سبيل المهمة التي نسعى إليها، وقد أنستنا حرارة الاستقبال حرارة الجو.
وختامًا نشكر للمسيو كونتو ميخالوس حسن ضيافته لنا في هذه الليلة، كما نشكر له ما بذله وما يبذله دائمًا من جهود في سبيل الغاية المشتركة التي نسعى لها كلنا، وهي زيادة يسر ورخاء السودان ومصر بإحكام الروابط الاقتصادية والزراعية بينهما. «تصفيق متكرر.»
خطاب فؤاد أباظة بك
حضرة رئيس لجنة وأعضاء الغرفة التجارية السودانية
نيابةً عن البعثة المصرية أريد أن أقدم لكم خالص تشكراتنا وامتناننا لتنظيم رحلتنا الذي مُكِّنا من إدراك وجمع المعلومات الهامة التي توصلنا إليها باتصالنا رأسًا بالعناصر التجارية والزراعية في بور سودان وسواكن وطوكر وكسلا وقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتى وأم روابة والأبيض وجزيرة أبا وواد مدني وحصاحيصة وجزء كبير من شرق الجزيرة ومزارع طوكر والخرطوم.
نحن بالفعل نضع — كما قال خطيبكم المفوه — أساسًا لمظهر تجاري بين مصر والسودان، وربما كان هذا هو الوقت المناسب لأسرد لكم قصة هذه الحركة الحالية.
في مثل هذا الوقت تقريبًا من السنة الماضية انتُدِبتُ من الجمعية الزراعية الملكية المصرية لأقوم برحلة جوية سريعة لأجمع معلومات عن نمو القطن وطرق الري في وادي النيل، ولأقدم مذكرة بملاحظاتي للجنة القطن الدولية المنعقدة في القاهرة بتاريخ ١٧ فبراير سنة ١٩٣٤.
كنت موفقًا في إنجاز مهمتي؛ حيث رجعت إلى القاهرة في وقت مناسب لرفع مذكرة جامعية مختصرة، واختتمتها بقولي: «أقول من أهم مسائل وقتنا الحاضر المنظورة هي إعانة القطر المصري بكل ما يحتاج إليه من ماء يزيد فيصرف في أراضي إخواننا المزارعين السودانيين، ولكن يظهر لي من الاعتبارات الاقتصادية والصناعية أن الحالة الحاضرة بين مصر والسودان تحتاج إلى تعاون اقتصادي واتصال مستمر، ومن وجهة نظري فإنه من الممكن حل المشكل على أساس اعتبارات اقتصادية بحتة ليس من الصعب الوصول إليها، وأما من الوجهة السياسية فلا دخل لي في التكلم عنها.»
وقد عرضت فكرتي على صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس الجمعية الزراعية الملكية الذي شملني بعطفه وشجعني، واشتغلنا بها بعد ذلك في لجنة الجمعية الزراعية الملكية، ثم كان لي السرور أن تشرفت بمقابلة جناب السير استيوارت سايمز حاكم االسودان العام في الإسكندرية في يوليو الماضي، كما قابلت صديقي الممتاز المستر ج كونتو ميخالوس لأول مرة.
- (١)
إعداد بناء خاص للسودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم.
- (٢)
تنظيم رحلة للسودان في شهرَي يناير وفبراير القادمين مكونة من أعضاء الغرفة التجارية وكبار الزرَّاع في مصر.
- (٣)
دراسة مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشترى أراضٍ زراعية واستثمارها.
- (٤)
إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم.
- (٥)
دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.
حضرات السادة:
لا يمكنني الاستمرار في سرد القصة قبل أن أذكر أنني مدين حقًّا لجناب حاكم السودان العام ومستشاريه الممتازين ووكيل حكومة السودان في مصر، الذين مهدوا لي الطريق.
فقد عرضت الأمر بصراحة على صاحب المعالي الحاكم العام الذي أحمل له كل إعجاب واحترام، وقد شجعني بثاقب فكره على أن أستمر في فكرتي لمصالح مصر والسودان. ومن جهة أخرى وجدت في مستر كونتو ميخالوس الرجل الدائب العمل للوصول إلى غرضه؛ فقد تكاتفنا معًا للوصول إلى معلومات كافية خاصة بتنمية العلاقات التجارية، كما كان لي الشرف أيضًا في مقابلة المسيو كافوري في القاهرة، وقد زودني بمعلومات وافية.
سادتي:
من دواعي إسداء الجميل لمسيو كونتو ميخالوس الذي كان له الشجاعة التامة بتصريحه جهارًا بأفكاره وآرائه، وقد تكرم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر بمنحه نيشان النيل من الدرجة الثالثة.
سادتي:
بفضل تشجيع وزعامة صاحب السمو الأمير عمر طوسون الذي يرجع فضل وجودنا اليوم هنا إليه، سنتباحث جديًّا مع رئيس وأعضاء الغرفة السودانية وأعضاء الجمعية الزراعية والغرفة التجارية في الإسكندرية في المسائل المختلفة التي تقف في طريقنا، وإني واثق من أن حسن الإرادة والنية من الطرفين سيصل بنا — كما آمل — إلى نتائج مرضية.
يا حضرة الرئيس: أشكركم كثيرًا على الكلمات الطيبة الخاصة بمعاونتي الوضيعة للسودان. إنه شرف لي أن أُدعى «فؤاد بك السوداني»؛ فإني أحب السودان، والحاضرون هنا من مصر وجميع المصريين عمومًا يشعرون بنفس شعوري وزملائي بما قوبلنا به منذ نزولنا لبور سودان إلى وصولنا للخرطوم، كما أننا مغتبطون مما رأيناه وسمعناه من جميع أصدقائنا السودانيين وجميع رجال الحكومة والسكان الأجانب وسائر أهل السودان الذين غمرونا بفضلهم وعملوا على أن تكون زيارتنا لطيفة وموفقة.
إن المدينة كبيرة وذات جاذبية، وقد تحمَّل أعضاء ومندوبو الغرفة التجارية تعبًا شديدًا لكي يجعلونا نشعر بأننا في بلادنا، كما أن رجال مصلحة السكك الحديدية والهيئات الأخرى سهلوا لنا الإقامة، حتى إن زملائي لم يشعروا بأي تعب، ونحن نأسف أن نرى برنامج رحلتنا يقرب من النهاية.
سنجلس للعمل ونتفاهم على كل النقط من وجهة المعاملة، وسنحمل إلى مواطنينا في مصر وصف مقابلات السودان الحماسية، ونخبرهم بما رأينا وما سمعنا، وستقوم لجنة متحدة بتبادل الآراء في سبيل التقدم المستمر. والمصريون ينتظرون زيارتكم للقاهرة والقطر المصري في وقت افتتاح المعرض الزراعي الصناعي الذي أرجو أن يكون فرصة مناسبة لتحقيق أغراضنا.
زميلاي السيد عبد المجيد الرمالي سكرتير غرفة القاهرة التجارية، وعلي أفندي خميس سكرتير غرفة الإسكندرية التجارية، سيتكلمان معكم في المسائل التجارية.
حضرات السادة:
أحمل إليكم شكر سمو الأمير عمر طوسون لكل ما قدمتموه لنا، وإن لسموه رغبة قوية في تنمية العلاقات التجارية لفائدة ومنفعة الطرفين.
«تصفيق حاد في مواضع مختلفة.»
كلمة السيد عبد المجيد الرمالي
جناب المسيو كونتو ميخالوس رئيس غرفة الخرطوم وحضرات زملائه
الأفاضل
إخواني:
أرجو أن تسمحوا لي بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن حضرة صاحب السعادة يوسف قطاوي باشا رئيس الغرفة المصرية التجارية للقاهرة الذي كان بوده الحضور شخصيًّا لولا ظروف طارئة حالت دون ذلك — أن أقدم إلى التاجر الكبير والرجل العامل المسيو كونتو ميخالوس رئيس غرفة الخرطوم التجارية جزيل الشكر على دعوته الكريمة لنا وتمهيده السبيل لهذا الاجتماع الحافل، كما أشكر السودانيين جميعًا ما لقيناه ونلقاه من الكرم والحفاوة في كل مكان نزلنا به.
إن أكبر أمل يجيش بنفوسنا نحن المصريين وأرباب الأعمال والتجارة بوجه خاص، هو أن تصبح العلائق الاقتصادية أوثق ما يمكن أن تكون بين مصر والسودان؛ لا سيما وقد أتاحت زيارة جناب المستر كونتو ميخالوس لبلادنا المصرية وزيارته للغرفة التجارية واتصاله بكبار رجال المال والأعمال في مصر — فرصة للتعبير عن ذلك الأمل، وها هو يهيئ لنا اليوم فرصة أخرى بهذا الاجتماع.
والواقع أنه إذا وجب أن تتوطد الصلات التجارية والاقتصادية بين بلدين فإن ذلك أوجب ما يكون بين القطرين الشقيقين: مصر والسودان، اللذين يصل النيل بينهما ويجعلهما بمثابة أرض واحدة. وهذا فضلًا عن الأواصر التاريخية والاجتماعية والدينية التي تربط المصريين بإخوانهم السودانيين.
وجدير بهذه الروابط القوية أن تكون سببًا في زيادة الحركة التجارية بين القطرين؛ حتى يكون كل منهما أول سوق تتجه إليها حاصلات الآخر ومنتجاته.
وإن حضراتكم لا شك تعلمون مبلغ التقدم الذي بلغته الصناعات في مصر، وهو تقدم مطرد تغذيه الحكومة المصرية بالمعونة وتمده الآمة بالتشجيع. وبديهي أن تتجه أنظار أرباب المصانع المصرية إلى السودان؛ خصوصًا وأن الذوق المصري يناسب أهله لتشابه العادات والأحوال الاجتماعية في البلدين.
والذي نرجوه نحن أرباب التجارة والأعمال في مصر، وتأمله جميع الغرف التجارية المصرية، هو أن تجد البضائع المصرية في السودان كل تسهيل مستطاع، وأن تلقى البضائع السودانية في الوقت نفسه كل معونة في مصر، وبهذا تزيد الحركة التجارية بين القطرين وتنشط النشاط المأمول، وبه تتحقق أمنية عزيزة عند المصريين والسودانيين سواء بسواء.
وإني كممثل لغرفة القاهرة التجارية يسرني أن أعلن لحضرتكم أن الغرف التجارية المصرية ستكون خير عون لتوثيق الروابط التجارية بين القطرين، كما أنها ستكون أكبر عامل لتوطيدها والسلام. «تصفيق متكرر.»
(٣) اليوم الثالث: زيارة خزان جبل الأولياء
(٣-١) الخرطوم في يوم الأحد ١٠ فبراير
بعد أن تناول الأعضاء طعام الإفطار صباح اليوم — الأحد ١٠ فبراير الجاري — توجهوا بالسيارات يرافقهم حضرات أعضاء لجنة الاستقبال وكبار المصريين بالخرطوم، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان وفريق من أعيان الخرطوم — لزيارة خزان جبل الأولياء.
(٣-٢) السياسة وخزان جبل الأولياء
أصبح اسم «خزان جبل الأولياء» مشهورًا في التاريخ المصري، مذكورًا في السياسة المصرية، وطالما كان اسمًا مرعبًا. كان المشروع مثار جدل ومناقشات فنية ومالية وسياسية في الهيئات الرسمية وغيرها، لقد ترددت الوزارات المصرية التي وافقت عليه في تنفيذه، ولكن وزارة واحدة — هي وزارة دولة إسماعيل صدقي باشا — قد نفذته في وسط سخط الرأي العام وفي أتون مخاوفه، وطالما حوكمت صحف بسبب انتقاد المشروع.
والآن وقد أصبح المشروع عند منتصف تنفيذه، وتقيدت الحكومة المصرية بمقاولته، فقد صار من الطبيعي أن يهتم المصريون بالوقوف على حالة العمل، وأن تزور البعثة المصرية للسودان الخزان ومنطقته، حتى ينقلوا لإخوانهم ما عرفوا عن كثب. وهذا برنامج صباح اليوم.
(٣-٣) تاريخ مشروع الخزان
في سنة ١٩٠٢ قامت بعثة المهندسين الإنجليز برياسة جناب سير ويليم جارستين مستشار نظارة الأشغال المصرية سابقًا، بدراسة دقيقة لأعالي النيل وفروعه، وقد أودع جنابه أبحاثه ومقترحاته كتابًا ضخمًا طبعته الحكومة المصرية عام ١٩٠٤ بعنوان «الدليل في موارد أعالي النيل»، وهو يتضمن برنامج الأعمال المقترح تنفيذها على النيل من منابعه إلى مصبه، وبالكتاب نبذة لحضرة مستر ديبوي تتناول بحوثه أنهار السودان الشرقي وبحيرة تانا بالحبشة.
وقد كان مستر ديبوي المذكور مفتشًا عامًّا لري السودان عندما قام ببحوثه، وعُين بعد ذلك مستشارًا للأشغال المصرية، وهو صاحب مشروع خزان جبل الأولياء الجديد الذي أقره مجلس الوزراء في ٣ يناير سنة ١٩٣٢ مع تعديل خفيف في تفصيلات المشروع.
ويعد كتاب «الدليل في موارد أعالي النيل» لويليم جارستين دستور الحكومة البريطانية وحكومة السودان في ضبط النيل وفي إقامة مشروعات الري الكبرى، ويجب أن يعلم الناس أن البرلمان الإنجليزي قد أقر الدستور الذي وضعه سير جاستين عام ١٩٠٤، وحرصت وزارة الأشغال المصرية على تنفيذ هذا الدستور بولاء.
أساس دستور ضبط النيل أنه: «إذا كان الغرض تخزين مياه لسد جميع حاجات القطر المصري فإنه يوجد داخل حدود مصر مواقع تكفي لتخزين ما يكفي لهذا الغرض.»
«بما أن السودان فقير الميزانية ويحتاج للتعمير وبه أراضٍ واسعة وصالحة للزراعة على ضفاف النيل، فيجب عند التفكير في أعمال الري الكبرى أن يراعى صالح السودان أيضًا.»
وقد اعتمد مجلس الوزراء الأموال اللازمة لإنشاء خزان جبل الأولياء، وأُدرجت بميزانية سنة ١٩٣٢ المقدمة لمجلس النواب طبقًا لتصميم المستر ديبوي.
والخزان يمر بمديرية النيل الأبيض بطول ٣٣٠ كيلو مترًا، ومساحة هذه المديرية ثمانية ملايين من الأفدنة ذات أراضٍ زراعية لا طريق لريها إلا من مياه هذا الخزان.
مساحة الأراضي التي تحصِّل وزارة المالية المصرية ضرائب عنها هي ٥٥٥٤٠٠٠ فدان.
وألاحظ بغرابة أن وزارة الأشغال بكتاب ضبط النيل صحيفة ١١ (إنكليزي) قدرتها ﺑ ٢٠٠٠٠٠ فدان، ومع المساحة السابقة مليون فدان تُروى ريًّا حوضيًّا والباقي ريًّا مستديمًا، ويلزم لري هذه المساحة سنويًّا ٣٥٣٠٠ مليار متر مكعب.
ويلزم مصر للملاحة وللأعمال الصحية ولمياه الشرب وغيره في المدن نحو ستة مليارات.
وتكون حاجة مصر في الوقت الحاضر أكثر من ٤١ مليارًا المعادل لكل تصرف النيل في سنة ١٩١٣–١٤.
إذن تكون الزيادة المقدر خزنها بجبل الأولياء وقدرها ٧٫٣٧ مليار متر مكعب هي خيالية لا وجود لها.
مشروعات سد النيل الأبيض وسد النيل الأزرق يضعان مصر تحت رحمة القابضين على أمر السودان، وبهذا تفقد مصر حريتها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخها من أيام مينا لليوم. لقد أُعميت مصر ثم أُجبرت أن تصيغ بنفسها لنفسها قيودها الفولاذية.
لا نزاع أن لمشروع جبل الأولياء عيوبًا جلية؛ فموقع هذا السد مع احتمال استخدامه للأضرار بمصر قد أثار ثائرة الشعور السياسي، ثم إن ارتفاع نسبة ما يضيع من الماء في الخزان قد عرَّض المشروع لمطاعن شديدة من الوجهة الهندسية، هذا إلى أن نفقات العمل هي من الجسامة بحيث لا تحتملها موارد مصر المتيسرة في الوقت الحاضر.
وفي معرض النظر الآن إنشاء خزان تبلغ نفقته نصف مليون جنيه أو ثلاثة أرباع مليون جنيه، وهو يقتضي إنشاء قناطر على النيل الأبيض بقرب موضع اقترانه بالنيل الأزرق، وقد تصل هذه القناطر الخرطوم بأم درمان، فهذا الخزان يسد النقص في الماء اللازم لري الجزيرة ويزيد ماء الري الصيفي في القطر المصري زيادة كبيرة، ومن فوائده أيضًا التحكم بمياه الفيضان في أشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، فتنتفع حياض الوجه القبلي بمصر، ويروي أراضي شاسعة من بر مديرية كردفان على النيل الأبيض ري فيضان.
والأرجح أن هذا المشروع يكون جزءًا غير قابل الانفصال من مشروع الجزيرة، فيدور العمل في المشروعين معًا. وقد وجدوا مكانًا ملائمًا لخزان سنار.
وكان للفيضان الواطئ للنيل سنة ١٩١٣ نتيجة أخرى تدعو إلى الخوف؛ لأنه يتبعه انخفاض في مناسيب الماء أكثر من المعتاد في فصل الربيع، وهذا يستلزم أن يكون الماء الصيفي أقل جدًّا من المعتاد. وقد ذكرت في تقريري السابق أنه يحتمل أن تدعو الحال إلى عمل شيء يوقى به القطر المصري من هذا المحذور، وأشرت إلى بناء سد في البحر الأبيض على مقربة من جبل الأولياء، وأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك. وهذا السد لا يكفي وحده لكل حاجة القطر المصري إذا تم استحياء كل أراضي الوجه البحري القابلة للزراعة، وتم تحويل الحياض إلى ري صيفي في كل الوجه القبلي، ولكنه يفي بالحاجة من الآن إلى سنين كثيرة.
وقد لا يكون من حسن التقدير إنشاء هذا السد إذا أُريد به مجرد زيادة الماء الصيفي في القطر المصري؛ لأن الحل الحقيقي لهذه المسألة يقوم على ما يظهر بمعالجة النيل حينما يخرج من البحيرات الكبيرة لكي يجري فيه مقدار كافٍ من الماء دائمًا، ولكن المكان الذي اختير لإنشاء السد يصلح لأن يتحكم فيه بالنيل على نوع لمنع أمواج الفيضان العالية جدًّا من النزول إلى مصر؛ ولذلك فالحكمة تقضي بإنشاء هذا السد لغرضين؛ الأول — وهو المقصود بالذات: منع ضرر الفيضان الفائق الحد. والثاني: صيرورته خزانًا لخزن الماء فوقه. ولكن إنشاؤه لا يغني عن الأعمال اللازمة للتحكم بالمياه عند مصادر النيل في البحيرات الكبيرة لأجل حل مسألة الري الصيفي لكل القطر المصري.
إن سعة خزان جبل الأولياء الفعلية المعدل لمشروع ماكدونالد يجب أن تكون ٤٫٩ مليار متر مكعب في جبل الأولياء، وهذا يعادل ٢٫١ مليار متر مكعب عند أسوان (ص٩٢).
وإبقاء الخزان مملوءًا طول الشتاء سيحول تمامًا دون قيام السودانيين بزراعة الأراضي بطريقة السلوكة كما يفعلون الآن في أشهر الشتاء. بيد أن إبقاء الخزان على منسوب ٣٧٧ باستمرار من أكتوبر إلى مارس مع إنشاء بضع ترع تمتد من حافة النهر إلى الأراضي الواسعة الواقعة فوق هذا المنسوب قليلًا — خليق بأن يمهد الوسائل لزراعة مساحات واسعة من الأراضي التي تزرع الآن على المطر؛ وذلك إذا شاء الأهالي الانتفاع بما يتهيأ لهم من هذه الوسائل بتركيب السواقي والشواديف على الترع (ص٩٣).
- أولًا: هدارات الدال بالشلال الثاني.
- ثانيًا: جزيرة شيري بالشلال الرابع.
- ثالثًا: الهدارات الواقعة تحت أبي حمد بالشلال الخامس.
- رابعًا: هدارات شابلوكا المعروفة بالشلال السادس.
- أولًا: زيادة التخزين بأسوان حتى تصل كمية الانتفاع الصافي منها إلى ٥٥٠٠ مليار متر مكعب بدل ٢٣٠٠ الجاري الانتفاع بها من خزان أسوان الحالي.
- ثانيًا: إنشاء قناة بالسدود لتنتفع منها مصر في مثل ١٣–١٤ بالمقادير الآتية:
- ١٢٠٠ مليار متر مكعب تخزن بأسوان في مثل سنة ١٣–١٤.
- ٢١٠٠ مليار متر مكعب زيادة للري زمن الصيف.
- ٢٥٠٠ مليار متر مكعب زيادة في مياه الفيضان لتخزن بخزان وادي السريان في مثل سنة ١٣–١٤.
- ثالثًا: إنشاء خزان بوادي السريان لخزن ثلاثة مليارات إيرادًا صافيًا.
-
٥٥٠٠ من خزان أسوان بعد تعليته عشرة أمتار.
-
٣٠٠٠ من خزان وادي السريان.
-
٢١٠٠ من إنشاء قناة منطقة السدود.
-
١٠٦٠٠ مليار متر مكعب.
وحالة الزراعة هناك بسيطة أولية، ومدار أمرها إما على المطر أو على الارتفاع والهبوط الطبيعي للنهر. والأمطار في الجهات الشمالية قليلة، ولكن مساطيح النهر واسعة، أما في الجهات الجنوبية فالأمطار أغزر، ولكن المساطيح أضيق. وتعريف لفظة مسطاح في هذا السياق: المساحة المحصورة بين متوسط منسوب الفيضان العالي ومتوسط المنسوب الصيفي المنخفضة.
أما أهالي الأقاليم فشعب فقير جاهل، وطرق الزراعة عندهم في غاية البساطة؛ ففي أثناء هبوط النهر تحفر في الطين حفر بعصًا أو «سلوكة» وتوضع البذرة ثم تُترك وشأنها لتنمو، ومن ثم أصبح هذا النوع من الزراعة يُعرف بزراعة السلوكة. والمحاصيل المستنتجة بهذه الطريقة مقصورة على الحاصلات الغذائية؛ أعني الذرة الشامية وأنواع شتى من الجلبان يتخللها هنا وهنالك قطع متفرقة من القطن للاستهلاك المحلي. وجدير بالذكر أن الأراضي الأكثر ارتفاعًا من الآنفة الذكر؛ أعني الأراضي التي لا يغطيها النيل في حالته العادية، هي الأخصب تربة، وإليها يتحول الأهالي بعد الفيضان العالي أو غِبَّ الأمطار الغزيرة فيزرعونها ويتركون الأراضي المنخفضة بورًا.
المعارضة الشديدة في إنشاء الخزان
لقد كان أول صوت في العالم ارتفع بمعارضة إنشاء خزان جبل الأولياء لأنه يضر بمصر هو صوت المرحوم الكولونيل كندي باشا المهندس القدير ومدير الأشغال بالسودان سابقًا، وقد انتقد المشروع لجنة المهندسين المصريين الأحرار سنة ١٩٢٠، والمهندس إبراهيم زكي، وكان الوفد المصري معارضًا في المشروع، وله بيانات في هذا الصدد، وكذلك انتقده سعادة عثمان محرم باشا وزير الأشغال سابقًا والمرحوم محمد زغلول باشا وكيلها الأسبق في مذكرة نشرت سنة ١٩٢٩، ووضع حضرة الأستاذ عبد الحليم إلياس نصير مذكرة وافية بوجوه الاعتراض على إنشاء ذلك الخزان، وللأستاذ حسن صبري بك وزير المالية السابق ووزير مصر المفوض بلندن الآن مذكرة وُزعت على أعضاء مجلس الشيوخ سنة ١٩٣٢، وكان نواب الحزب الوطني في البرلمان السابق معارضين للمشروع، وانتقدته الصحف الحرة.
وقد وصف الأستاذ نصير «سير ولكوكس» الذي عارض المشروع فقال: «شيخ جاوز الحلقة الثامنة وتراه كأنه في ميعة الصبي، قامة معتدلة، وهامة مرتفعة، وصحة بادية، ونور من اليقين يشع بين عينيه ويملأ شفتيه ويبدو على أسارير وجهه، وهو مهندس إنجليزي تربى في الهند، وشاد مجده العلمي بالاطلاع والدرس والاجتهاد في ساحة الحياة العملية، فظهر نبوغه وذاع صيته في الآفاق، واشتهر الرجل بالشجاعة والعلم والإخلاص وحب الفلاحين؛ لهذا عندما رأى إصرار الحكومة الإنجليزية على حمل الحكومة المصرية على قبول إنشاء خزان جبل الأولياء أعلن رأيه بصراحة ولم يدع دائرة من دوائر النفوذ دون أن يكاشفها بمضار المشروع على مصر والمصريين، وشهَّر بحكومة بلاده تشهيرًا عظيمًا أمام حكومات العالم، ودافع عن حقوق مصر الضعيفة دفاعًا باهرًا تتعطر بذكره جميع الأجيال، ولولا مناهضة هذا الرجل لتمت المشروعات التي أرادها الإنجليز في الخفاء وأهل مصر في سبات ونوم عميق. ولقد ضحى الرجل بنفسه وماله ومركزه الأدبي أمام حكومة بلاده.
وقد أمرت الحكومة البريطانية بمحاكمته أمام محكمة القنصلية البريطانية بمصر في سنة ١٩٢١، وأُقيمت الدعوى عليه هو وكندي باشا بتهمة قذفهما في حق سير مكدونالد صاحب المشروع الكبير لخزان جبل الأولياء، وبتهمة تشهيرهما بمشروعات الري وإثارة الشعور المصري، وبتهمة أخرى لم تُنْشر وهي تحريض الشعب المصري ضد مقام الدولة البريطانية. وتُعد هاته المحاكمة من أهم القضايا الفنية.
وكان من أثر تلك الحملة أن أقرت الحكومة الإنجليزية العدول مؤقتًا عن مشروع خزان الأولياء، ولكنها في الوقت نفسه قضت بمحاكمة كندي وويلكوكس، فجردت كندي باشا من جنسيته الإنجليزية ومن ألقابه ورتبه ونقصت معاشه، وحكمت على السير ولكوكس بالصمت التام عامًا كاملًا، وبحرمانه من الكتابة في مشروعات الخزانات بالسودان لمدة عام.
المشروع بعد الحرب
لجنة المهندسين الوطنيين
بعد الحرب الكبرى اتجهت أنظار الإنجليز إلى تنفيذ المشروع بالسودان؛ وذلك لاستثمار الأموال الإنجليزية، ثم لإيجاد أعمال للشركات والمقاولين الإنجليز، علاوة على تنفيذ برنامج ضبط الماء بالسودان. ونظرًا لخطورة مشروعات النيل الكبرى في السودان بالنسبة لمصر، ونظرًا لوقوف ولكوكس وكندي باشا في وجه تلك المشروعات، فقد استفزَّ هذا الموقف النبيل بعض المهندسين الوطنيين فألَّفوا من بينهم لجنة برئاسة المرحوم عبد الله وهبي باشا، وعضوية حضرات موسى غالب باشا والمهندس إبراهيم زكي ومحمد إسماعيل حب الرمان بك وعبد القوي أحمد بك المهندس المقيم لمشروع خزان جبل الأولياء.
أما سكرتيرية اللجنة فعُهد بها إلى المهندس إبراهيم زكي، وقد قامت هذه اللجنة بأعمال باهرة، ويرجع إلى مجهوداتها كثير من الفضل في عدول وزارة دولة عدلي يكن باشا عن إقرار مشروع خزان جبل الأولياء. وقد نشرت تلك اللجنة على الرأي العام مذكرة هامة بنقد مشروعات الري.
لقد قضيت أربعين عامًا بمصر، وأكلت ملحها، وشربت ماء نيلها، لهذا أرى من الجبن والنذالة أن أقف مكتوف اليدين، بينما أشاهد بعينَي رأسي أن مصر الضعيفة يُراد قتلها باستعبادها وإذلالها بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ؛ إذ يُراد قتلها بواسطة مشروعات الري التي يُراد إقامتها بالسودان للتحكم في مياه مصر ولاغتصاب حقوقها في ماء النيل لاستعماله بالسودان.
تقرير المستر ديبوي في مايو سنة ١٩٢٣
بقرار مجلس الوزراء الصادر في نوفمبر سنة ١٩٢١ نُدب المستر ديبوي الذي كان مستشارًا لوزارة الأشغال العمومية لمهام منها بحث مشروعات الري الكبري، وإبداء رأيه فيها، وفي أحسن برنامج لترقية شئون القطر الزراعية — وفي حالة وأعمال مصلحة الري المصرية مع الإشارة بصفة خاصة إلى علاقاتها بغيرها من المصالح الأميرية — ولقد قام بمهمته ووضع تقريره في جزءين كبيرين قدمهما إلى رياسة مجلس الوزراء.
ثم فحصت الموقف الراهن فألفيت البلاد مثقلة ببرنامج أعمال مترامي الأطراف واسع النطاق، يرمي إلى تحسين الأحوال الزراعية واستثمار الأراضي البور، ولكن البلاد عاجزة من الوجهة المالية عن السير به …
… وعندي أن السبب الذي أدى إلى هذا الموقف يرجع بالأكثرية … ثانيًا إلى عدم وجود أية رقابة مالية فعالة على الشروع في أعمال كبيرة تقتضي إنفاق أموال طائلة.
وأما فيما يختص بالسبب الثاني فقد أبديت من المقترحات ما أرجو أن يؤدي إلى إيجاد رقابة مالية أعظم إحكامًا وأشد فعلًا؛ وذلك — أولًا — بأن جعلت الاعتبار الأهم مقدرة القطر المالية لا حاجته المفروضة إلى سرعة النمو.
وأخيرًا بأن أشرت بعدم فتح اعتمادات مالية لهذه الأعمال إلا بعد تقديم مقايسات مفصلة وافية …
لا نزاع في أن لمشروع سد جبل الأولياء عيوبًا جلية؛ فموقع هذا العمل مع احتمال استخدامه للأضرار بمصر قد أثار ثائرة الشعور السياسي، ثم إن ارتفاع نسبة ما يضيع من الماء في الخزان قد عرَّض المشروع لمطاعن شديدة من الوجهة الهندسية …
هذا إلى أن نفقات العمل هي من الجسامة بحيث لا تحتملها موارد مصر المتيسرة في الوقت الحاضر …
فنظرًا إلى خطورة هذه الاعتراضات الموجهة إلى المشروع كان القرار الذي أُصدر في مايو سنة ١٩٢١ بإيقاف العمل مبررًا — فيما أرى — كل التبرير.
ولا أظن أن استئناف العمل يكون من الأمور الممكنة أو المستحسنة، اللهم إلا بعد أن يعاد النظر في الحالة بدقة وعناية.
- (١)
تحسين الصرف.
- (٢)
زيادة المياه الصيفية.
- (٣) التوسع في استصلاح الأراضي البور وفاءً بمطالب السكان المتزايدة بسرعة. والظاهر أن التحسين المطلوب للصرف هو على ثلاثة أضرب:
- أولًا: تحسين المصارف الحالية.
- ثانيًا: تجديد وسائل الصرف في الجهات الخالية منها الآن. وهذا ينحصر بوجه عام في تمديد بعض المصارف الحالية أو إنشاء مصارف فرعية.
على أن تدبير المزيد من المياه الصيفية عمل باهظ الكلفة بطبيعة الحال، ولئن كنت أميل شخصيًّا إلى اعتباره في المنزلة الأولى من الأهمية والاستعجال، فإن هناك من الصعوبات المالية وغيرها ما قد يحتم تأجيل الأعمال اللازمة لهذا الغرض زمنًا معينًا يمكن في أثنائه تخصيص كل ما يتيسر من الأموال لتحسين الصرف.
والواقع أن هذا البرنامج (البرنامج المبسوط في كتاب ضبط النيل) قد وُجد بعيد المطمح فادح النفقة، فتقرر إيقاف العمل به. والظاهر أنه لا مفر من الاعتراف بأنه بحالته الأصلية خليق بالإهمال نهائيًّا، وأنه لا بد من الاستعاضة به ببرنامج معدل يرمي إلى مباشرة العمل اللازم على مراحل متتابعة وبنسب محتملة.
ثم تكلم عن أعمال الصرف اللازمة في الوجهين القبلي والبحري.
رأت الوزارة أن تأخذ بنظرية المستر ديبوي في إنشاء الخزان الواطي لا الخزان العالي، كما كان يرى ذلك السير مردوخ ماكدونالد.
وعلى ذلك فالتكاليف يجب أن تكون تكاليف الخزان الواطي.
وقد قدر الخزان وفق هذا المنسوب أن تكون سعته ٣٠٠٠ مليون متر مكعب عند جبل الأولياء، وأن هذا المقدار من الماء يصل إلى خزان أسوان أقل من ذلك بحيث يفقد بالتبخر في الطريق تسعمائة مليون متر مكعب، وبذلك يصبح الرصيد الصافي فقط مليارين ومائة مليون متر مكعب عند أسوان، وهذا الصافي الذي فرض أن ينتفع به القطر المصري في التوسع الزراعي.
إمكان تعلية الخزان
وقد جعلت وزارة الأشغال المشروع على قاعدة أن يسمح تصميمه في المستقبل بتعليته، وبذلك وضع أسس خزان الأولياء بكيفية فنية تكفل إجراء التعلية في المستقبل ليسع حوالي ١٧ مليارًا من الأمتار المكعبة.
نفقات الخزان
اقتصرت وزارة الأشغال في مذكرتها المرفوعة إلى مجلس الوزراء بتاريخ ٣ يناير سنة ١٩٣٢ على تقدير نفقات الخزان ذاته بمبلغ أربعة ملايين ونصف المليون من الجنيهات المصرية، يدخل ضمنها ثلاثة أرباع المليون تدفعها الحكومة المصرية إلى حكومة السودان تعويضًا عن الأراضي التي يحتمل أن تغمرها مياه خزان الأولياء، وكذا عن أضرار القرى.
مزايا المشروع الحالي
ذكرت وزارة الأشغال أن هذا الخزان سيوفر للقطر المصري حوالي مليارين للانتفاع صيفيًّا، وأن هذا الخزان في الوقت نفسه له فائدة أخرى هامة، وهي منع خطر الفيضانات العالية ودفع أذاها عن القطر المصري.
وإن لخزان أسوان مزية واحدة فقط، وهي تخزين كمية محددة من المياه تنتفع بها مصر صيفيًّا.
قدرت وزارة الأشغال بمذكرتها المؤرخة ٣ يناير سنة ١٩٣٢ تكاليف هذا الخزان الواطي بمبلغ ٤٥٠٠٠٠٠ج.م.
وقد كانت وزارة الأشغال قدرت هذه التكاليف نفسها بمذكرتها المؤرخة ٧ يناير سنة ١٩٢٩ بمبلغ ٣٥٠٠٠٠٠ج.م (تراجع الصفحة ٤٠ من مذكرة وزارة الأشغال المطبوعة سنة ١٩٣٢ التي وُزعت على أعضاء مجلس النواب سنة ١٩٣٢).
كان السير مردوخ ماكدونالد يقدر تكاليف الخزان العالي سنة ١٩٢٠ بمبلغ ٢٥٠٠٠٠٠ج.م.
ويقدر السير مردوخ ماكدونالد قيمة التعويضات عن التلف الذي يحصل من جراء إنشاء الخزان العالي بمبلغ ٣٠٠٠٠٠ج.م.
تقرير شفيق باشا لمجلس الوزراء سنة ١٩٢١
في مايو سنة ١٩١٤ عرضت وزارة الأشغال على مجلس الوزراء بناء خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض، واقترحت أن يتم في ثلاث سنوات، وأن تكون تكاليفه كما يأتي:
٢٠٠٠٠٠ج.م في السنة الأولى، و٤٠٠٠٠٠ج.م في السنة الثانية، و٤٠٠٠٠٠ج.م في السنة الثالثة؛ أي تكون تكاليفه كلها مليونًا من الجنيهات …
وفي سنة ١٩١٦ أُعيد البحث في مشروع خزان جبل الأولياء، وأُدرج له اعتماد في سنة ١٩١٧ مقداره ٨٠٠٠ج.م لأعمال تحضيرية، ضم إليه اعتماد إضافي أثناء السنة بمبلغ ١٢٠٠٠ج.م.
وفي سنة ١٩١٨ عندما تغير تقدير قيمة مصاريف الخزان بالمشروع المعدل الذي قدر له مبلغ ١٧٠٠٠٠٠ج.م أُدرج له مبلغ ٧٤٣٠٠ج.م.
وفي فبراير سنة ١٩١٩ أُدرج له مبلغ ١٠٠٠٠٠ج.م، وعُدلت التكاليف إلى ٢٢٠٠٠٠٠ج.م.
وسعة الخزان أربعة مليارات تصبح ثلاثة في أسوان.
ولما كان من شأن إنشاء خزاني سنار وجبل الأولياء إنقاص منسوب الفيضان من ٢٠ سنتيمترًا إلى ١٫٢٠ متر، فينتج من ذلك أن مياه الفيضان ستتأخر خمسة عشر يومًا في الوجه البحري، فإذا لم تُعَد قناطر الدلتا لتعويض ذلك، فإن الضرر الذي ينتج عن تأخر الفيضان هذا لا يمكن تلافيه. وتتأثر بتأخير ونقص ارتفاع ماء النيل في الفيضان السواحل والجزر.
- (أ)
إنشاء قناطر نجع حمادي.
- (ب)
التغيير الجزئي أو الكلي لقناطر إسنا وأسيوط والدلتا.
- (جـ) توسيع بعض ترع الوجه القبلي وتغير منظماتها Regulation.
- (د)
وضع طلمبات في البلاد المحرومة من الفيضان لمناطق أسوان، وعمل مشروعات ضرورية في الوجهين القبلي والبحري. وهذه الأعمال لا تتكلف أقل من ثمانية ملايين جنيه، فيكون المجموع ١٢٠٠٠٠٠٠ج.م.
ومن المحقق أن الضرر يكون أكثر من النفع الذي ينتج عن هذه الزيادة من الماء الصيفي، وفي بعض السنين سنُرى مضطرين لعدم استعمال مياه خزان جبل الأولياء للقضاء على الشراقي، وذلك إذا لم تُنفذ الأعمال المشار إليها قبلًا.
إذا تم الخزانان أثناء فيضان سنة ١٩٢٦ فسينزل مستوى الماء ما بين ٢٠ سنتيمترًا ومترًا و٢٠ سنتيمترًا، وهذا الانخفاض يظهر أثره في زيادة الأطيان التي تتخلف شراقي؛ ولذلك يجب أن تتم المشروعات الأخرى مع تمام الخزانين.
مصاريف إنشاء خزان جبل الأولياء وما يستلزمه تقدر باثني عشر مليون جنيه.
إذا ما صُرف مبلغ ١٢٠٠٠٠٠٠ جنيه حتى سنة ١٩٢٦ يكون لمصر في أسوان مقدار ثلاثة مليارات متر مكعب من الماء. ولكن لم يُعمل شيء للانتفاع بهذا المقدار من الماء إذا ما وُجد؛ ولذلك فوزارة الأشغال تحتاج إلى اثني عشر مليونًا أخرى لإمكان الانتفاع بذلك. ا.ﻫ.
ولقد وافق السير مردوخ ماكدونالد مستشار وزارة الأشغال على هذا التقرير في ٣٠ أبريل سنة ١٩٢١.
بما أنه يتضح من مذكرة مرفوعة من وزارة الأشغال العمومية أن إتمام خزان جبل الأولياء وتنفيذ ما يلحق به من مشروعات الري اللازم عملها لمصر يقتضي من المال مبلغ ١٢٠٠٠٠٠٠ جنيه.
وبما أن الأحوال المالية الحاضرة لا تمكن الحكومة من تدبير مبلغ طائل كهذا المبلغ إلا إذا التجأت إلى الاقتراض، الأمر الذي لا نرغب فيه الآن.
وبما أنه سواء فيما يختص بخزان جبل الأولياء أو بخزان مكوار وترعة الجزيرة لا يستطيع مجلس الوزراء أن يصدر قرارًا حاسمًا بشأن هذه الأعمال قبل الوقوف على نتيجة المفاوضات المزمع إجراؤها بين مصر وبريطانيا العظمى.
- (١)
إيقاف الأعمال الجارية في جبل الأولياء مع المحافظة على ما تم فيها حتى الآن.
- (٢) يرى إيقاف أعمال خزان مكوار وترعة الجزيرة، غير أنه إذا رأت حكومة السودان مواصلة هذه الأعمال على مسئوليتها الخاصة فليكن من المعلوم:
- (أ)
أن هذه الأعمال لا يجوز الانتفاع بها لري أكثر من ٢٠٠٠٠٠ فدان حسب الاتفاق السابق في هذا الشأن.
- (ب)
أن الحكومة المصرية تحفظ لنفسها الحق في تقدير ما تراه إزاء هذه الأعمال، وقرارها هذا يتوقف على نتيجة المفاوضات. ا.ﻫ.
- (أ)
وقد أشار المهندس إبراهيم زكي على الحكومة بصفحة ٩٢ من تقريره المؤرخ مايو سنة ١٩٢٢ (نسخة عربية) حيث قال: «إن خير طريقة لمعالجة مسألة إنشاء هذا الخزان توجيه الاهتمام كله إلى تصميمه بشكل يكون أضيق نطاقًا وأقل كلفة.» بناء على مقترحات مستر ديبوى في تجهيز مشروع جديد مصغر بمعرفة مستر روبرتس مفتش عموم ري السودان على حسب آراء مستر ديبوي.
ثم جاءت وزارة المغفور له سعد باشا زغلول الأولى في سنة ١٩٢٤ فوقفت المشروع ثانيًا للأسباب السابقة، ولما جاءت وزارة زيور باشا في سنتي ١٩٢٥ و١٩٢٦ تجددت فكرة تنفيذ مشروع جبل الأولياء، وفعلًا أُعيد العمل ثانيًا في تجهيز رسومات المشروع لكي يُنفذ فورًا، ورُفعت مذكرة لمجلس الوزراء بطلب فتح الاعتمادات اللازمة للعمل، ووافق عليها مجلس الوزراء وطلب فعلًا من المقاولين زيارة محل الخزان.
ولكن عندما عاد البرلمان وجاءت معه الوزارة الائتلافية لدولة عدلي يكن باشا في صيف سنة ١٩٢٦ قررت وقف العمل ثانيًا، ووافق البرلمان على ذلك، وعلى أن يبحث مشروع تعلية خزان أسوان بحثًا فنيًّا جديًّا؛ لأن هذا البحث لم يحصل قبل ذلك بالرغم من أن معالي محمد شفيق باشا عندما وقف العمل أولًا أمر بعمل هذه المباحث، ولكن للأسف بعد خروجه لم تعمل وزارة الأشغال شيئًا مما كان قد أمر به.
وسرعان ما ألَّفت وزارة الأشغال في عهد عثمان محرم باشا وزير وزير الأشغال المكاتب الفنية اللازمة لإتمام هذه المباحث، حتى يتسنى للحكومة دعوة لجنة فنية دولية للبحث والمفاضلة بين مشروع تعلية خزان أسوان ومشروع جبل الأولياء.
•••
- أولًا: وقاية البلاد من خطر الفيضانات العليا.
- ثانيًا: القيام بأعمال التخزين الكبرى حتى يمكن سد العجز الناشئ عن قلة المياه مدة الصيف.
عطاءات مشروع خزان جبل الأولياء
الاسم | أسمنت إنكليزي (جنيه مصري) | أسمنت مصري (جنيه مصري) |
---|---|---|
مستر ج. جيبسون | ٢٠٧٨٠٨٦ | ٢٠٨٩١١٦ |
الخواجات بلفور وبيتي وشركاهم ليمتد | ٢٥١٤٨٠٥ | ٢٤٩٩١٩٤ |
االخواجات بولنج وشركاهم ليمتد | ٢٠٧٤٥٨١ | ٢٠٨٥١٩٣ |
سير إيفان جونز بارت وعبود باشا ليمتد | ٢٣٢٨٤٣٥ | ٢٣٤٨٥٣٥ |
هذه الإجماليات هي التي أُعطيت بواسطة المقاولين في عطاءاتهم. على أن العطاءات تعدلت في بعض الأحيان تعديلًا كبيرًا تحت اشتراطات خاصة وتحفظات قامت وزارة الأشغال الآن بدرسها، وعلى ذلك لا يمكن أن يعتد بالإجماليات المذكورة عند عمل المقارنة في الوقت الحاضر، كما أن مفردات الأثمان كانت أيضًا محلًّا للفحص والمراجعة.
•••
ولم يقطع برأي في أمر هذه العطاءات قبل الوقوف على التفصيلات وبحثها ومقارنتها بالشروط التي وضعتها الحكومة كقاعدة لتنفيذ المشروع والتعاقد على مقتضى ذلك، ولكن هذه الأرقام الإجمالية تعد على الجملة بيانًا للمفردات وصورة مصغرة لحقيقة التفاصيل والأرقام الواردة في المناقصات، وقد يبدو لأول وهلة أن عطاء الخواجات بولنج وشركاهم هو أقل العطاءات؛ فهم يطلبون٢٠٧٤٥٨١ جنيهًا مصريًّا في حالة استخدام الأسمنت الإنجليزي و٢٠٨٥١٩٣ جنيهًا مصريًّا في حالة استخدام الأسمنت المصري، ويلي بولنج العطاء المقدم من المستر ج. جيبسون البالغ ٢٠٧٨٠٨٦ جنيهًا مصريًّا في حالة استخدام الأسمنت المصري، والعطاء الثالث من محلات السير إيفان جونز وعبود باشا ليمتد ويبلغ ٢٣٢٨٤٣٥ جنيهًا مصريًّا في حالة استعمال الأسمنت الإنجليزي، و٢٣٤٨٥٣٥ في حالة استعمال الأسمنت المصري. والعطاء الرابع لمحلات الخواجات بلفور وبيتي وشركائهم بمبلغ ٢٥١٤٨٠٥ عن الأسمنت الإنجليزي، و٢٤٩٩١٩٤ عن الأسمنت المصري.
هذه العطاءات الأربعة مرتبة بحسب قيمتها، وعلى هذا يكون الأول بولنج والثاني جيبسون والثالث إيفان جونز بارت وعبود والرابع بلفور وبيتي وشركاهم، وقد كانت هناك نقط جوهرية محل البحث الدقيق؛ فإن بولنج صرح في خطابه الأول بعطائه أنه يرغب في مناقشة بشأن النقط الخاصة بالأسمنت المصري الواردة في المادة ٤٩ من شروط العطاء، وفي سعر القطع، فقال إن حالة العملة غير موطدة؛ ولذلك يحتفظ بحرية الكلام فيها، وأضاف إلى ذلك رغبته في مناقشة المادة ٤٨ من هذه الشروط، وهي الخاصة بتأمين الكراكات (هذه الكراكات ملك للحكومة، وقد نص في العطاء على التأمين عليها باسم الحكومة لا باسم المقاول). ولبولنج تحفظات أخرى فنية كانت من شأن لجنة العطاءات.
واحتفظ محل جيبسون بالمناقشة في شأن المهمات العوامة وتأمينها، وفي أمر الأسمنت المصري. وأهم من هذا أو ذاك ما دونه خاصًّا بالعملة المصرية وقوله إنه وضع أسعاره على اعتبار أن الجنيه المصري يبقى حافظًا نسبته الحالية، ومعنى هذا أنه إذا انخفض سعر الجنيه فإنه لا يتقيد بالسعر الذي دونه. وهناك نقطة أخرى، وهي أن المقاول يقول في خطابه للوزارة إنه قدم العطاء باسمه، وفي حالة ما إذا رسا عليه فإن العمل سينفذ بواسطة شركة هو عضو فيها.
وضرب محل بلفور وبيتي على النغمة الخاصة بسعر القطع؛ فقد وضع تحفظًا لذلك وطلب تحديد ما جاء بالشروط في المادة ٧٠ خاصًّا بالعملة؛ لأن سعر القطع غير مستقر. ولكن يجب أن يوجه النظر إلى أن عطاء هذا المحل أعلى من جميع المتقدمين.
والثالث هو العطاء المقدم من محلات السير جونز، وقد لوحظ أن هذه الشركة لم تبدِ تحفظًا في شأن العملة أو في شأن الأسمنت المصري أو فيما عدا ذلك، ومعنى هذا أنها سارت في حدود شروط العطاء.
وقد رسا العطاء على مستر جيبسون وقام بتنفيذ المقاولة.
مستعمرة خزان جبل الأولياء
تبعد مستعمرة خزان جبل الأولياء ٤٥ كيلو مترًا عن مدينة الخرطوم، وترتفع عن سطح البحر بعلو ٦٦ مترًا، وهي منطقة متقلبة الأجواء لدرجة أنه لا يستطيع الإنسان أن يحكم على جو يومه حكمًا صحيحًا؛ فبينما يكون الجو معتدلًا إذا به ينقلب فجأة إلى حر لا يُطاق، أو هواء مشبع بالرمال كالهبوب يعقبه مطر غزير، وقد أعدت مصلحة الري سيارات لنقل الموظفين من الخرطوم إلى منطقة الجبل. والمستعمرة هي مدينة صغيرة منظمة ذات شوارع رملية، وقد قُسمت إلى أقسام مختلفة: قسم لمنازل المهندس المقيم ومساعده ومديري الأعمال والمهندسين الإنجليز، والقسم الثاني خاص بالموظفين ذوي الأسر، وقد بُني على طراز «البلوك»، وكل دار مقسمة إلى شطرين لساكنين، ويحتوي الشطر على حجرة للاستقبال وأخرى للنوم وثالثة للمائدة، وخلفها دورة المياه والمطبخ وغرفة الخادم، وفي الحمام حوض بحنفية وبانيو للاستحمام يعلوه الدوش، والقسم الثالث يشمل مساكن الموظفين المنفردين، وهي بلوكات منقسمة كالسابقة، وفي كل مسكن ثلاث غرف لسكن ثلاثة موظفين من العزاب، وحجرة للطعام، ومن ورائها بيوت الخدم والمطابخ ومكان زير المياه، ودورة المياه ملاصقة لحجرة الطعام، ويحيط بكل بلوك سور من السلك يفصله عن الآخر، وفضاء من الأرض ليكون حديقة، والقسم الرابع لسكن المستخدمين باليومية، وهي مساكن متلاصقة لا حدائق حولها، وقد أُعد كل مسكن منها لإيواء ثمانية من المستخدمين. والأثاث المعد للمنازل كله أبيض اللون، وفي غرف النوم أسرَّة خشبية ودواليب للمتزوجين والرؤساء، وهناك لافومانو وبوريه فوقه مرآة، ومنضدة وكرسي لوضع الحقائب عليه، وكرسي أسيوطي من الخشب الأبيض فوقه غطاء من التيل السميك. وقد أثثت حجرة الاستقبال بعد أن استقر الموظفون في مساكنهم نهائيًّا. وفي حجرة الطعام مائدة وبوفيه ودولاب لأدوات المائدة، وهي مجهزة لكل موظف بما يتفق مع درجته. ولكل قسم من البلوكات خادم خاص يتولى النظافة والطبخ لجماعة من الموظفين، أما بيوت الشركة فهي في غاية التنسيق والترفيه، وهي مكونة من بيتين للموظفين الدائمين وبيت لموظفي الشركة المؤقتين. وهناك بيت خاص بحكومة السودان. أما منزل المستر جيبسون المقاول فهو بديع وبسيط. وفي المستعمرة وابور لتوليد النور لإضاءتها، وقد أُعد حوض ضخم فوق الجبل للمياه تتصل به مواسير لتغذية المساكن، وهي بارزة فوق الأرض تجعل الماء ساخنًا في أثناء النهار، وأُنشئ مخزن للبريد ومخازن أُودعت بها كل حاجة المنازل وأثاثاتها وأدوات المكتب، وبُني مكتب الحكومة على جبل مرتفع يطل من الغرب على النيل الأبيض، ومن الشرق على الجبال، ومن الجنوب على مكتب الشركة الذي بُني على شاطئ النيل الأبيض غاية في التنسيق والفخامة. أما الجهة الشمالية فعليها الطريق المؤدي إلى المستعمرة وإلى مكتب الشركة، ووضعت المهمات التمهيدية للبدء في أعمال الخزان في المنطقة الواقعة بين مكتبي الحكومة والشركة حيث يقام الخزان، ومُدت على الشاطئ سكة حديد يسير عليها قطار صغير لنقل الأحجار والمهمات، ولا يُسمح لأشخاص بركوبها، وللحكومة سيارات خاصة هناك لنقل الموظفين من الخرطوم ولقضاء حاجيات الموظفين، وقد أنشئ الكنتين. وهناك سيارات عمومية للأجرة تتقاضى عن الشخص خمسة قروش في الذهاب أو الأوبة. أما السيارات الخاصة فتتقاضى من ٦٠ إلى ٧٠ قرشًا، على أن لا يزيد ركابها على أربعة أشخاص، أما الحالة المعيشية فموادها الأولية رخيصة، والكماليات من فاكهة وحلوى وسجائر ومشروبات ومشروبات روحية وروائح عطرية وبترول وثلج وبعض أصناف الخضر كالطماطم، أسعارها مرتفعة جدًّا، ويكاد الجبن يكون أغلى ثمنًا من اللحوم! ولا يتيسر الحصول عليه في بعض الأحيان. والملبس والأحذية رخيصة، والأدوات الطبية غالية، والفخار مرتفع الثمن. وقد شُيد مستشفى للمستعمرة مفتوح الآن ويديره طبيبان إنجليزيان وآخران مصري وسوري، وبُدئ العمل رسميًّا في الخزان في شهر ديسمبر سنة ١٩٣٢.
خزان جبل الأولياء والفيضانات العالية
- أولًا: أنه لا يمكن الحجز عليه في فيضان مثل فيضان سنة ١٨٧٨ حينما يبلغ مقاسه ٣٧٧٫٢٠ عند الخزان.
- ثانيًا: أنه لو فرض أننا رفعنا الحجز إلى منسوب الطريق لما أمكن أن يدوم ذلك أكثر من بضعة أيام، وعلى ذلك يتجدد الخطر من الفيضان. وقد راجعت منسوب الطريق فوجدته ٣٧٨ بدلًا من ٣٧٨٫٢٠ كما فرضت قبلًا.
وقد قرأت على صفحات الجرائد في سنة ١٩٣٤ أن الوزارة بعد عدة جلسات قررت تحديد مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات للصرف على تقوية جسور النيل في مدة عشرين سنة. وما حدا بها إلى هذه الاحتياطات إلا ما كتبته في صدد الدورة الزمانية للفيضانات.
وتقدير هذا المبلغ يعد خطأً فنيًّا؛ لأنه يمكن تجنب هذا الصرف بتعلية خزان جبل أولياء، فبدلًا من أن أصرف أربعة ملايين جنيه أصرف في سنة ١٩٣٦ وسنة ١٩٣٧ على التوالي أربعمائة ألف جنيه ونصف مليون على الخزان، فيكون المجموع تسعمائة ألف جنيه.
بل يمكنني أن أصرف سنة ١٩٣٦ مائتي ألف جنيه وأعطي المقاول مائة ألف جنيه، على أن يتم الخزان التعلية في سنة ١٩٣٦، فيكون مجموع المبلغ المصروف ثمانمائة ألف جنيه بدلًا من أربعة ملايين جنيه.
والآن آتي على ذكر مناورات القفل والفتح في خزان جبل أولياء لكي تؤثر في الفيضانات العالية.
ولكي أكون واضحًا في التعبير أذكر ما حدث في السنة الماضية بالضبط «١٩٣٤»؛ فقد كان مقياس الروصيرص يوم ١٩ أغسطس سنة ١٩٣٤ على ٢١٫٥٥؛ أي إن الفيضان كان سيجيء عاليًا كما تنبأت بذلك في السنة الماضية، وكما صرح حضرة صاحب العزة حسين بك سري أخيرًا.
وقد بلغ أعلى منسوب النهر في الروصيرص في سنة ١٩٣٤ في يومي ٢٤ أغسطس و٢٥ منه ٢٢٫٠٤، وبلغ في جبل أولياء يومي ٢ سبتمبر و٣ منه ٧٣٦٫١٧، وكان في الثمانيات يوم ٣ سبتمبر ١٦٫٣٦، وكان قبل ذلك بيوم واحد ١٦٫٣٥.
- أولًا: أن زيادة النيل الأزرق في الروصيرص التي تصل إلى الخرطوم في ثلاثة أيام لا تصل إلى جبل أولياء إلا في تسعة أيام.
- ثانيًا: أن هذه الزيادة بنفسها لا تصل إلى النيل العمومي في مقياس الثمانيات إلا في تسعة أيام.
فما معنى هذا؟
أن هذه الزيادات في فيضانات النيل الأزرق يتأخر وصولها لوجود عامل عظيم. فما هو هذا العامل؟
هو دخول مياه النيل الأزرق عند زيادته في النيل الأبيض، فتقلل من تصرفاته ويتأخر وصول زيادته إلى النيل الأصلي في الثمانيات.
تبلغ هذه الفترة ستة أيام، وتبلغ المسافة التي يدخل فيها أربعمائة كيلو متر على أكثر تقدير. وحيث إن نيل سنة ١٩٣٤ تأخر تأثيره في الثمانيات ستة أيام، فقد تأخر في نيل سنة ١٨٧٨ تسعة أيام.
فلماذا هذا التأخير؟ وهل توجد عوامل تسبب ذلك؟ وهل هذه العوامل ستزول في المستقبل نظرًا للإنشاءات الجديدة التي نقيمها على مجرى النيل في تلك البقاع مثل خزان جبل أولياء؟
والجواب على ذلك صريح، وهو أن خزان جبل أولياء عند استعماله في الفياضانات العالية سيغير من وصول الذروة العليا للفياضانات العالية، فيقدمها ستة أيام عن ميعادها.
التاريخ | الروصيرص | جبل أولياء | الثمانيات على النيل |
---|---|---|---|
٢٤ أغسطس | ٢٢٫٠٠ | ||
٢٥ | ٢٢٫٠٤ | ||
٢٦ | ٢١٫٤٨ | ||
٢٧ | ٢١٫٢٢ | ||
٢٨ | ٢٠٫٤٨ | ١٦٫١٩ | |
٢٩ | ٢٠٫٦٦ | ٢٠٫٦١ | ١٦٫٢٢ |
٣٠ | ٢٠٫٧٣ | ٢٠٫٦٨ | ١٦٫٢٦ |
٣١ | ٢٠٫٠٢ | ٢٠٫٧٦ | ١٦٫٢٨ |
١ سبتمبر | ٢٠٫٧٨ | ١٦٫٣٣ | |
٢ | ٢٠٫٨٥ | ١٦٫٣٥ | |
٣ | ٢٠٫٨٥ | ١٦٫٣٦ |
فيُرى من هذه الملاحظة أنه إذا أُقفل خزان جبل أولياء عند بلوغ فيضان النيل الأزرق في الروصيرص درجة مخيفة، أفضى إقفاله إلى ارتفاع في مجرى النيل في الثمانيات قبل الميعاد بخمسة أيام أو ستة.
وهنا لا بد من الملاحظة الآتية؛ وهي: هل تكون خشم القربة في المستقبل العامل الوحيد في الذروة العليا للفياضانات كما يقول بذلك رجال الري أم لا؟
•••
أثبتنا أن مياه الروصيرص تأخذ زيادتها للوصول إلى جبل أولياء ستة أيام، وكذا إلى الثمانيات حيث مقياس النيل العمومي بحري الخرطوم. وهذا ما جرى فعلًا في سنة ١٩٣٤ حيث بلغ مقياس جبل أولياء ٣٧٦٫١٧ مع أن هذا الخزان مصمم على أن يحجز أمامه على منسوب ٣٧٧٫٢٠ أي بفرق ١٫٠٣ متر، ومن المعلوم أن فيضان السنة الماضية كان دون فيضان سنة ١٨٧٨.
ولكن المهندس في حساباته يلزم أن يتحاشى أكبر الأضرار؛ أي يلزم أن يتبع في تصميماته فيضان سنة ١٨٧٨. وهذا هو المبدأ الذي تسير عليه مصلحة الري إلى الآن في ترميم جسور النيل يجعلها عالية عن منسوب هذه السنة مترًا كاملًا، مع أنه لم يجئ فيضان عالٍ مثله من تلك السنة، وهذا يعد إحدى نقط فخر الفن في مصر لترقب أعلى فيضان حتى ولو مضى عليه زمان طويل، حيث جاءت طائفة من المهندسين لم تره، ومع ذلك فهم حاسبون حسابه.
قلنا إنه إذا جاء الفيضان مماثلًا لسنة ١٨٧٨ فإن الحجز على مستوى الطريق المنسوب ٣٧٨٫٠٠ لا يمنع غوائل الفيضان غير خمسة أيام أو ستة.
ولكن الحالة ستتغير بعد إنشاء خزان جبل الأولياء بحالته الراهنة.
لأن ذروة الفيضان في الروصيرص إن كانت موعدًا لإقفال خزان جبل أولياء ستقدم وصول فيضانه إلى النيل الأصلي ستة أيام، وبالتالي سيقدمها إلى خشم القربة ستة أيام أخرى، وبذلك تجتمع الذروتان في ميعاد واحد تقريبًا، وهنا يجب تحليل هذه المفاجآت لمعرفة مداها في النيل، حيث إن خزان جبل أولياء يكون مقفلًا.
- الخزان الحالي: ٣٧٧٫٢٠ المنسوب ١٤١٠ كيلو مترات مربعة، المسطح المغمور ١٫٦٠٠ مليار استيعاب.
- الخزان المقترح: ٣٧٩٫٣٠ المنسوب ٢٧٥٠ كيلو مترًا مربعًا، المسطح المغمور ٥٫٦٠٠ مليارات استيعاب.
فالفرق بين الاثنين هو أربعة مليارات، وهذا ما يجيء في خلال شهر تقريبًا من النيل الأبيض مدة الفيضان، وحيث إن سطح الخزان الحالي هو على منسوب ٣٧٨٫٠٠، فالأصوب تعليته إلى منسوب ٣٧٩٫٢٠؛ أي بفرق متر وعشرين سنتيمترًا، فإذا جاء نيل عالٍ وخيف على مصر منه حُجزت المياه حتى تصل إلى منسوب ٣٧٩٫٢٠، وهذا لا يهدد سلامة سد الخزان؛ لأنه سبق لمصر أن حجزت على خزان أسوان إلى منسوب الطريق.
- أولًا: تعلية البناء الحالي.
- ثانيًا: مد السدود الترابية من الجانبين.
- ثالثًا: تقوية البوابات الحديدية وتعلية بوابات الهويس.
- رابعًا: بعض التمحك في مصاريف التعويض لاتساع حوض الفرق.
أما الأول والثاني، فمصاريفها قليلة؛ حيث إن مكعب البناء الزائد لا يتعدى اثني عشر ألف متر، فمن باب أولى يكون مد السدود قليل النفقات، ولكن بمنسوب ٣٨٠٫٠٠٠. أما البوابات الحديد فيمكنها أن تقاوم زيادة الضغط بدون تقويتها، غير أن بوابات الهويس يلزم تعليتها، وهذا لا يكلف المصلحة كثيرًا.
أما التعويض فمن السهل الاتفاق عليه؛ حيث إن هذه المياه لا تلبث أن تنحسر عن الأرض بعد بلوغها الذروة العليا؛ لأنها لا تخزن للانتفاع بها في الري، بل لدرء غوائل الفيضان فقط. فصرفها يكون في الزمن الذي يقذف النيل بمائه في البحر الأبيض المتوسط. فالتعويض في هذه الحالة لا يمكن أن يكون على أساس مشابه لتعويض ما يخزن من الماء لاستعماله في الري؛ لا سيما أن علو المياه وصرفها مباشرة سيكشف أرضًا مساحتها ٢٣٣٤٠٠ فدان ارتوت ريًّا حوضيًّا ويمكن زرعها والاستفادة منها. فأمر التعويض في هذه الحالة من الأمور التي يسهل حلها لمصلحة الجانبين.
بداية المشروع إلى تنفيذه
بدئ في المشروع في أول سنة ١٩١٤، ولكن الحرب العالمية في السنة نفسها قد وقفت المشروع ثم أُعيد سنة ١٩٢٠، وقررت وزارة عدلي يكن باشا سنة ١٩٢١ وقفه، ثم جددته وزارة زيور باشا سنة ١٩٢٥، ووقفته وزارة عدلي باشا الائتلافية سنة ١٩٢٦، وعادت وزارة محمد محمود باشا إليه سنة ١٩٢٩ عند وضع اتفاقية النيل المعروفة. على أن هذا لم ينفذ لاستقالة الوزارة، وقد خلفتها وزارة عدلي باشا في أكتوبر سنة ١٩٢٩ حتى نهاية سنة ١٩٢٩، وكانت وزارة انتقال، ثم الوزارة النحاسية الثانية وكانت ضد المشروع طبقًا لقرار الوفد المصري؛ حيث وضع مذكرة فنية وسياسية في بيان مضار المشروع.
وقد وصل عبد القوي أحمد بك في نوفمبر سنة ١٩٣٢، وينص العقد على أن ينتهي العمل كله ويسلم الخزان للحكومة في يوليو سنة ١٩٣٧.
نفقات المشروع
بلغ ما أُنفق على المشروع منذ البدء في تصميمه والبحث فيه والبدء بتنفيذه بإنشاء مساكن للعمال ومكاتب للموظفين، نحو مليون جنيه قبل البداية الأخيرة؛ أي بين سنتي ١٩١٤ و١٩٣٢. من هذا مبلغ مائة ألف جنيه أُنفقت في إنشاء مستعمرة — مساكن العمال والموظفين ومكاتب للعمل — وفي تموين المخازن بالحديد والخشب والأدوات اللازمة. وقد فسد الكثير من ذلك بسبب القرضة — وهي دوبية تأكل الخشب — وبسبب صدأ الحديد.
قررت الوزارة الصدقية سنة ١٩٣٢ المشروع بموافقة البرلمان المنحل، وسافر حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك إلى الخرطوم لإعداد المستعمرة، ولمفاوضة الحكومة السودانية في بعض التفاصيل الخاصة بالتعويضات التي تعطى للأهالي الذين سيغمر ماء الخزان بيوتهم، وبالمستشفى، وبالخط الحديدي الذي ينشأ بين جبل السليتات، وهو الجبل الذي تقتطع أحجاره الجرانيتية وتستعمل في بناء الخزان، وبين موقع الخزان.
ويقع جبل السليتات شمالي الخرطوم وعلى مسافة ٢٠ كيلو مترًا منها، ومن سفح الجبل حتى موقع الأحجار المقتطعة مسافة ثمانية كيلو مترات. ويقع جبل الأولياء جنوبي الخرطوم على مسافة ٤٥ كيلو مترًا، فالمسافة بين السليتات والخزان ٨٣ كيلو مترًا.
المقاول الأصلي والمقاول الفرعي
تقدمت جملة شركات إنجليزية شهيرة؛ ومنها شركة عبود باشا، في المناقصة، وكان أقل عطاء هو لشركة جيبسون، وقد أعطيت لها المقاولة بمبلغ ٢٠٩٨١١٦، ودخل المقاول الإيطالي المعروف بالإسكندرية مسيو دنتمارو وشريكه بركلي مع شركة جيبسون مقاولًا من الباطن لتوريد رؤساء العمال والعمال.
بداية العمل ونهايته
بُدئ العمل في الخزان في أكتوبر سنة ١٩٣٣، ووُضع أول حجر في بنائه في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٣٣، ولم يُحتفل بذلك رسميًّا بسبب الظروف التي كانت عندئذ، ووصل عبد القوي أحمد بك في نوفمبر سنة ١٩٣٢، وينص العقد على أن ينتهي العمل كله ويُسلَّم الخزان للحكومة في يوليو سنة ١٩٣٧.
ولكن يُنتظر أن ينتهي العمل قبل الموعد بستة شهور تقريبًا.
إشراف المهندس المقيم
للمهندس المقيم الحق في طرد أي مقاول من الباطن بسبب فساد العمل أو سوء الإدارة أو أي منافاة لنصوص العقد.
وينص العقد على أن المقاول مسئول عن العمال ومساكنهم وطعامهم والنظام بينهم، وللمهندس المقيم أن يتحقق من توافر ذلك.
وننشر فيما يلي المذكرة التالية.
-
مباني الدبش المقدرة للسد ٢٧٨٤٤٠ مترًا مكعبًا.
-
الحجر المنحوت المقدر للسد ٢٠٠١١ مترًا مكعبًا.
-
الخرسانة المقدرة للسد ١٢٥٦٧٥ مترًا مكعبًا.
-
الستائر الحديدية المقدرة للسد ٨٠٠٠ طن.
-
الأحجار الرملية للتكسيات ١٧٨٥٥١ مترًا مكعبًا.
-
كمية الأسمنت المصري ٨٠٠٠٠ طن.
-
مكعب الردم ٢٩٥٠٠٠ متر مكعب.
-
مجمل مكعبات البناء ٨٩٧٦٧٧ مترًا مكعبًا؛ أي نحو ثلث حجم الهرم الأكبر، وقدره ٢٧٨٤٠٠٠ متر مكعب.
-
منسوب التخزين منسوب ٣٧٧٫٢٠.
-
وإذا علا بلغ مستواه منسوب ٣٨٠٫٠٠.
-
منسوب أقصى الفيضان سنة ١٨٧٨ منسوب ٣٧٧٫٥٠.
-
معدل أدنى منسوب في الصيف منسوب ٣٧٠٫٧٥.
-
طول الخزان في تمام الملء ٣١٤ كيلو مترًا.
-
أقصى اتساع في تمام الملء ٧٢٥٠ مترًا.
-
أقل اتساع للخزان في تمام الملء ٢٠٠٠ متر.
-
متوسط اتساع الخزان في تمام الملء ٤٢٠٠ متر.
-
المساحة التقريبية المغمورة في تمام ملء الخزان ١٣١٨ كم٢، وقدرها ٣١٤٠٠٠ فدان تقريبًا.
-
كمية المياه المخزونة في كل ملء ٣١٠٠ مليون م٣.
-
كمية المياه الفاقدة بالتبخر والشرب وفي الطريق ٩٠٠ مليون م٢.
-
كمية المياه التي تصل أسوان ٢٢٠٠ مليون م٣.
-
تاريخ الملء من النصف الأول من يوليو إلى أواسط أغسطس المنسوب ٣٧٦٫٥٠، ومن أواسط سبتمبر إلى أواسط أكتوبر إلى منسوب ٣٧٧٫٢٠.
-
تاريخ التفريغ أواخر يناير.
-
كمية المساحة التي تنتفع بالمياه المخزونة في خزان جبل الأولياء ٥٥٠٠٠٠ فدان.
-
كمية العمل اليومي مع ملاحظة أن العمال لا يشتغلون جميعًا يوميًّا.
-
ويشتغل في السد بناءون عددهم ٣٤٠ مصريًّا، ومن العمال ١٦٠٠ صعيدي و٢٥٧٠ سودانيًّا.
-
وفي محاجر السليتات نحاتون: ٩٢ مصريًّا و٧٧ طليانيًّا و٦ يونانيين و٢٥ سودانيًّا. وعمال: ٦٧٥ صعيديًّا و٢٦٦ سودانيًّا لقطع الأحجار.
-
الإنتاج اليومي حوالي ١٠٠٠م مكعب؛ أي ما يقرب من ٢٠٠٠ جنيه يوميًّا في البناء فقط، خلاف الخرسانة والستائر الحديدية.
وقد تركت للمقاول الحرية في اختيار العمال، ما دام مسئولًا عن التنفيذ وجودة العمل والإدارة. ولم يشترط على المقاول غير شرط واحد، وهو عدم استخدام الأحباش؛ لأنهم لا يتفقون مع العمال المصريين في حلة واحدة. والحلة هي منطقة مساكن.
يقدم المهندس المقيم تقريرًا شهريًّا إلى المهندس الاستشاري بلندن للحكومة المصرية «مستر فون لي»، ويرسل صورة للوزارة، والمهندس المقيم خاضع لإشراف المهندس الاستشاري.
وقد قدم المهندس المقيم تقريره الأخير عن يناير، وبمقتضى هذا التقرير كان عدد العمال ٦٤٠٠، وقد وصل العدد في أبريل ومايو الماضيين إلى ٨٠٠٠؛ وهم بين بنَّائين وفَعَلة، منهم ٣٤٠٠ سوداني و٣٠٠٠ مصري. فأما البنَّاءون فهم جميعًا مصريون، ويقوم السودانيون بالأعمال الوقتية، ويتناول العامل السوداني أجرًا يوميًّا قدره أربعة قروش، والمصري ثمانية قروش. والعمال المصريون على الأغلب من مديريتي أسوان وقنا، وأقلهم من أسيوط. وهناك أعمال بالمقطوعية، فيشتد جهد عمال الصعيد فيستطيع كل منهم أن يأخذ أجرًا يوميًّا قدره ١٢ قرشًا.
وفي العام الماضي أضرب خمسون صعيديًّا عن العمل. أتدرون لماذا أضربوا؟
أضربوا لأنهم كُلفوا بنقل حجارة صغيرة، وطالبوا بأن ينقلوا الحجارة الكبيرة؛ لأنهم يحتقرون حمل الحجارة الصغيرة قائلين: لسنا صغارًا حتى نكلَّف بنقل الدقشوم!
توجه المضربون إلى المهندس المقيم عبد القوي أحمد بك وبسطوا له شكايتهم، فأعجب بأنفتهم، وهزه كبرياؤهم، وسرَّته شجاعتهم، وطيَّب خاطرهم قائلًا: اليوم انقلوا الدقشوم وغدًا الحجارة الكبيرة. فعادوا إلى العمل.
الحالة الصحية
بلغ عدد العيادات الخارجية في مستشفى الخزان ١٤٠٠٠ في شهر يناير، وبالمستشفى للعيادة الداخلية ١٥٠ سريرًا. وأجرة سرير الدرجة الأولى ٧٠ قرشًا، والثانية ٣٠ قرشًا، والثالثة عشرة قروش، وتتولى الحكومة الإنفاق على مستشفى الخزان، ولكنها تأخذ أجرة العلاج من المقاول.
وقد انتشرت في العام الماضي «١٩٣٤» الحمى المخية الشوكية ومات بها سبعون عاملًا سودانيًّا، ولم يمت بها أحد من العمال المصريين، وقد ظهرت هذه الحمى الآن في كسلا وكردفان. والسبب في وقاية المصريين منها طاعتهم للإرشادات الصحية؛ كالرش والنوم في داخل المنازل. ومفتش القسم الطبي بالمستشفى إنجليزي، وهو مستر كلارك، وطبيباه هما الدكتوران يوسف سلامة وشيحة. ولما كان لا بد من إشراف فني على المستشفى وكانت مصلحة الصحة المصرية بعيدة عن هذا الإشراف، فقد وُضع تحت إشراف المصلحة الطبية بالخرطوم.
حالة يجب علاجها
ومن الأسف أن الحكومة لم تضع شروطًا في عقد المقاولة لحماية العمال واحترام حقوقهم ووسائل استحقاقهم؛ فهم يجندون في إسنا وقنا والدر وغيرها، يجمعهم مقاولون من الباطن ويرسلونهم إلى السودان، وقد يكون بينهم الضعيف والمريض، ويكشف عليهم طبيًّا في حلفا لمدة ٢١ يومًا. وكثيرًا ما يضللهم صغار المقاولين المحليين فيمنُّونهم بالوعود وبالأجر الكثير، أو يعقدون معهم شروطًا مكتوبة، حتى إذا وصلوا الخرطوم وجدوا الوعود أحلامًا، ولم يكن المقاول الأصلي مرتبطًا بها، فيرضخون لعقود قاسية في الخرطوم. والعادة أن يُعطى العامل المريض نصف أجرة. وثلث العمال مصاب بالبلهارسيا.
خطأ آخر
وقد أخطأت الحكومة خطأ آخر؛ ذلك أنها لم تنص في شروط المناقصة وعقود المقاولة على ضرورة استخدام مهندسين مصريين في أعمال الخزان لحساب الشركة، ولهذا فائدة مزدوجة؛ الأولى: أن يدخل إلى جيوب مصرية جزء من الملايين التي تُدفع للمقاولين الأوروبيين. الثانية: أن يتمرن الشباب المصري في أعمال بناء الخزانات، فنستطيع أن يكون لدينا مهندسون أكفاء لبناء خزاناتنا وتنفيذ مشروعاتنا. إن الطريقة الحالية تجعل من المستحيل أن يكون لنا مهندسون مصريون يضطلعون بعبء الخزانات ونحوها. وجميع مهندسي وزارة الأشغال لا ينهضون بأي مشروع من مشروعاتها، ودائمًا تعول على الأجانب.
وفضلًا عن ذلك فإن الوزارة ترسل بعثات مهندسين للتمرن في الورش، فلماذا لم ترسل مهندسين يتمرنون في بناء الخزان وهو خير وسيلة للتمرين؟!
محاضرة المهندس المقيم
عند وصول أعضاء البعثة ومن معهم إلى مكتب حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم، عرض حضرته أنموذجًا برنزيًّا لمشروع الخزان، وطفق يلقي محاضرة عن المشروع، ثم أجاب على أسئلتنا، ثم توجهنا مع حضرته ومع حضرات مساعديه ومع المقاول جيبسون والمقاول دنتمارو والمهندس المستشار «المستر فون لي» إلى الخزان، وشهدنا الأعمال الجارية فيه، وأُعجبنا بجهود العمال. وقد هتفوا بنداءات مختلفة: ليحي العدل، ليحي النحاس باشا، ليحي الوفد المصري، ليحي عبد القوي بك، ليحي الدكتور محجوب ثابت، لتحي مصر، لتحي البعثة المصرية. وكانت زيارتنا يوم ابتهاج للعمال.
تكلم عبد القوي بك عن بداية العمل وتكلم عن انتهائه فقال: ينتهي العمل في يوليو سنة ١٩٣٧، ولكني أقدر إنجازه قبل هذا التاريخ، وضرب الأمثلة على الأمتار المكعبة التي تمت قبل الموعد.
ثم تكلم عن التعويضات، فقال: إن بين مصر والسودان اتفاقًا على التعويضات التي تعطى لسكان منطقة الخزان، وفي عهد اللورد لويد كان الرقم المقدر ثلاثة ملايين ونصف المليون سنة ١٩٢٦، فرفضت مصر دفع المبلغ، وفي عهد وزارة محمد محمود باشا أمكن الاتفاق على تحديدها بمبلغ ٧٥٠ ألف جنيه، دُفعت لحكومة السودان بمجرد الموافقة الأخيرة سنة ١٩٣٢ على المشروع، وتقع الأراضي المعرضة لماء الخزان قبلي منطقة السد. وقد كانت التعويضات المقدرة سنة ١٩١٤ مائة ألف جنيه فقط، ولكنها زادت بسبب غلاء الأجور وإنشاء المساكن … إلخ.
•••
وسيكون ملء الخزان تدريجيًّا على مدى ست سنوات، فيُرفع الماء خلف الخزان نصف متر، ويُنظر في أثره في السنة الثانية، ثم يُرفع إلى متر.
ومن المتفق عليه بين مصر وإنجلترا عدم جواز ري أراضي السودان بماء الخزان، وعدم إعطاء رخص للأفراد بسحب هذا الماء؛ لأن هذا الخزان وقف على مصر وحدها.
ملاحظة المؤلف على هذا الشرط
وقد علمت أن هناك رخصًا لآلات الري قد أعطيت لأفراد على النيل الأبيض، وأن من الممكن لأصحابها الانتفاع بماء خزان جبل الأولياء. ومن جهة أخرى فمن الممكن لسكان المنطقة التي تقع قبلي أي خزان سحب الماء بترع ومساقٍ وآلات رافعة.
•••
ثم قال عبد القوي بك: ماء النيل قسمان: مباح ومحرم؛ فالمباح هو ما زاد على حاجة مصر والسودان، حاجة خزاناتهما، فيجوز للأهالي الاستفادة منه. والمحرم هو الوقت الذي تملأ فيه الخزانات، فيحرم على السودانيين في هذا الوقت — وهو وقت الفيضان — أخذ شيء.
وقد كفلت الاتفاقية المائية سنة ١٩٢٩ منع حصول أي ري في وقت التحريم.
وعدد عيون الخزان ٦٠، عمل منها عشر تمت فعلًا، وعشر أوشكت أن تتم. ويوجد تحت الهويس — المخصص لدخول المراكب كما في القناطر الخيرية — نفق، وهو أطول هويس على النيل، وعمق النفق ١٦ مترًا، ويصل النفق بين طرفين، والناظر من أعلى إلى النفق يرى العمق كبيرًا ومظلمًا كأنه بئر، وله سلم من حديد، وعرض كل عين من عيون الخزان ٣ أمتار، وطولها أربعة أمتار ونصف، وبين الستين عينًا عشر عيون مقفلة؛ أي عيون لن تستعمل وستبقى أبوابها مغلقة. وأما العيون المصمتة فهي التي تنشأ بغير أبواب؛ لأنه يراد منها حجز الماء فقط دون تصريفه. وسفح العين منحدر بمقدار عشرة سنتيمترات كل متر. وكان من الممكن استعمال انحدار الماء وتدفقه من العيون في توليد قوة كهربائية للإنارة، كما في خزان سنار، ولكن الظاهر أنه ليس من حاجة لهذه الإنارة؛ فعند خزان سنار تقوم مدينة. أما عند خزان جبل الأولياء فلا يوجد سوى مساكن العمال والموظفين المؤقتة.
ويسير خط حديدي بين جبل السليتات ومنطقة الخزان، ويحمل أحجار الجرانيت التي يُبنى بها الخزان.
محور الخزان؛ أول عمل فني في بناء الخزان هو إيجاد محور الخزن، فاتخذ موقعان مرتفعان متقابلان، وهما نقطتان تعينتا بحيث إذا أوصل بينهما بخط يكون وضع الخزان مستقيمًا.
وهناك «سكة هوائية»، وهي خطوط حديدية تمد في الهواء بين مكان مرتفع وموقع منخفض، حيث تنقل المواد بينهما في صناديق حديدية، كالأحجار ونحوها، وتتحرك هذه الصناديق بقوة الكهرباء عند الدفع، ويساعدها الهواء في الوسط. وقد رأينا ما يماثلها عند السلوم؛ إذ تحمل هذه الصناديق البضائع من ميناء السلوم إلى جبل السلوم، حيث يوجد معسكر الجيش المصري.
ولا يعتمد الخزان على عرض النهر وحده، بل إن امتداده مستمر على الأرض، وقد امتد الخزان إلى ثلاثة كيلو مترات أخرى إلى الغرب، بعد أن بلغ امتداده على عرض النيل والشاطئ الشرقي كيلو مترين.
وكان أول بدء للأعمال التمهيدية للخزان هو إلقاء الأحجار العادية والأتربة في مجرى النهر عند موقع الخزان، حتى إذا تكونت مساحة كبيرة في عرض البحر، جرت عملية البناء.
وهناك حائط فقري طوله ٣٥٠ ألف متر، ويُنزح الماء داخل السد بحفر الصخر الذي على جانبي النهر، فإذا كان الصخر غير سليم؛ أي به طبقة مرنة قابلة لمرور الماء، استمر الحفر حتى يوصل إلى الصخر السليم، وقد يدعو ذلك إلى الحفر حتى ثمانية أمتار.
وقد وُضعت أحواض لحبس الأسماك ومنعها من الاجتماع في عيون الخزان.
ويُترك العمل من ١٧ يوليو إلى ٢٠ أكتوبر، وقد جرى العمل حتى حوالي منتصف يوليو الماضي، والسبب في هذا التعطيل وجود الأمطار.
وسيصل إلى مصر من ماء الخزان ملياران من الأمتار تكفي لزراعة ٥٥٠ ألف فدان، ومعنى ذلك أن الخزان لن يسد حاجة مصر في ري ما قد بقي من الأراضي القابلة للزراعة والتي لم تُزرع بعد؛ فلا بد من إنشاء خزانات في منطقة السدود عند بحيرة ألبرت، وقناة بعيدة عن السدود، بل لا بد من أن تبحث مصر عن الماء وخزنه في مناطق أخرى كبحر الغزال؛ لأنه ينزل من الماء نحو ٥٠٠ مليار مكعب — حسب تقرير المهندسين المطلعين — لا ينتفع منها النيل الأبيض إلا بعشرين مترًا مكعبًا في الثانية.
وقال عبد القوي بك ردًّا على سؤال وجهتُه إليه: لم تحصل أي شكوى في صدد طريقة تنفيذ المقاول العقد وبناء الخزان، فإننا نتابع العمل يوميًّا، ونرسل إلى المهندس المستشار مستر فون لي، الذي يقضي بيننا أربعة أسابيع، تقريرًا شهريًّا.
•••
وبعد أن شهدنا الأعمال الجارية وحركة العمال المصريين والسودانيين، وأتعبنا الصعود على الصخور والسقالات، عدنا إلى سرادق صغير حيث تناولنا المرطبات واسترحنا، ثم توجهنا إلى مكتب المهندس المقيم حيث تناولنا طعام الغذاء.
وقد أُعجب الأعضاء بهمة حضرات المهندسين، وعلى رأسهم عبد القوي أحمد بك، وبغيرة العمال، الذين يعملون بجد ونشاط ويقومون بأشق الأعمال.
كلمة بهي الدين بركات بك
(٣-٤) حفلة شاي السيد الميرغني
عند منتصف الساعة الخامسة بعد الظهر أقام حضرة صاحب الفضيلة السير السيد علي الميرغني — السابق نشر ترجمته — حفلة شاي تكريمًا للبعثة، حضرها بعض خلفاء السادة الميرغنية، وقد ألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمة شكر داعيًا فضيلته لزيارة المعرض المصري في العام القادم، حيث تقابل زيارته بالابتهاج، ودعا فضيلته حضرة الدكتور محجوب ثابت، واصفًا إياه «بأنه شخص نتجاذبه جميعًا — نحن وأنتم …» «ضحك».
(٣-٥) حفلة سمر بالنادي المصري
وحضرات التجار: جناب الخواجات كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية وتادرس عبد المسيح وهنري جيد وجورج مورهج ونقولا ماتكساه وتوتنجي وألفرد كافوري وحضرة سليمان أفندي منديل ومحمد أفندي راجي والشيخ محمد مدني يحيى وعبد المنعم أفندي محمد وإبراهيم عامر بك والشيخ محمود القوصي والشيخ محمد أحمد البرير.
ومن كبار الضباط: القائمقام حسين بك طاهر والبكباشي محمد أفندي جمعة وحضرة مأمور الخرطوم.
ومن كبار ضباط المعاشات: القائمقام أبو زيد بك مرجان والبكباشي حسن زكي.
وحضرات أعضاء مجلس إدارة النادي المصري: الدكتور محمد أمين الرئيس، وحضرات فاخوري أفندي عبد الشهيد نائب الرئيس، وأحمد أفندي أحمد القاضي السكرتير، وعبد المعطي أفندي أبو العينين أمين الصندوق.
وحضرات الأعضاء المحترمين: أحمد فهيم ومحمد حواس وأحمد أفندي زيدان وأحمد أفندي نعيم نجاتي وميخائيل أفندي عبد الملك ومحمد أفندي طلعت ويوسف أفندي علي دياب وعباس أفندي شوقي ومحمد أفندي علي بشير.
أما حضرات أعضاء النادي الذين اشتركوا في التكريم فيبلغ عددهم حوالي مائة عضو من مختلف طبقات المصريين بالخرطوم.
تاريخ النادي المصري
أسَّس النادي المصري بالخرطوم سنة ١٩٠٤ موظفو الحربية الملكيون وموظفو حكومة السودان المصريون.
وكان أول رئيس للنادي هو المرحوم محمد بك زيدان، ورئيس النادي الحالي هو حضرة الدكتور محمد أمين وكيل تفتيش الري المصري بالخرطوم.
ولغاية سنة ١٩٢٤ كان بالنادي حوالي ٣٠٠ عضو، وكانت الاشتراكات الشهرية في السنوات السابقة لهذا التاريخ تتراوح ما بين ٤٠ و٦٠ جنيهًا مصريًّا، حيث كان عدد الموظفين الموجودين في الخرطوم الملكيين حوالي ٩٠٠ موظف من الحربية وحكومة السودان. وفي سنة ١٩٣٢ بلغ عدد المصريين الموظفين في جميع أنحاء السودان٨٠٠، وفي سنة ١٩٣٤ نقصوا إلى ٧٥٠، وفي سنة ١٩٣٥ صاروا ٧٢٠. وكانوا قبل ذلك حوالي ١٥٠٠. وبعد سنة ١٩٣٤ تقهقر النادي حتى صار مشتركوه لا يزيدون على الثلاثين، وبعد سنة ١٩٣١ نزل هذا العدد إلى ٢٠، وفي آخر سنة ١٩٣٣ عملت دعاية قوية للنهوض بالنادي لحفظ كيان قومية المصريين فصار المشتركون الآن حوالي ١٢٠؛ وذلك بسبب انضمام كثير من موظفي الري المصري. لكن متوسط المشتركين المواظبين على دفع اشتراكاتهم الآن لا يزيد في كل شهور السنة على ٦٠. وبتطور الزمن أصبح النادي القديم بعد عمران الخرطوم لا يليق بالمصريين كهيئة محترمة تريد أن تحافظ على كيانها وحسن سمعتها في وسط الهيئات الأخري، وذلك بحكم قدم مباني النادي القديم، حيث أصبحت كل الجاليات لها أندية وافية جدًّا. فبحكم هذه الظروف ومحافظة على كرامة مصر انتقل النادي لمكانه الحالي ابتداء من ٨ فبراير سنة ١٩٣٥، وقد خاطر أعضاء النادي بزيادة النفقات لضرورة المحافظة على سمعتهم.
كل الجاليات أصبح لها الآن أندية ملكًا خاصًّا بها، أما النادي المصري فداره مؤجرة وتتكلف شهريًّا حوالي ٢٠ جنيهًا، مع أن متوسط الاشتراكات في طول السنة لا يزيد على ستة جنيهات مصرية شهريًّا. فمن أين للنادي أن يسد عجزه إلا بعمل رواية سنويًّا وبتبرعات الأعضاء، مع أن أغلبيتهم موظفون أكثرهم بماهية شهرية أقل من العشرين جنيهًا.
- (أ)
إعانة سنوية من الحكومة قدرها ٢٠٠ جنيه. ونظن أن مركز النادي المصري في السودان الذي هو رمز قومية مصر يستدعي اهتمام الحكومة بهذه الإعانة السنوية لحفظ مركز أبنائها في السودان في نظر الأجانب. وللحكومة سوابق في ذلك؛ فالنادي المصري في لندن استولى على إعانة سنوية قدرها ألف جنيه.
- (ب)
أو منح الحكومة النادي حوالي ألف جنيه هبة لشراء قطعة أرض حوالي ألفي متر لتبني للنادي دارًا لائقة، وليتمكن من إيجاد محل متسع للألعاب الرياضية.
على أن من الممكن جمع التبرعات من حضرات كبار الأعيان، ويكفي أن يعلم الكل أن النادي المصري بالخرطوم يحتوي على صفوة أبناء مصر بالسودان وأكبرهم مركزًا به. وغرض النادي هو التعارف والتآلف بين المصريين، والسعي لترقية شئونهم الأخلاقية والأدبية، ولتشجيع الألعاب الرياضية به وتشريف سمعة مصر. ويكفي أنه المحل الوحيد هنا الآن الذي يجعل العلم المصري بجوار الري المصري، ففي هدمه تنكيس للعلم، وفي بنائه رفع وإعلاء له.
هذه هي الملاحظات التي يتقدم بها سكرتير النادي ويرجو بإلحاح عرضها على الرأي العام في مصر، وهو واثق أن الحكومة والأمة لن يتأخر كل منهما عن تأدية واجبه لهذا النادي الذي هو بحكم وضعه في وطننا الثاني السودان أصبح رمزًا على قوميتنا وعنوانًا على كفاءتنا وكفى.
وسكرتير النادي يهيب بالحكومة والأمة أن تهتمَّا بأمر هذا النادي خشية أن يأتي وقت يختفي فيه النادي من الخرطوم بحكم تناقص عدد المصريين وبحكم تناقص عدد الأعضاء وعدم مقدرتهم على سد نفقاته، بينما الجاليات الأخرى بحكم كيانها كرجال مال تزيد أنديتها تحسينًا. وأظن زيادة الروابط الاقتصادية إن شاء الله تدعو لوجود نادٍ عظيم للمصريين. هذا هو نداء القاضي أفندي سكرتير النادي.
ونحن نضم صوتنا لحضرة أحمد القاضي أفندي ونرجو أن تمد الحكومة هذا النادي بإعانة.
•••
وقد ألقى حضرة رئيس النادي كلمة ترحيب، وألقى فؤاد بك كلمة شكر، ثم أطربنا مطرب السودان المشهور الحاج «محمد أحمد سرور أفندي» بأغاني سودانية أُعجب بها الحاضرون، وقال فؤاد بك: إن الدكتور محجوب بجواري يهزني مرددًا صدى الأغاني في نفسه، فأطلب إليه أن يعبر لنا عن نشوته. فوقف الدكتور وصال وجال في الأغاني السودانية مؤكدًا أنها كالأغاني الأندلسية ومادحًا المطرب «سرور»، الذي جعلنا نقضي الليلة في سرور.
(٣-٦) نموذج من أغاني السودان٥ التي أنشدها المطرب سرور
•••
•••
•••
أغانٍ سودانية أخرى
•••
•••
•••
وهي للمرحوم الأستاذ خليل فرج، وهو على رأس المجددين في الأغاني السودانية.
(٤) اليوم الرابع — الخرطوم يوم الاثنين ١١ فبراير
(٤-١) زيارات متنوعة
مدارس الأقباط بالخرطوم ونجابة تلاميذها ووجوب إعانتها
زار بعضنا في الصباح مزارع مسيو كونتو ميخالوس.
•••
بالخرطوم جمعية خيرية قبطية يرأسها حضرة الأب المحترم القمص يوحنا سلامة وكيل الشريعة القبطية بالخرطوم وراعي الكنيسة الأرثوذكسية، ومدارس خيرية، وهي روضة للأطفال، ومدرسة ابتدائية، ومدرسة ثانوية، ومدرسة ابتدائية للبنات في دور متجاورة.
عند الساعة التاسعة من صباح اليوم زار أعضاء البعثة هذه المدارس فوقفت تلاميذها وتلميذاتها صفوفًا. ويلاحظ أن بناء مدرسة البنات مجاور لدار مدارس البنين، ومنفصل عنها، وقد رُفعت الأعلام المصرية، وهتف الجميع بحياة الأمير عمر طوسون وفؤاد أباظة بك والدكتور محجوب. ويتعلم نحو أربعين في المائة من التلاميذ مجانًا، وتقبل المدارس المسلمين والأقباط والسودانيين، وبها ٧٥٠ تلميذًا وتلميذة، وقد أُنشئت منذ ١٣ سنة، وهي المدارس المصرية النظامية الوحيدة في السودان التي تسير طبقًا لبرنامج وزارة المعارف ونتائجها المصرية مائة في المائة، ويدخلها أبناء المصريين وبناتهم في السودان؛ لأن مدارس السودان للسودانيين، فسدَّت هذه المدارس حاجة المصريين، ومكَّنت البقية الباقية منهم من المعيشة في السودان والاطمئنان إلى تربية الأبناء، وهي رمز للقومية المصرية، وقد منحتها وزارة المعارف ٤٠٠ جنيه بسعي فؤاد أباظة بك، وفي هذا العام منحتها ٦٠٠ جنيه.
وقد اقترحت على الحاضرين مطالبة الوزارة بزيادة الإعانة إلى ألف جنيه، واعتماد مبلغ لإنشاء دار جديدة وإرسال لجنة من وزارة المعارف لامتحان تلاميذها في الخرطوم، كما تفعل الحكومة الفرنسية بإرسال اللجان من باريس لامتحان كلية المدارس الفرنسية بمصر؛ إذ يحتمل ولاة أمور الطلبة في الخرطوم — وأكثرهم فقراء — ما فوق الطاقة للسفر إلى أسوان أو سوهاج لحضور الامتحان والعودة منه.
ولولا التضحيات التي بذلها الموظفون الأقباط وبعض التجار لأُغلقت أبواب هذه المدارس، التي تؤدي خدمة علمية وتشرِّف مصر حقًّا.
وكان يشرف على النظام حضرة نسيم سمعان أفندي ناظر المدرسة وهو مُربٍّ كفء، وعُطلت المدارس اليوم احتفاء بزيارتنا.
لا بد أن تكونوا قد علمتم الكثير عنها وعما تقوم به من الخدمة لأبناء المصريين «الذين يبلغ عددهم في هذا العام ٧٥٠ تلميذًا وتلميذة»، وعن النجاح الذي لازمها منذ أُنشئت إلى الآن، بالرغم من العقبات التي اعترضت سبيلها، والصعاب التي حاولت أن تعوقها. وكانت فاتحة هذه العقبات تدبير المال للتأسيس والإنشاء، وخاتمتها تدبير المال أيضًا للمحافظة عليها والتقدم بها إلى الكمال، وبينهما كثير من العقبات المالية وغير المالية.
أما تدبير المال للتأسيس وللمحافظة عليها في السنوات الماضية، فقد استطاعت أن توفق منه إلى الحد الذي أبقاها مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، وكان الاعتماد في ذلك على الله. وعلى مساعدات فردية يجود بها ذوو الكرم من الموظفين والتجار والأعيان في السودان وفي مصر.
وما إن جاءت أعوام الأزمة المالية حتى شعرت أنها لا بد لها من سند مالي تعتمد عليه لتستمر في تأدية واجبها على الوجه الأكمل، ولم يكن أمامها إلا أن توجه رغبتها هذه إلى الحكومة المصرية، فإن لهؤلاء الطلبة المصريين حقًّا عليها لا يقل عن حق زملائهم في جهات القطر المصري.
ولقد حاولتْ مرارًا أن تتصل بوزارة المعارف المصرية لهذا السبب فلم تفز بطائل، حتى هيأ الله تعالى لها فرصة سعيدة كانت فاتحة خير وبركة ومبدأ يسر ورخاء.
ذلك أن في مثل هذا الشهر من العام الماضي شرَّف هذه المعاهد بالزيارة حضرة صاحب العزة فؤاد بك أباظة، فما هو إلا أن سمع تلميحًا لحظ منه حاجتها إلى مساعدة من مصر حتى بادر فأبدى ميله إلى السعي لدى ولاة الأمور لتنال نصيبها من إعانة وزارة المعارف.
وكان سعادته عند قوله، فمذ عاد إلى مصر لم يألُ جهدًا في السعي، وخُيل إلينا أنه لم يكن مجرد سعي عادي، بل كان جهادًا ضدَّ كثير من الصعاب. وقد أبت همته العالية أن يعود إلى السودان في رحلتكم المباركة قبل أن يزف إلينا بشرى نجاح مسعاه. ولقد سمعنا من جناب الأب الموقر القمص يوحنا سلامة مُنشئ هذه المدارس ومديرها أنباء هذا الجهاد مشمولة بالتقدير والاعتراف بالجميل، سمعنا وسمع الناس جميعًا هنا من جنابه آيات هذا التقدير والاعتراف بنبيل السعي منذ الساعة الأولى التي وصل منها بعد عودته من مصر في الشهر الماضي.
وذكر الخطيب أن المدارس سارت بخطى ثابتة، وبهدوء ورزانة نحو الأمام فأنشأت أول فرقة من فرق القسم الثانوي في بدء عهد الأزمة المالية سنة ١٩٣٠، وأنشأت في العام المدرسي الحالي السنة الرابعة الثانوية من القسم العلمي، وسيتم بذلك في العام الدراسي المقبل قسمها الثانوي بإنشاء السنة الختامية إن شاء الله.
هذا، ومما يزيدكم ثقة بمدارسكم هذه أنها فازت بثقة ولاة الأمور هنا، وصارت موضع إعجابهم وثنائهم، وشجعوها بحسن تقديرهم، وشهدوا بأن العمل فيها عمل جدي خالص لوجه الله والعلم، بفضل الإخلاص الذي يتجلى في إدارتها، وبفضل ما عُرف عن ناظرها من الغيرة على نجاح عمله، وما يبذله أساتذتها من جهد، وما يشعر به طلبتها من الواجب، وهم جميعًا يعلمون أنهم إنما يؤدون واجبهم نحو مصر ونحو النشء المصري في هذه البلاد.
ولا شك أن السمعة الطيبة التي تتمتع بها هذه المدارس في السودان وفي مصر وصلتها الجديدة بوزارة المعارف العمومية وتشجيع المصريين لها بالعطف والتقدير وبالزيارة كلما تيسر ذلك وثقة أولي الأمر في السودان بها، كل هذه عوامل طيبة تزيد قدمها ثباتًا، وتبعث دائمًا روح النشاط والجد في نفوس العاملين بها، وتدعوها إلى الأخذ بوسائل الرقي ما استطاعت.
ونوَّه بالشرف الذي نالته المدارس بزيارة سعادة بهي الدين بركات بك، وألقت تلميذات مدرسة البنات نشيد المدرسة.
إن رجال إدارة هذه المدارس، وعلى رأسهم جناب المدير المحنك القمص يوحنا سلامة، ومدرسيها ومدرساتها يتقدمهم حضرة الناظر المدرب وحضرة الناظرة المربية، بل تلاميذ وتلميذات تلك المدارس على مختلف أقسامهم ليسجلون لحضراتكم هذه الزيارة على صفحات قلوبهم بحروف من نور لا يمحوها كر العشي ومر الدهور.
وإن اغتباط الجميع بهذه الزيارة يجلُّ عن الوصف، ويعجز دونه التعبير. حياكم الله وبياكم، ونفع البلاد بكم وبأمثالكم آمين.
وألقت الآنسة المهذبة زينب محمد الجارم كريمة فضيلة قاضي قضاة السودان تحية مدرسة البنات قصيدة عامرة الأبيات مطلعها:
وألقت الآنسة إيفون قديس الطالبة بالسنة الرابعة بمدرسة البنات أبياتًا رقيقة مطلعها:
وقدمت الآنسة هدى محمد السيد بقسم الروضة أبياتًا رقيقة لفؤاد أباظة بك.
عدد التلاميذ والتلميذات
وتدل إحصائية عدد تلاميذ المدارس وتلميذاتها بالنسبة لأديانهم على أن في قسم البنين ٢٤٣ مسيحيًّا و١٦٥ مسلمًا و١٥ من غيرهم، وفي قسم البنات ١٨٠ مسيحية و١٢٠ مسلمة و٢٠ من غيرهن.
(٤-٢) عند الحاكم العام
في الساعة العاشرة من صباح اليوم استقبل سعادة سير جورج استيوارت سايمز الحاكم العام للسودان حضرات رشوان محفوظ باشا، وفؤاد أباظة بك، وعبد الحميد أباظة بك، وعبد الحميد فتحي بك، ويوسف نحاس بك، وألفونس جريس بك، وعطا عفيفي بك، والسيد عبد المجيد الرمالي، والأستاذ علي شكري خميس، حيث مكثوا في حضرته ثلث الساعة.
ثم قابلوا مدير التجارة والاقتصاد، وتناول طعام الغداء على مائدة سعادته حضرات رشوان محفوظ باشا، وفؤاد أباظة بك، والسيد عبد المجيد الرمالي، وألفونس جريس بك، وعطا عفيفي، وعبد الحميد فتحي بك.
وعند الساعة الرابعة والنصف تناول جميع أعضاء البعثة الشاي في حديقة سراي سعادته بالخرطوم، وكان معهم مدير مكتب سعادته وكبار موظفيه وحضرات: المستر جيلان السكرتير الإداري، والمستر بل السكرتير القضائي، والمستر رجمان، والجنرال بتلر القائد العام، والسير روبرت أشبيلد مدير المعمل الكيماوي، والمستر كولدري، والماجور فوكي مفتش مصلحة التجارة والاقتصاد، والتجار كفوري وتوتنجي، والشيخ محمد أحمد البرير، والشيخ سيد أحمد سوار الذهب، والشيخ أحمد حسن بك عبد المنعم، والمستر سندرس السكرتير الخصوصي، والبكباشي شارلتون ياور، والدكتور بريدي مدير المصلحة الطبية، والمستر بني مدير الأمن العام، وفضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي القضاة، وعبد القوي أحمد بك، ومصطفى أبو العلا أفندي، وعبد المنعم محمد أفندي، وآخرون.
(٤-٣) تصريحات الحاكم العام
أرجو أن تكونوا قد سررتم من زيارتكم ووقفتم على حالة البلاد، ولقد اكتنف رحلتكم حر شديد، واقتصرت زيارتكم على المناطق الزراعية والتجارية، ولكنكم لم تزوروا المناطق القاحلة غير الآهلة، وأرجو أن يكون من وراء هذه الزيارة خير للبلدين، وأن تنمو العلاقات الاقتصادية بينهما، لقد اجتهدنا في ترقية البلاد، وقد أنشأنا مدرسة كتشنر الطبية، وإذا كان عدد طلبتها قليلًا فسيزيدون شيئًا فشيئًا، وليس في السودان كله من الموظفين الإنجليز الملكيين إلا ١٤٠ موظفًا. وكثرة الوظائف في يد الوطنيين.
(٤-٤) حفلة تجار أم درمان
أقام تجار أم درمان مأدبة عشاء في الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم «الاثنين ١١ فبراير» بحديقة أنطونياديس بالخرطوم، حضرها أعضاء الغرفة التجارية بالخرطوم، وألقى حضرة مصطفى أبو العلا أفندي خطابًا رحب به بالبعثة، وألقى فؤاد أباظة بك كلمة شكر، وترك الكلام لحضرات محمد عبد الرحيم سماحة والسيد عبد المجيد الرمالي والأستاذ شكري خميس فتحدثوا في العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان.
عشاء تجار أم درمان
أم درمان مركز من مراكز الخرطوم، وموقعها من الخرطوم يشبه موقع الجيزة من القاهرة، وقد أسس أم درمان محمد أحمد المهدي الكبير، وجعلها العاصمة بدلًا من الخرطوم التي أنشأها محمد علي وجعلها عاصمة السودان حتى سقطت بين المهدية. ولكن لا تزال «أم درمان» هي العاصمة الحقيقية للسودان؛ ففيها التجارة والتجار، وعدد سكانها ثلاثة أضعاف سكان الخرطوم أو نحو ذلك، وليس للخرطوم أهمية سوى أن بها سراي الحاكم العام ودواوين الحكومة ومكاتب البنوك والشركات.
أقام حضرات تجار أم درمان حفلة عشاء بحديقة أنطونياديس بالخرطوم تكريمًا للبعثة المصرية، حضرها حضرات المشايخ والأفندية تجار أم درمان: الشيخ أحمد حسن عبد المنعم، إبراهيم بك عامر، سيد أحمد الذهب، محمد أحمد البرير، عثمان صالح، صديق عيسى، هنري جيد، عبد الحميد المهدي، مصطفى أبو العلا، عبد المنعم محمد، والقوصي بابكر الشفيع، صالح داود، حسين خليل، عبد المسيح تادرس، واصف سليمان، حسن أبو العلا، محمد أبو جبل، حسين محمد، حنين، سليمان حاج حسن، نديم جانجي، عبد المجيد عبد المنعم، الأمين عبد الرحمن، حسين تربال، أحمد عثمان القاضي، عبد الرحمن أحمد، نعمان الجارم قاضي القضاة، الدرديري محمد عثمان، ميرغني حمزة، محمد علي شوقي، محمد الشنقيطي، عبد العزيز القباني، أحمد البرير، عبد العال أبو رجيلة، حسن الظاهر، سليمان منديل، السيد عبد الفاضل، أحمد عبد الله، بابكر جعفر، أحمد خليفة، عبد الكريم محمد، ومن الأجانب حضرات: مسيو كونتو ميخالوس، مستر فول مدير اللجنة الاقتصادية، مدير البنك الأهلي، مستر برامبل مفتش أم درمان، تريس مستر مفتش الخرطوم بحري، مستر سمث مدير جلاتلي، مستر ريد، مستر كوكسين (هرالد) مستر سركيس أزمرليان، رئيس المكتبة القبطية، رئيس النادي المصري، مستر اسبيرو، المستر جورج مورهج، قديس أفندي عبد السيد، الخواجة شكروغلو.
وقد ألقى السيد مصطفى أبو العلا الخطاب التالي، وألقاه نجله عبد السلام مصطفى أبو العلا مترجمًا بالإنجليزية. وآل أبو العلا من كبار تجار السودان نشأوا في إسنا وأقاموا في السودان شركاء للتجار عبد المنعم محمد ويونس أحمد وغيرهم، وشركتهم تصدر أكبر كمية من محاصيل السودان وتنافس التجار الأجانب.
كلمة السيد الرمالي
إخواني تجار أم درمان:
السلام عليكم ما جرى النيل في هذا الوادي يروي أرضنا ويشفي غلة نفوسنا بماء واحد، السلام عليكم يوم نسعى إليكم زائرين مجددين عهد الصداقة وصلة الجوار، ويوم تأتون إلينا حاملين بشرى رقي السودان ورفاهية إخواننا وأبناء عمومتنا السودانيين الأكرمين.
لقينا في هذا النصف الثاني من السودان من عواطفكم المخلصة وعنايتكم الصادقة ما تغلغل في صدورنا واستقر في قلوبنا؛ ذكريات تزول الجبال وتبقى وتكر القرون والأجيال وهي خالدة على الزمان لا تتضاءل ولا تبلى. لم ينسَ السوداني أخاه المصري، ولا نسي الأخ المصري شقيقه السوداني؛ هي صلة النيل الواحد وأواصر البلد الواحد وروابط الدم الواحد، صلة الجنس وأواصر اللغة كذلك أراد الله، وبذا حكمت الطبيعة. لقد ربطنا الله فلن يفرقنا إنسان، ووحَّدتنا الطبيعة فلن تفصم هذه العروة الوثقي يد إنسان.
في سعادتكم سعادتنا، وفي تقدمنا ورقينا فخركم ومجدكم، لهذا جئنا نعطيكم ما عندنا من مال ورجال ومتاجر، ولنأخذ من عندكم محاصيلكم وخيراتكم.
كلانا يكمل صاحبه، وما قصرت مصر يومًا في القيام بواجبها نحو أختها السودان ولن تقصر.
ويقينًا أنكم ستبادلوننا حبًّا بحب ومودة بمودة وتضحية بتضحية. لقد أخذنا منكم بضائع بمئات الألوف من الجنيهات، وستسعى بعثتنا لتوطيد الصلات التجارية والاقتصادية بين القطرين التوأمين أكثر مما هي عليه الآن، فلتكن مصر إذن قبلة أنظاركم في التجارة والزراعة والعلم والأدب والاقتصاد.
ها نحن نمد أيدينا لتهز يدكم المبسوطة هزة الوقار الدائم، فليكن كل منا خبيرًا بأخيه وليدم هذا التعاون بيننا.
إن الآمال التى نعلقها نحن معشر التجار على هذه الرحلة عظيمة الفوائد، كما أن حسن الاستعداد الذي بدا ممن يهمهم الأمر في كل من البلدين، والاهتمام الذي قوبل به لتوثيق العلاقات الاقتصادية بين القطرين، يبشرنا بنجاح بعثتنا، ويدل دلالة صريحة على أن الله الذي خلق مصر والسودان بلدًا واحدًا قد كتب بيمينه القوية صفحة جديدة في تاريخ البلدين ستكون بإذن الله أمجد الصفحات.
خطبة الوجيه مصطفى أفندي أبو العلا
حضرات رئيس وأعضاء البعثة المصرية التجارية الزراعية المحترمة:
سادتي، إنها لمناسبة طيبة مباركة وفرصة مفيدة سانحة هذه التي أتاحت لي شرف المثول أمامكم لأشكر الله على سلامة وصولكم أيها الوافدون الكرام إلى الخرطوم عاصمة السودان.
إني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن تجار أم درمان أرحب بقدومكم الميمون إلى هذه البلاد، على أنَّا كنا — كما لا يخالفكم — نرقب مثل هذه الزيارة من زمان بعيد كما كنا نقرأه في صحف من اهتمامكم الزائد بالسودان، وها نحن نرى أنه من محاسن الصدف أن وفقتم إلى القيام بهذه الرحلة في هذا الوقت المناسب لتعرفوا بأنفسكم أحوال البلاد الاقتصادية والزراعية والتجارية وما له مساس بمصالح بلادكم.
ويقيني أن هذه الزيارة ستكون بمثابة حجر الزاوية لتقوية هذه الروابط، ولا شيء أحب إلى نفوسنا نحن التجار أكثر من الحصول على التسهيلات اللازمة لإيجاد أسواق صالحة لاستهلاك محاصيلنا، وأيادٍ نشطة خبيرة لحرث الصالح من أراضي بلادنا المتسعة المترامية الأطراف؛ فقط تجدون أن أسواقنا التي تستهلك كمية كبيرة من صادراتكم يغذيها تفاهمنا التجاري، كما أن كثيرًا من أراضينا تحتاج إلى خبراء منكم ينتجون فيها ما تحتاجه بلادكم، ورائدكم النشيط فؤاد بك أباظة لا بد وأن يكون قد أبان لكم ما فيه الكفاية من هذه الناحية بعد جولته هنا ودعوته إليكم في الشتاء الماضي، وإننا مدينون له بجهده ورغبته الصادقة في أنحاء الصلات الاقتصادية بيننا، ومهما قلنا عنه فإننا لا يمكننا أن نفيه حقه من الثناء والتقدير، فهو من طرفكم والمستر كونتو ميخالوس من طرفنا بصفته رئيس الغرفة التجارية بالسودان قد عملا بشعور متبادل في إيقاظ الروح الاقتصادية، وقد تحقق ذلك بفضل سعيهما فتشرفنا بكم في هذه الليلة بعد أن طفتم كثيرًا من أرجاء السودان وشاهدتم ما شاهدتم من خصب أرضها واتساع أسواقها وود أهلها، حتى صارت عندكم صورة حقيقية عنها، فلكم منا جزيل الشكر.
وإنه من حظ هذه البلاد أيها السادة أن سخَّر الله لها حاكمها العام السير سايمز في هذا الظرف الدقيق، فهو منذ وضع قدمه بها عامل في تنمية مرافقها المختلفة فأنتج هذا الاهتمام تحسينًا محسوسًا في حالة البلاد العمومية، وكلنا يذكر بمزيد الشكر والإعجاب التسهيلات القيمة التي تكرم بها معاليه ورجال حكومته، والتي كان من شأنها أن تم هذا الاجتماع الموقر الذي نرجو من ورائه خيرًا للقطرين في القريب العاجل إن شاء الله.
وقبل أن أجلس أردد لكم ابتهاجنا برؤيتكم ووجودكم بيننا، وأؤكد لكم أنكم ستجدوننا عند حسن ظنكم بنا، والله الموفق فهو ولينا ونعم النصير.
خطبة محمد عبد الرحيم سماحة
سادتي إخواني تجار أم درمان:
إن ما تنشده بعثتنا هو العمل على زيادة الروابط الاقتصادية بين بلادينا وقد بدأنا نتبين كل أمر يعود عليكم وعلينا بالخير والإسعاد، ولما كانت أم درمان هي العاصمة التجارية في السودان لذلك أرى نفسي سعيدًا أن أتبادل معكم الرأي وأطلب منكم تسهيلًا لما نقصده منكم من البحث، والوقوف على آرائكم الصائبة فيما ينفع البلدين.
سادتي، إن مصر سوق طبيعية لتجارة السودان، ولا ينكر ذلك أي إنسان، وقد نشطت تجارتكم مع مصر والفضل الكثير في ذلك لتجار أم درمان، وها هي إحصائية الجمارك تدل على أن مصر استوردت منكم ما يبلغ خمسًا وتسعين في المائة من جميع صادرات السودان عدا القطن والصمغ. فصادرات الأذرة بلغت في المدة من يناير سنة ١٩٣٤ إلى آخر نوفمبر سنة ١٩٣٤ إلى مصر ٨٧٠٠٠ سبعة وثمانين ألف طن، ولجميع البلاد الأجنبية ٢٣٥٠ ألفين وثلاثمائة وخمسين طنًّا، والفول لمصر ٥٦٨٨ طنًّا، وللبلاد الأخرى ٣١٠ أطنان، والسمسم لمصر ٨٩٠٧ أطنان، ولبلاد أخرى ١٢٠٠ طن، والمواشي ٢٢٠٠٠ رأس من البقر والغنم، وجميعها لمصر، كذا الشطة ٥٥٠ طنًّا جميعها لمصر، كذا الفاصوليا ٢٠٠٠ طن جميعها لمصر، كذا حب البطيخ ٤٠٠٠ جميعه لمصر، كذا الإبل وعددها ١٤٠٠٠ جميعها لمصر، كذا الجلود وصناعات مختلفة أغلبها لمصر. والقرض جميعه لمصر، وكذلك الحمص جميعه لمصر، حتى المسلي تصدَّر منكم إلى مصر بكميات وافرة. ومصر بلاد غنية بألبانها. أليس في ذلك أكبر برهان أو أظهر بيان!
إذن تعالوا إلى بيان صادراتنا لكم:
السكر والدخان والأسمنت والصابون ومانيفاتورة وبضائع مختلفة. أما السكر فأمره متوقف على اتفاق الحكومتين، ولم يكن استيراده منكم على الدوام، والأسمنت عشر الكمية لاستهلاككم، وتسعة أعشارها لخزان جبل الأولياء. المانيفاتورة كلها وردت إليكم من مصر، برسيم الترانسيت، وليس من صناعة مصر إلا قليل من المنسوجات. لذلك كله أسمح لنفسي أيها السادة أن أسائلكم ما هو السر في قلة الواردات لكم مصر؟ هل هذا راجع إليكم أنتم، أم إلى المضاربات التجارية من البلدان الأجنبية؟ لا أظن — والله — أن كل الأسباب ترجع إلى المضاربات الأجنبية، فلا زالت لدينا صناعات يجب عليكم أن تتكاتفوا على ترويجها في بلادكم.
فها هي منسوجات بنك مصر المختلفة تتوافق مع أذواقكم ومنسوجات أخرى؛ كالشرابات والفوط والفانيلات، وقد صُنعت بما أنبتته أرض مصر، وحاكتها أيادٍ مصرية. كذا الكبريت والأحذية والموبليات وكثير من الصناعات. أيضًا الأرز المصري وهو ألذ وأشهى من غيره.
ولو فرضنا أيها السادة أن هناك بعض زيادات في الأسعار لا أتردد في أنكم قادرون على تذليلها حتى نتضافر جميعًا على العمل على محوها أو تخفيفها؛ خصوصًا وأن جودة المصنوعات المصرية تزيد في لبسها على فرق السعر، وليس عندي ريب في أننا — بفضل الله — سنصل قريبًا إلى الغاية المنشودة، وهي زيادة الروابط التجارية.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشيد بذكركم يا تجار أم درمان؛ فكم لكم على تجار مصر من أيادٍ كرام! فأكثركم يتصل بتجارة مصر من زمن بعيد، ومنكم كثيرون افتتحوا لهم فروعًا في القاهرة لجلب البضائع من مصر وبيع الحاصلات السودانية بها، وهؤلاء جميعًا اكتسبوا في مصر ثقتنا وحازوا منا إعجابًا لكفاءتهم التجارية، واتبعوا الصدق وحافظوا على العهد فكانوا رسلكم في التجارة أمناء أذكياء.
أيها السادة، أشكر لحضراتكم جميعًا خالص الشكر على تفضلكم بتهيئة هذه الفرصة السعيدة للاجتماع بكم، وليس في مقدورنا أن نظهركم على ما نكنُّه من الحب وعظيم الامتنان، والله وحده — جلَّت قدرته — يتولاكم عنا خير الجزاء.
وانتهت الحفلة عند الساعة العاشرة، ثم حضر بعض الأعضاء حفلات زفاف وشهدوا الرقص السوداني على الدربكة.
(٤-٥) في المكتبة القبطية
عند الساعة العاشرة والنصف من مساء اليوم أقامت المكتبة القبطية بالخرطوم حفلة سمر تكريمًا لأعضاء البعثة، وقد وُزعت المرطبات على الأعضاء. والمكتبة هي نادٍ أسسه إخواننا الأقباط بالسودان، وسموه «مكتبة» لأن عند إنشائه كان اسم «نادٍ» مرادفًا في السودان لاسم مكان للخمور والمقامرة.
وقد أُنشئت المكتبة سنة ١٩٠٧ ودارها ملك لها، وبها مكتبة ولها مجلس إدارة، ورئيسها المصري الغيور الأستاذ رياض مصري باشكاتب مصلحة الري المصري بالخرطوم. وأُلقيت الخطب المناسبة. والمكتبة مفتوحة للمسلمين والأقباط، ومحرم فيها الخمر والقمار والمناقشات الدينية، ومن خطباء حفلتها رئيسها، وعلي أفندي منصور المدرس بمدارس الأقباط بالخرطوم، وناشد ميخائيل أفندي بالمساحة السودانية. وألقى محمد الخولي أفندي قصيدة وأعضاء المكتبة.
(٥) اليوم الخامس — الثلاثاء ١٢ فبراير
(٥-١) زيارة مزارع عامر بك
توجهت مع لفيف من الأعضاء الساعة السابعة من صباح اليوم إلى مزارع حضرة الوجيه السيد إبراهيم عامر المولود في مصر، والذي اتخذ السودان مقامًا، وبه متاجره من الأقمشة والحاصلات والمصابغ ومزارعه.
زرنا مزارع مواطننا «عامر»، ومساحتها ٧٥٠ فدانًا زُرعت قمحًا وفولًا وبسلة على طريقة الدورة الثانية، فيُزرع جزء منها ويُترك بورًا للتشميس. وبها حديقة تنتج العنب التكعيبي والسلكي والبرتقالي، وأشجار الموالح، وقد أحضر لها البذور والشتل من مصر، ويروي الأرض وابور قوته ٧٥ حصانًا، ويجود الفدان بمحصول متوسطه أربعة أرادب، ويتناول الفلاح ٢٥ مليمًا في اليوم، وتتكلف زراعة الفدان ٢٢٠ قرشًا، ويدير الزراعة الشيخ متولي ونجله عبد الحميد.
وثمن الفدان في تلك المنطقة ٤ جنيهات بسبب قلة اليد العاملة وحاجة الأرض إلى السماد وآلات الري، وهو ما لا يطيقه سواد السودانيين، فليس شراء الأرض سهلًا، وليس المال موفورًا.
(٥-٢) اجتماع اللجنة التجارية
وقد عقد أعضاء اللجنة التجارية المختلطة المؤلفة من تجار بالبعثة وأعضاء بالغرفة التجارية بالخرطوم اجتماعًا قبيل ظهر اليوم.
وبهذه المناسبة ننشر فيما يلي قرار تأليف اللجنتين الزراعية والتجارية.
على أثر زيارة أعضاء البعثة للغرفة التجارية حصل اجتماع مبدئي بين أعضاء لجنة البعثة المصرية وأعضاء لجنة الغرفة التجارية السودانية، وقد رحب رئيس الغرفة التجارية السودانية بالبعثة المصرية، ورد عليه مقرر البعثة شاكرًا مجهود الغرفة التجارية.
ثم تقرر تأليف لجنتين مشتركتين تضم كل منهما بعض أعضاء البعثة وبعض أعضاء الغرفة التجارية، لتجتمع كل لجنة على حدة وتبحث المسائل التي تدخل في نطاق أغراض البعثة للوصول إلى ما ينمي العلاقات الاقتصادية بين البلدين لمصلحة الطرفين.
- اللجنة التجارية عن السودان: مسيو توتنجي، مصطفى أبو العلا، مستر اسميث، مسيو شكروغلو.
- عن مصر من التجار حضرات السادة: عبد المجيد الرمالي، محمد عبد الرحيم سماحة، علي شكري خميس، إسماعيل بركات بك.
- عن السودان اللجنة الزراعية: مسيو كونتو ميخالوس، مسيو كفوري، مسيو أزميرليان، مستر ويليمز.
- عن مصر من المشتغلين بالزراعة: فؤاد بك أباظة، ألفونس بك جريس، عطا عفيفي بك، عبد الحميد فتحي بك، عبد الحميد أباظة بك.
(٥-٣) حفلة خريجي المدارس بأم درمان
وأقام عند الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر اليوم حضرات خريجي مدارس السودان بأم درمان حفلة شاي بناديهم تكريمًا للبعثة المصرية، تبادل فيها الأعضاء ورجال البعثة التهاني، وتبادلا التحيات، وأُلقيت الكلمات المناسبة، وأعلن فؤاد بك أن لجنة الإعانات برياسة سمو الأمير عمر طوسون قد أرسلت ٥٠٠ ج لتوزيعها في وجوه الخير لإخواننا السودانيين بالطريقة التي يرونها، فقوبل النبأ بالتصفيق والهتاف بحياة الأمير.
(٥-٤) حفلة الصحافة
أقام حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير «حضارة السودان» مأدبة عشاء الساعة الثامنة من مساء يوم الثلاثاء ١٢ فبراير تكريمًا لحضرات أعضاء البعثة.
كلمة الشيخ عثمان القاضي
تكلم فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي عن تاريخ الصحافة في السودان منذ بدأت جريدة السودان سنة ١٩٠٣ حتى الآن، فقوبلت كلمته بالتصفيق.
كلمة فؤاد أباظة بك
شكر حضرة فؤاد أباظة بك فضيلة الداعي، ونوَّه بفضله في إحكام الصلات بين مصر والسودان، وجهوده في تنظيم الرحلة ومرافقة البعثة، ثم ترك الكلام لمندوبي الصحافة المصرية، وأعلن أن لجنة الإعانات برياسة سمو الأمير عمر طوسون قد خصصت ٥٠٠ جنيه لمرافق السودان الخيرية، فقوبل الخبر بالهتاف لسمو الأمير والتصفيق.
كلمة الصحافة المصرية يلقيها المؤلف
سادتي. إخواني. فضيلة الشيخ عثمان القاضي
لقد خاطبتكم التجارة كثيرًا وتحدثت إليكم الزراعة دائمًا — نعم تحدثنا بلسان حضرات الكرام مندوبي التجارة والزراعة — فهل تستمعون للصحافة قليلًا وأخيرًا؟
ما أظنكم بحاجة إلى ترديد التجارة والزراعة في هذا الحفل، ولا في إعادة ذلك الأكلشيه الخطابي، وهو توثيق العلاقات الاقتصادية؛ فنحن نريد العلاقات غير التجارية أيضًا (ضحك وتصفيق). وبقي علينا نحن — بعد أن أدت التجارة والزراعة واجبهما كاملًا — أن نسجل النتائج، وأن نمحص الآراء، وأن نتمم العمل الذي بدأ، وأن نتوج الصرح الذي نشأ، وليس هذا المقام منبرًا لخطبنا؛ فخطبنا قرأتموها وقرأها الألوف من مواطنيكم وستقرأونها.
وما بنا من حاجة إلى أن نذكر لكم أننا قد ألفينا لغوبًا ونصبًا، وأننا احتملنا عناءً وتعبًا.
فلقد أدينا واجبًا قد نشعر أنه متضائل أمام ما قابلنا به مواطنونا الأعزاء أبناء السودان من ترحاب وحفاوة، ننحني احترامًا أمام مشاهدها، ويشاركنا مواطنونا في مصر في الإعجاب بها «تصفيق».
سادتي:
إنني أزعم، من فوق هذا المكان وبأعلى صوتي، أنني أجدر من الدكتور محجوب ثابت بالانتساب إلى السودان، وأحق من «فؤاد بك السوداني» بالانتماء إليه؛ فلقد عرفت السودان طفلًا، إذ كانت جريدتنا التي أنشأها ابن خالتنا المغفور له الشيخ علي يوسف والتي تعرفونها — جريدة المؤيد — كانت في طليعة الصحف المصرية اهتمامًا بالسودان وحوادثه.
فالدرس الأول الذي تلقيته هو محبة السودان، والاسم الأول الذي عرفته في الجغرافيا هو اسم السودان «تصفيق».
وقد نمَّى محبة السودان أستاذي الدكتور محجوب ثابت — الذي يلقبه مواطنوه السودانيون بأبي كريمة وأبي دقن ودكتور أسوان والسودان ونائب مينا البصل وكردفان — منذ أن كان الدكتور أستاذًا في الجامعة المصرية في الطب الشرعي.
لقد سألني بعض إخواني هنا: هل الدكتور محجوب طبيب في الأمراض؟ فقلت لهم: إن الدكتور محجوب طبيب في كل شيء — «تصفيق».
وصادفتني بيئة أخرى أحاطتني بمحبة السودان: بيئة جريدة الأهرام، وإني لأذكر في هذا المقام المرحوم مؤسس الأهرام بشارة تقلا باشا والفقيد الأستاذ داود بركات؛ فقد كان الفقيد صديقًا للسودان.
وليس هذا فقط، فمنذ أعوام حدثني عمي الشيخ عبد الجواد أحمد أبو صغير سر تجار بني عديات بأن لأسرتنا أبناء في السودان — وفي دنقلة — منذ قرون؛ إذ كانوا يتجرون مع السودان واتخذوه مقامًا، وتوغلوا منه إلى واداي وأوغندا ونيجيريا.
أي إنني عريق الانتساب وبعيد الأنساب إلى السودان. فهل بعد هذا يضارعني الدكتور محجوب ويزهو عليَّ «فؤاد بك السوداني»؟!
قال الله تعالى إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ فها قد انتصرنا وفزنا فوزًا مبينًا.
وقال أيضًا: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
وقد لقيت رحلتنا الجزاء مضاعفًا.
سادتي:
لقد كنا نود أن يكون بيننا حضرة الكاتب المبدع المعروف الأستاذ فكري أباظة رئيس تحرير المصور، حتى يتمتع بما سمعنا اسمه يدوي في أنحاء السودان؛ ولذا فهو جدير بأن يُدعى — كأخيه فؤاد بك — بفكري السوداني «ضحك».
وإنني لأرسل إليه تحية من هذا المكان.
ونذكر هنا حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك؛ فقد أتاح للصحافة فرصة الاشتراك في هذه الرحلة الموفقة، ونذكر إخواننا التجار كونتو ميخالوس، والبرير، وأبو العلا، ومن أعرف ومن لا أعرف.
سادتي:
إني أحمد الله تعالى أن تحققت الآن أمنية المرحوم شريف باشا حين قال: «إذا نسينا السودان فهو لن ينسانا، وإذا تركناه فهو لا يتركنا.» والسلام عليكم ورحمة الله «تصفيق حاد».
(٦) اليوم السادس — الأربعاء ١٣ الجاري
(٦-١) عند جبل السليتات
وكدت أعدل عن زيارة السليتات، ولكن غيرتي على رؤية ما في برنامج البعثة وأكثر، دفعني إلى زيارة السليتات، فزرته وها أنا أكتب عنه وأنفذ عزمي:
جبل السليتات مرتفعات من الأحجار الجرانيتية؛ فيوجد جبل السليتات رقم ١، وجبل السليتات رقم ٢، وجبل السليتات رقم ٣، كل منها خلف الآخر بمسافة قريبة، وارتفاع هذه الجبال قليل؛ فهو ٦٦ مترًا، وطول كل منها ٢٠٠ متر.
وعند العزم على تنفيذ مشروع خزان جبل الأولياء، بحث المقاول جيبسون ومعه المقاولون من الباطن دنتمارو وساسو والحاج حسين فضل الله، المقاول الوطني الوحيد، في أغسطس سنة ١٩٣٢ عن أقرب الجبال الجرانيتية إلى موقع الخزان، لاقتطاعه واستعماله في بنائه، فوجدوا الكفاية في جبال السليتات.
وصلنا إلى هذه الجبال فوجدنا بها مئات العمال والآلات القاطعة، وخطًّا للسكك الحديدية والمقاولين والمهندسين يتقدمهم حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك، فحيونا جميعًا، وهتف العمال بحياة البعثة المصرية وعبد القوي بك.
وقد رافقنا حضرة صاحب العزة محمد بهي الدين بركات بك في هذه الزيارة، كما رافقنا في زيارة خزان جبل الأولياء.
عملية قطع الأحجار
تفصل أحجار الجبل قطعًا كبيرة جدًّا عادة، وذلك بأن يضرب العمال الحجر بالأجن فتحدث «خرومًا» يوضع فيها البارود «الجلينيت» والنتروجلسرين بنسبة ٦٢ في المائة من الأول، ويوضع في أسطوانة طولها ٩ سنتيمترات وقطرها ١٠، وبه فتيل يورى فيشتعل البارود بعد دقيقة ونصف أو دقيقتين، وتنفصل القطع الكبيرة عن جسم الجبل ولكنها تظل في مكانها. ويسمع لاشتعال البارود دوي كدوي القنابل، ويتطاير في أثناء ذلك قطع صغيرة من الحجر إلى مسافة ٢٠٠ متر، خطير هجومها، ولذا يتقيها العمال بالعدو بعيدًا عن الجبل عقب إشعال الفتيل. ولا تعمل «الخروم» اعتباطًا، بل يتخير المهندس موضعًا في الجبل به اتجاه معين يساعد على فصل الصخر أكثر من أي اتجاه آخر، ويسمى هذا الاتجاه «ماء الحجر». وعمق الخرم خمسة سنتيمترات أيضًا، ثم توضع في «الأخرام» خوابير منشورية ويدق عليها بالتناوب، وكل عشرة منها تحتاج إلى ساعة للدق عليها.
ويبلغ طول أكبر حجر مترين، وعرضه مترًا واحدًا بعد تهذيبه. وهناك ثلاثة «ونشات» يحمل كل «ونش» خمسة أطنان، ويعمل في الحجر المتقطع خرمان، ويحمل الونش الحجر من الخرمين. وتوجد رسوم للأحجار المطلوبة، فينظم العامل النحات الحجر طبقًا للرسم المطلوب.
ويقوم بالنحت عمال إيطاليون ومصريون وسودانيون، ويتقاضى الإيطالي أجرًا يوميًّا يتراوح بين المائة والمائة والعشرين والمائة والثلاثين قرشًا، والمصري من ٨٠ إلى ٩٠ قرشًا، والسوداني من ٥٠ و٦٠ قرشًا، وعدد النحاتين الإيطاليين ١٠٠ والمصريين ١٥٠ والسودانيين ٥، ويوجد ١٤١ صنفًا من الأحجار، ويوجد ١٥٠٠ عامل في المحاجر.
وجبل سليتات رقم ٢ يؤخذ منه «الدبش» ويصنع الخرسان من فتات الجرانيت المدقوق يرسل إلى الخزان حيث يضاف إليه أسمنت بنسبة: ١ أسمنت و٢ رمل و٤ مدقوق الجرانيت، ويوجد عند السليتات مستشفى به طبيب إيطالي وثلاثة مساعدون من كلية غوردون.
وتسير قطارات السكة الحديد الخصوصية بين السليتات إلى الخزان يوميًّا بمعدل ٣ عربات تحمل جرانيت و٤٠ عرية تحمل دبشًا.
ويشرف على العمال المقاولان ساسو الإيطالي والشيخ حسين فضل الله. وتسكن أسرة المقاول ساسو عند الجبل، وقد استقبلتنا أسرته وأخذت لنا صورة معها، والمقاول ساسو كثير العطف على العمال يواسي مرضاهم، وهو مع الشيخ فضل الله طالما اشتغلا مقاولين من الباطن لكبار المقاولين في بناء الخزانات والقناطر؛ كتعلية خزان أسوان، وقناطر نجع حمادي. ورأينا على بعض الدور؛ وخاصة على مكتب المقاول، ثلاثة أعلام: العلم الإيطالي والمصري والإنجليزي.
والقائمون بالإشراف على محاجر السليتات وخزان جبل الأولياء هم على الترتيب حضرات مستر فون لي المهندس المستشار للخزانات ومركزه لندن — إذ هو مستشار فني عالمي — ويحضر إلى الخزان مرة في كل سنة ولمدة شهر، ثم عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم، فمستر أديسون وكيل المهندس المقيم، وحامد سليمان مساعد المهندس المقيم، وقد نُقل أخيرًا إلى قناطر أسيوط لمناسبة عملية توسيعها، ومستر أكلين وزكريا محمد ومستر بوين مدير أعمال، وإبراهيم زكي وأحمد توفيق طبوزاده قائمين بأعمال مديري الأعمال، وأحمد سعيد إبراهيم مفتش المحاجر، ومستر جامبلتون باشمفتش المباني، وعبد الحميد حسين مساعد مدير أعمال، ومسيو كاردياكوس رئيس قسم الرسم، ومستر ولن مفتش التصميمات، ومستر ملن مفتش الحدائق، ورياض علي ويوسف المراغي شقيق فضيلة الشيخ المراغي، ومحمد عبد الرحمن الغرابلي نجل شقيقة الغرابلي باشا، ومحمد عبد الرحمن عبد الباري ومحمد أحمد عتيبة ورياض علي منصور ومحمود حسن بكير وحكيم مهدي وعبد الخالق السكاوي وعلي عزت حمدي ومصطفى الزيات والسيد أحمد علام وأحمد الشرباسي، وغيرهم من الشبان المهندسين خريجي مدرسة الهندسة والمدارس الهندسية الكبرى في إنجلترا، ومدرسة الفنون والصناعات الملكية الكبرى في إنجلترا.
ويتناول الموظفون — فضلًا عن مرتباتهم — ٤٠ في المائة علاوة لمناسبة إقامتهم في السودان مع مساكن مجانية.
وتبلغ زنة المتر المكعب من الجرانيت ٢٦٠ كيلو جرامًا، وزنة أكبر قطعة مهذبة ٣ أطنان ونصف. أما الكتل الكبيرة التي يفصلها الديناميت عن جسم الجبل، فتبلغ الواحدة منها ١٥٠٠ متر مكعب، وزنتها خمسة آلاف طن.
مأدبة إفطار
وقد أقام حضرة المقاول حسين فضل الله سرادقًا أعدَّ به مأدبة إفطار، جمعت ما لذ وطاب من الطعام، فجلسنا وتناولنا ما طاب لنا، وقد ارتجل حضرة الشيخ محمد عبد العاطي وكيل المقاول خطابًا ترحيبيًّا، وألقى عبد الله دسوقي أفندي ملاحظ المحاجر بالمحاجر قصيدة، ثم ألقى حضرة رياض أسعد أفندي باشكاتب المقاول خطابًا آخر.
سمعتم حضراتكم أقوال الخطباء، وإني لأنوه في هذا المقام بحضرة المقاول المصري الوحيد هنا، وهو الشيخ الحاج حسين فضل الله، فهو مقاول العمال والمشرف على أعمالهم والمساعد للمقاول ساسو، وقد أبت مروءة الشيخ فضل الله إلا أن يقوم عنا بإعداد طعام الإفطار لكم، فتركنا له أداء ذلك الواجب الذي كان مُلقًى علينا «هتاف من العمال بحياة عبد القوي بك والشيخ حسين فضل الله» «تصفيق».
استغلال المحاجر
يجهل الكثيرون اليوم ما يوجد في بلادهم من كنوز منحتهم الطبيعة إياها بلا ثمن، ونعني بهذه الكنوز الأحجار الجميلة المختلفة في الجبال والصحاري الواسعة، وإذا لم يتسع مجال هذا الحديث لنذكر لك بيانًا مفصلًا عن الأحجار في مصر فإننا نوجز من ذكر المناطق الغنية بالثروة الحجرية وتشمل: الجرانيت — البازلت — الرخام — السنيت — السكك — الألاباستر. ولكن حجر الجرانيت المصري من أحسن أنواع هذه الأحجار في العالم؛ حيث يمتاز بألوانه البديعة (الأزرق والأحمر بالزراق والأسود والأبيض المائل إلى الاصفرار)، ويوجد هذا الحجر بكثرة في منطقتي أسوان والشلال وما جاورهما والسودان، ويرى الأخصائيون أن له أهمية خاصة في بناء الخزانات ورصف الشوارع وكل ما يلزم لأشغال المعمار الحديث وأشغال الحفر والزخرفة وغيرها، كذلك يوجد البازلت في مناطق مختلفة؛ أهمها منطقة أبي زعبل التي تستغلها مصلحة السجون، وقد وجهت مصلحة المناجم عنايتها أخيرًا لاستغلال هذه المنطقة. أما أحجار الرخام والألاباستر فتوجد بالقرب من أسيوط وبني سويف وحول الأهرام بجهة (أجران الفول)، وهذا عدا الأحجار الجيرية والرملية، كذلك توجد أحجار (السماني الإمبراطوري) في جبل الدخان على شواطئ البحر الأحمر، وهي تعد أحسن أحجار من نوعها في العالم.
صناعة الأحجار قديمًا
ولقد بلغت صناعة الأحجار في العصور المصرية القديمة حدها الأقصى من الرقي والتقدم، ولا تزال هذه الصناعة الفرعونية شاهدة بخلودها وجمالها على ما كان لأجدادنا المصريين من ذوق وفن وقدرة بالغة على اتقان الصناعات الحجرية واستغلال المحاجر، ولا حاجة أن نذكر شاهدًا على ما نقول؛ حيث لا يوجد في العالم كله من لا يؤمن بعظمة الأهرام والمسلات والتماثيل المصرية القديمة.
- (١)
جهل كثيرين من الفنيين في مصر مزايا الأحجار المصرية المختلفة.
- (٢)
عدم وجود رءوس أموال كبيرة منظمة لاستغلال المحاجر أو تأسيس شركات لهذا الغرض.
- (٣)
طرق الاستغلال القديمة المتبعة إلى الآن في بعض المحاجر.
- (٤)
افتقار البلاد إلى الفنيين الحقيقيين الملمين بأطوار صناعة الأحجار واستغلال المحاجر عمليًّا. هذا إذا استثنينا بعض الجيولوجيين واختصاصهم المحصور في النظريات العلمية البحتة.
ومما يؤسف له أنه بالرغم من كثرة وجود المحاجر المصرية لا تزال مصر إلى اليوم تستورد الأحجار اللازمة للمشروعات المختلفة فيها من أوروبا، مع العلم بأن هذه الأحجار أقل في الجودة من الأحجار المصرية، بل أدعى إلى الأسف من ذلك أن بعض الأحجار المصرية ترسل إلى أوروبا ليجري التشغيل عليها في مصانعها من قص ونحت وصقل بما يتناسب مع استعمالها في الأشغال المعمارية المختلفة أو في الحليات وأشغال النحت والزخرفة، حيث لا توجد في مصر المصانع الفنية التي تقوم بهذا العمل. ولا يخفى ما تتكبده البلاد في هذه الحالات من التكاليف الباهظة في عمليات نقلها إلى أوروبا ثم استردادها منها.
ولا نكون مغالين إذا قلنا إنه لو أتيح إنهاض هذه الصناعات في مصر لكانت أوفر الصناعات المحلية ربحًا ونجاحًا؛ وذلك راجع إلى توفر خاماتها الجيدة من جهة، وتوفر الأيدي العاملة ورخصها من جهة أخرى.
ومحاجر الجرانيت في أسوان بالقرب من النيل، وإنشاء محطة لتوليد الكهرباء من خزان أسوان، وتوفر الأيدي العاملة في هذه الجهات، كل هذه العوامل كافية لإنشاء محطة لصناعة الأحجار في هذه المنطقة قد لا تضارعها محطة أخرى في العالم؛ ولا سيما إذا عرفنا أن الخامات الحجرية في مصر من أجود خامات العالم، مما يؤكد لها الرواج الكبير في الخارج ويحقق لمصر من هذه التجارة ملايين الجنيهات.
كذلك نذكر أن من أهم العوامل في تنشيط تجارة الأحجار سهولة المواصلات بين الأمم المتعاملة في هذه التجارة، ولا يخفى أن مركز مصر الجغرافي بين الشرق والغرب سيجعل حتمًا لها المقام الأول في تصدير الأحجار إذا نشطت صناعتها فيها؛ وخصوصًا إلى الأمم الشرقية التي تستورد الأحجار من أوروبا بأموال طائلة بينما الأحجار المصرية أجود منها بكثير، وستكون بطبيعة الحال أقل نفقة في نقلها وتصديرها.
ولكن مما يثير الدهش أن تعلم أن صناعة الأحجار تكاد تكون معدومة الآن في مصر كصناعة محلية، على أن الأجانب قد عرفوا قدر هذه الصناعة فاهتموا ببعض جوانبها الرابحة في مصر أكثر من المصريين؛ ولذلك فقد احتكروا كثيرًا من الأعمال الحجرية الكبيرة التي تدفع فيها الحكومة آلاف الجنيهات مع العلم بأنها تقوم أولًا وآخرًا على الأيدي المصرية التي تعمل بأقل الأجور بينما يربح الأجنبي كل شيء.
على أن مصر فوق كل هذا تستهلك من الأحجار الواردة من الخارج لأعمال الرصف وأشغال العمارات المختلفة وغيرها بما يزيد ثمنه على المائة ألف جنيه سنويًّا. هذا في الوقت الذي لا يوجد في مصر أكثر من الأحجار والمستعدين للقيام باستغلال المحاجر.
وقد حاولت مصلحة التجارة والصناعة أن تنهض يومًا بصناعة الأحجار، فسعت لدى وزارة المعارف لإنشاء قسم خاص للجرانيت في مدرسة أسوان الصناعية، فتم ذلك في سنة ١٩٢٩.
وتسعى ممالك السويد والنرويج وفنلندا لعمل (اتحاد دولي) لاحتكار سوق الأحجار في العالم؛ وذلك راجع لاحتياج العالم كله إلى أحجار هذه الممالك لانفرادها بوجود أحسن أنواعها فيها مما لا يعادلها في ذلك غير محاجر القطر المصري.
فلعل ذلك حافز لمصر أن تشاطر هذه الأمم في نهضتها باستغلال المحاجر والاهتمام بالصناعات الحجرية حتى يكون لها النصيب الأوفر في هذا الاتحاد الدولي المشار إليه. ا.ﻫ.
كلمة فؤاد أباظة بك
ثم ألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمة شكر للخطباء وقال: إننا فخورون أن نرى مواطننا الغيور الشيخ فضل الله وحضرة وكيله محمد عبد العاطي، ومن جهة أخرى قد رأيتم يا إخواني مسيو ساسو وأسرته الكريمة، تسكن هنا بعيدًا عن العمران، ولا يشكون شيئًا، بل هم سعداء بهذه المعيشة. وهكذا الجد والصبر، فليكن هذا مثالًا لنا وعظة «تصفيق».
(٦-٢) في آثار أم درمان
عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم زرت آثار أم درمان، حيث موقعتها الشهيرة، وجامع السيد محمد أحمد المهدي الكبير، وقد هدمت القنابل قبته، ومنزل خليفته عبد الله التعايشي، وزرت آثاره وآثار السيد المهدي الكبير وغوردون وجيش الدراويش.
والجامع يشغل فدانين من الأرض الفضاء المسورة بحائط ارتفاعه متران، وغير مُسقَّف — وكان ذلك في عهد الحركة المهدية — وجامع المهدي مغلق، وقبة ضريح المهدي مهدمة.
وقد شهدتُ عربة السلطان حسين سلطان دارفور المهداة إليه من الملكة فيكتوريا، ويجرها ستة من الجياد، استولى عليها الدراويش، وهي قسمان: قسم لركوب السائق، وهي مركبة على عجلتين والعربة نفسها ملحقة بالمركبة، وعربة غوردون، وهي تشبه الدوكار الذي به الأربع العجلات، وكان الخليفة التعايشي يستعمل هذه العربات أحيانًا، وأحيانًا أخرى يركب الهجين أو الجواد، ورأيت سلالًا لحمل الذرة والدخن واللبن، ورأيت أعلامًا مختلفة للمهدية، وهي تشبه تقريبًا أعلام الصوفيين، ومنها علم كُتب عليه (لا إله إلا الله، محمد أحمد المهدي خليفة رسول الله). ورأيت جببًا، وهي تشبه جبب بعض المجذوبين في الموالد والأضرحة المصرية، ورأيت مطبعة حجر كانت تُطبع عليها المنشورات والكتب، وتديرها عجلة كعجلة الساقية إنما من غير إطار، وسيوفًا وحرابًا، وآلات لسك النقود كان يتولى السبك فيها رجل اسمه إلياس عبد الله من مصر، بُترت ساقه اليمنى ويده اليسرى، ونقودًا؛ ومنها عملة إنجليزية ومصرية وسودانية مكتوب فيها «ضُرب في أم درمان»، وعملة فضية من ذات العشرين والعشرة والخمسة قروش، وخوذًا، ودروعًا وتروسًا وطاقية «أم جرينات».
وهناك لوحة كُتب عليها عدد الجيش الذي استرد السودان وهو:
١٧٦٠٠ | عدد الجيش المصري. |
٨٢٠٠ | عدد الجيش الإنجليزي. |
٤٨ | عدد قتلى الجيشين في واقعة أم درمان. |
٩٧٠٠ | عدد قتلى الدراويش. |
٥٠٠٠ | أسرى الدراويش. |
ومنزل الخليفة التعايشي يشبه دور صغار القرويين عندنا، وقد بناه حمدي النوار بإشراف الإيطالي بترو، وهناك بيتان للتعايشي: الأول بني سنة ١٨٨٧، والثاني سنة ١٨٩١.
راتب المهدي
أستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، فإني ضعيف عند القيام بها وعن حفظها أقل من ساعة، فيا من إليه الضراعة ويا من بيده كل شفاعة احفظ وديعتي بفضلك، بحرمة من أنت له في الشفاعة، حتى لا تكون لي شبهة ولا وهم ولا أدنى حِطَّة عن كمال نور التوحيد والإيمان، يا واحد يا رحيم يا منان، فأنت الله الملك الديان اللطيف القادر الرحمن. استجب دعوتي، ولا تجعل ذلك مني مجرد قول ليس له منك مكان، يا من هو عند المنكسرة قلوبهم، فإني منكسر القلب ليس لي من ألتجئ إليه في طلبي هذا إلا أنت.
والكتاب مكتوب بالخط الفارسي المقبول.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المولى الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعدُ، فجزيل السلام من عبد ربه الواثق بمولاه محمد المهدي بن عبد الله.
إلى أحبابه وأعوانه في إقامة الدين أمير محكمة دار الفقير إليه عبد الصمد ابن عمنا أحمد شرفي ومن معه من الإخوان أنصار الدين. أحبابي فجزاكم الله عن دينه خيرًا حيث توفقتم لبيان الحكم من الله ورسوله في أهالي تلك الجهة، وقد أصبتم، أصاب الله لكم الحق، فإن المؤمن لا يحل له أن يُقدم على أمر حتى يعم حكم الله فيه، فها كذا كونوا يا أنصار الدين، فأما من جهة سماع الدعاوي والتحديد بالنسبة إلى العربان المسلمين لأمر المهدي، فسماع دعاويهم من وقت تسليمهم ومجاهرتهم بالعداوة الترك وخروجهم من طاعتهم، ولا يعلم ذلك لنا إلا بواسطتكم، وتحقيق ذلك منوط بكم؛ لأنه يعلم الشاهد ما لا يراه الغايب. فدققوا فيه لتعرفوه جيدًا؛ سواء كان وافق تاريخهم لوقعت الشلال المحددة من اثني عشر رجب الماضي سنة ١٢٩٩ أو قبله أو بعده، وإن لم يتضح فيه لكم وقت معين بعد إجهادكم فاحملوه على الوقت المحدد من وقعت الشلال، فتسقط الدعاوي التي قبل ذلك ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم والهوامل كما التاريخ الذي في علمكم وما يكون في إيقاعه شدة حرج ومشقة على المسلمين من الأمور الشاقة الشاغلة عن الدين، فارفعوه إلينا لننظر ما فيه صلاح المؤمنين، فهذا التفصيل بالنسبة للطائفة المسلمة المهدية. وأما الطائفة التي مع الكفرة، فتحديد وقتها من يوم تسليمها، وأما بالنسبة للترك ومن معهم، فمن خرج قبل يوم قتل الجردة الذي هو في أربعة محرم، فإن كان خرج مصدقًا بالمهدية مسلمًا لها فلا يغنم لديتي بل يُعطى حقه تمامًا، وإن كان منكرًا، وإنما خرج لأجل الخوف، فإن ماله جميعًا لبيت المال. وأما أموال المجاسنات التي بين العربات فكلها غنيمة؛ لأنها بعدم عين صاحبها صارت لبيت المال.
فبذلكم تدوم نعمتكم وتغلبون أعداءكم. فكونوا أحبابي لله، فمن كان لله كان الله له وبعده السلام.
«عشرون غرش ميري»
هذا المبلغ مقبول ويجري دفعه من خزينة الخرطوم أو مصر بعد مضي ستة شهور من تاريخه.
وكانت تصدر الشيكات بقيم مختلفة.
(٦-٣) في المعهد العلمي
وفي الساعة الأولى بعد الظهر زار أعضاء البعثة المعهد العلمي بأم درمان، وهو يشبه الجامع الأزهر في دراسته على الطريقة القديمة غير النظامية، واستقبلنا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء أم درمان وشيخ المعهد وفضيلة الشيخ أحمد أحمد أبو القاسم هاشم وكيل المعهد. ويجلس الطلبة جماعات في الجامع، ومع كل جماعة مدرسها. وعدد الطلبة ٧٠٠ من جميع أنحاء السودان، وعدد المدرسين ٢٥، ومرتباتهم تدفعها الحكومة، فراتب شيخ العلماء ٥٣ جنيهًا، ووكيله ١٧، والمدرسون من أربعة جنيهات إلى عشرة. وللطلبة والعلماء بدل جراية ثلاثون قرشًا شهريًّا، ولما كثر عدد الطلبة كان منهم من لا يحصل على البدل، فهزت الأريحية حضرة الوجيه إبراهيم عامر بك التاجر الأكبر فتبرع لمناسبة زيارة البعثة المصرية بمبلغ مائة جنيه لفقراء الطلبة وأرسل شيكًا في الحال إلى فضيلة شيخ العلماء. وتبرع كل من حضرات السيد سماحة ومحمد حسين الرشيدي ومحمد حسن قاسم بتوريد الكتب الناقصة للمعهد.
تبرعت لجنة إعانة السودان برياسة سمو الأمير عمر طوسون بمبلغ ٢٢٥ جنيهًا.
شخصيات المتبرعين
وبهذه المناسبة نذكر أن السيد إبراهيم عامر كان مصريًّا اشتغل بالتجارة في السودان منذ أربعين عامًا، وافتتح محلًّا للأقمشة ولبيع المانيفاتورة، وله فروع في السودان ومصر، وأنشأ مصبغة في بور سودان عمالها من الأسيوطيين تصبغ في اليوم الواحد أكثر من ألفي ثوب من القماش ماركة «الجَبَنة» بفتح الجيم والباء.
وأما محمد حسن قاسم أفندي فإنه مع شقيقه أحمد حسن قاسم أفندي الذي اتصل بالبعثة في الخرطوم طائرًا، وعاد للقاهرة طائرًا أيضًا، فإنهما ولدا المرحوم حسن قاسم الذي اشتغل بتجارة المحاصيل السودانية طول حياته، وعلَّم ولديه محمد وأحمد أن يكونا تاجرين، وأن لا يعوِّلا على وظائف الحكومة، فضرب المثل النادر في هذا الباب، وقد انتهزا فرصة رحلة البعثة فكانا من أعضائها وعقدا صفقات كبيرة، وكان وجودهما مشجعًا للأسواق والتعاون التجاري في السودان، ولوالدهما بمكتبة المعهد كتب باسمه أهداها للمعهد. رحم الله هذا الوالد الغيور الكريم.
وأما السيد محمد عبد الرحيم سماحة فهو شاب نشيط من فارسكور طموح، وله — مع آله أسرة سماحة المعروفة في فارسكور — معاصر للسمسم والزيت، وقد عقد صفقات تجارية بمبلغ ستة آلاف جنيه، وكان تجار السودان يعرفونه من زمن بعيد، وكان من مفاخر البعثة أن يقرن هؤلاء الكرام القول بالفعل في باب التعاون الصحيح بين مصر والسودان.
(٦-٤) مأدبة السيد البرير
وأقام حضرة الوجيه الشيخ محمد أحمد البرير مأدبة غداء في الساعة الأولى والنصف بعد ظهر اليوم بداره بأم درمان تكريمًا للبعثة. وآل البرير من أم درمان الجعليين، ولهم متاجر في مصر والسودان، وقد جعل شقيقهم على البرير أفندي محل إقامته في مصر يتجر فيها لحساب إخوته والتجار السودانيين.
وقد ألقى نجل السيد البرير خطابًا ممتعًا، وتكلم فؤاد أباظة بك شاكرًا ومعانقًا الشيخ البرير ومتبادلًا معه اللقب: البرير المصري وفؤاد السوداني، وألقى الدكتور محجوب ثابت كلمة من جوامع كلمه.
(٦-٥) عند شيخ العلماء
عند منتصف الساعة الخامسة مساءً اليوم أقام فضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء السودان بأم درمان حفلة شاي تكريمًا لأعضاء البعثة، ألقيت فيها الخطب المناسبة، وألقى فؤاد أباظة بك خطابًا أشار فيه إلى تعرفه في الإسكندرية بفضيلة الشيخ وما وجده فيه من الصراحة كالسيف القاطع، وأبان عذر اللجنة وضيق وقتها في عدم تمكنها من إجابة الدعوات؛ فقد تبين أن العلماء والوطنيين عاتبون على البعثة، إذ كانوا يريدون أن ينزل أعضاء البعثة ضيوفًا عليهم في بيوتهم ولا ينزلون بالفنادق، وقد عدُّوا هذا سُبَّةً لهم، فأبان فؤاد بك الظروف التي دعت إلى ذلك، ورضي الشيخ وانتهى العتاب.
خطاب محمد بهي الدين بركات بك
صاحب السيادة الحسيب النسيب السيد عبد الرحمن المهدي
سادتي من آل هاشم، سادتي وإخواني:
جرت العادة عندما يفكر الواحد منا في السفر إلى جهة بعيدة أن يسائل نفسه عما سيجده في البلاد التي يقصدها، وماذا سيكون عليه أهلها، ويسعى إلى الاتصال ببعض المعارف والأصدقاء الذين تكون لهم صلات في تلك البلاد حتى يقلل من وحشة الغربة ويجد له العون إذا ما اشتد به الأمر، ولست أنكركم أن هذه كانت حالي عندما فكرت في زيارة السودان؛ فمنذ أن سنحت لي الفرصة أن أكون حرًّا من العمل في فصل الشتاء تردد على خاطري أن أقوم بواجب الزيارة نحو السودان، وفعلًا نفذت العزم في العام الماضي فجئت إلى وادي حلفا، ومع أني كنت على مقربة من الخرطوم فقد رجعت إلى مصر معتذرًا لنفسي بعدم وجود الرفيق الذي يؤانسني في وحدتي، ولكني مع ذلك صممت على إتمام تلك الزيارة في هذا العام مهما كانت الظروف، وأخذت أبحث عن رفيق فلم أُوفَّق، وجعلت أسأل من يعرفون السودان وأنا خجل أن أقول إنهم قليلون من يعرفون السودان وأهله ونواحيه، وأخيرًا اتخذت الأهبة وحضرت إلى الخرطوم فلم ألبث بعد أن نزلت من القطار في المحطة حتى وجدت من يستقبلني ويرحب بي، فعلمت أني لست بالغريب، بل أنا بين أهلي وإخواني، وذهبت إلى الفندق فوجدت من يسأل عني ومن يكرمني فنسيت أني تركت مصر، فأنا بين أهل وعشيرة؛ لغتهم لغتي، عوائدهم عوائدي، مجاملاتهم، طريقة تعارفهم، آدابهم معاملاتهم كلها جميعًا هي ما اعتدت عليه وما رُبِّيت فيه، فلم نلبث أن تلاقينا حتى اندمجت الروح بالروح؛ فهي كالكهرباء تتصل بمجرد أن تتلاقى، بل أكثر من ذلك لقيت تكريمًا وإعزازًا وعطفًا لا أجدهما في مكان آخر. زرت المعهد، زرت المدارس، رأيت المصانع والمتاجر، فإذا المعهد هو الأزهر بعينه في طريقته وفي دروسه وفي ثقافته، وإذا المدارس هي هي مدارس مصر التي أعرفها. مررت في الشارع فوجدت ما ألقاه في مصر من عطف واشتراك في الشعور، فتحققت أن الناحية الروحية التي تربط السودان ومصر موفورة متمكنة، وأن المتاعب والصعاب التي كنت أظنها ستعرض لي لم تكن إلا وهمًا. وصدقوني إذا قلت لكم إنني لو عرفت ذلك من قبل لزرت السودان من أعوام.
هذا من جهة العلاقات الروحية، وهي بحمد الله متوفرة تمام التوفر، وهذا ما نغتبط له أشد الاغتباط؛ فإن الغاية العظمى للإنسانية هي نشر روح المحبة والإخاء والسلام في العالم.
أما العلاقات الاقتصادية من تجارية وزراعية، فإني لا أريد أن أعتدي على حق زملائي أعضاء البعثة فيها، وسأترك لهم أمر بحثها اليوم وغدًا ليدرسوها دراسة فنية مفيدة.
أيها السادة، منذ أن وطئت قدماي هذه الديار وجدت مودة واحترامًا وإخاء لم يفارقني لحظة من لحظات إقامتي حتى كدت أنسى أن أفكر فيما عليَّ من واجبات في مصر.
وأما أنتم يا آل هاشم، فعلمي أنكم عرب، وأن عادة العرب أن يشكر المضيف ضيفه لا أن يشكر الضيف مضيفه؛ ولذلك فإني أمسكت عن الشكر لأني عاجز عن إيفاء حقكم في الشكر والسلام. «تصفيق».
هدية عبد الحميد المهدي
وبهذه المناسبة نذكر مشكلة الدعوات التي استحال تلبيتها؛ فقد أراد الشيخ عبد الحميد المهدي التاجر أن يدعو البعثة إلى مأدبة، فلما وجد ذلك مستحيلًا عمد إلى صنع عصي من الأبنوس والسن أهدى إلى كل عضو عصًا باسمه، فكان كيِّسًا، وكان حسن الذوق، فله منا الشكر. وعبد الحميد المهدي تاجر في مصر والسودان.
(٦-٦) في نادي الضباط الوطنيين
وفي الساعة السادسة مساءً زار الأعضاء نادي الضباط الوطنيين بأم درمان، وقُدِّمت لهم المرطبات والفاكهة والجَبَنة (بفتح الجيم والباء) ومعناها «القهوة»، وكان في استقبالهم صاحب العزة القائمقام حسين طاهر بك رئيس النادي.
وبهذه المناسبة نذكر أنه منذ خروج الجيش المصري من السودان سنة ١٩٢٤ أُلغيت المدرسة الحربية بالخرطوم، وأصبحت هناك قوة تسمى قوة الدفاع عن السودان مؤلفة من جنود غير نظاميين، وأُحيل أكثر الضباط السودانيين إلى المعاش؛ فقد كانوا يعملون في الأورط التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة.
وبقوة الدفاع أقسام: قسم المهندسين — الحملة الميكانيكية، أورطة العرب الشرقية (بكسلا)، أورطة العرب الغربية «الفاشر»، أورطة خط الاستواء «منجلا»، الهجانة «كردفان»، السواري «شندي».
وتتألف الأورط من بلوكات، ويختار الضباط «من تحت السلاح»؛ أي بترقية البلوكات أمناء.
وعدد أعضاء النادي ١٤٥ ضابطًا منهم ٥٥ في الخدمة.
والأصل في إنشاء قوة العرب أنه كان بكسلا عند احتلال الإيطاليين لها في الثورة المهدية عساكر «باشبوزق» يلبسون جببًا وسراويل، فلما أُعيدت كسلا إلى حكومة السودان الحالية أبقت هذه القوة، وعممتها.
والاعتماد في الدفاع عن السودان هو للسيارات والطيارات المسلحة.
تدفع مصر ٧٥٠ ألف جنيه للحكومة السودانية سنويًّا باسم قوة الدفاع عن السودان، ولكن هذا المبلغ يساعد ميزانية حكومة السودان في دفع رواتب الموظفين المدنيين فضلًا عن القيام بنفقات قوة الدفاع.
وهناك جيش إنجليزي صغير في السودان أورطتان نصفها في جيبت، حيث الهواء معتدل، ونصفها بالخرطوم، وينتقل كل نصف بين هذين الموقعين كل ستة أشهر، وكم أسفت على الظروف التي جعلت هؤلاء الضباط السودانيين الشجعان عاطلين لا تنتفع بهم بلادهم.
(٦-٧) في كلية غوردون
زرت مساء اليوم كلية غوردون لمناسبة اجتماع الجمعية الأدبية لطلبة المدرسة حيث تكلم الدكتور محجوب ثابت في فوائد الألعاب الرياضية في الصحة وفي علاج بعض الأمراض، وقد أعجبني ذكاء الطلبة، فقد سأل أحد نجباء الطلبة الدكتور محجوب ما يلي: يا حضرة الدكتور قلت لنا إن الألعاب الرياضية تفيد في علاج الأمراض وفي الصحة وإطالة العمر، فكيف تعلل أن كبار الرياضيين من أقصر الناس أعمارًا، وأكثرهم أمراضًا؟ فأجاب الدكتور: إن هؤلاء هم الرياضيون المحترفون، فمنهم مثلًا من يحمل أحمالًا ثقيلة من الحديد فيضغط دم الدورة الدموية على القلب بأكثر مما يلزمه، وقد يتسبب من ذلك أمراض القلب والصدر والموت فجأة، وكلامي منصب على الرياضة المعقولة، لا على الرياضة العنيفة المأجورة.
وكان الطلبة يلبسون الجلاليب والعمم، وكان بعضهم جالسًا على الأرض، وعلمت أن هذا مباح، وشهدت فعلًا بعض خريجي المدرسة الموظفين يلبسون ذلك وهم في مكاتب الحكومة؛ كالبريد والتلغراف في الأقاليم وكالسكك الحديدية. ومدير المدرسة هو مستر ويليمز، وكان يشرف على محاضرات الجمعية الأدبية مستر ليوبولد مدرس الإنجليزية والتاريخ، ومعه حضرة عبيد عبد النور أفندي مدرس التاريخ والتربية — وهو شاب مثقف كفء — فكان يدير المناقشات بمهارة، ومعهم إسماعيل الأزهري أفندي مدرس الرياضة، والشيخ جلال الدين مدرس العربية.
وعدد طلبة الكلية ٥٠٠، أكثرهم بالقسم الداخلي الذي أجرته ٢٨ جنيهًا في السنة و١٥ جنيهًا للطلبة الخارجين، ويتناولون بالكلية الإفطار والغذاء. وبالكلية ١٤ فصلًا و٢٢ مدرسًا من الوطنيين و٨ من الإنجليز، وتعطى الدروس بالإنجليزية، التي يجيدها الطلبة، والتي هي لغة المحاكم المتغلبة ولغة الدواوين على الغالب، ومن أقسام الكلية: القسم العلمي، ويرشَّح خريجوه للالتحاق بكلية كتشنر الطبية وقسم المحاسبين، وقسم المترجمين، وقسم المعلمين، وقسم القضاء الشرعي. ودراسة الطب لمدة أربع سنوات في كلية كتشنر.
(٧) اليوم السابع يوم الخميس ١٤ فبراير
في السودان مصلحة عامة للري ومفتش عام للري اسمه مستر نيوهاوس، في العقد السادس من عمره، عالم جليل ومهندس بارع يتحلى بخلق سامٍ، واختصاص هذه المصلحة هو الإشراف على مصادر النيل والقيام بالأبحاث العلمية والفنية في سبيل زيادة ماء الري في مصر حتى تصبح جميع الأراضي البور خصبة التربة. ومستر بوتشر هو مفتش الري في الجنوب.
زرنا الترسانة المصرية على النيل، حيث بها البواخر المصرية التي تسافر إلى أعالي النيل إلى بحر الجبل والرصيرص ومنطقة السدود، لمسح الأراضي ومعرفة تسربات فروع النيل واتصالاتها لإمكان إنشاء ترعة أو خزان لحجز الماء ونقله إلى مصر، بدلًا من ضياعه في الأخوار وتشرُّبه في الرمال وتبخُّره في الجو.
وقد أنشأت وزارة الأشغال مستعمرة للري بها مساكن الموظفين وورش للنجارة والحدادة والبرادة والكهرباء، وقد تكلف إنشاء المستعمرة ١٦٠ ألف جنيه، فضلًا عن نفقات جديدة اقتضاها إنشاء ورشة جديدة للحدادة ومصنع لتوليد النور، وتستعمل البواخر في انتقالات المهندسين والموظفين من الخرطوم إلى أعالي النيل؛ لأن الطريق الوحيد إلى تلك المناطق هو النهر أو الجو. ويعمل في الري المصري ثلاثون مهندسًا، وهناك مساعدون ومساحون. وكان يرافقنا في زيارة الترسانة والحوض والبواخر والورش ومنازل الموظفين حضرة أحمد فهيم أفندي مدير الأعمال، وحضرة أحمد سلطان أفندي المفتش الإداري المنتدب في مهمة التحقيق بمخازن الري المصري.
وبعد الزيارة واستقبال الموظفين وتناول المرطبات، زرنا حضرة الميجر نيوهاوس المفتش العام للري المصري في السودان في مكتبه، حيث رحب بنا وألقى محاضرة على ضوء الخرائط والرسوم عن الري المصري في السودان، فقال إن الأبحاث الجارية في سبيل وضع مشروعات لزيادة ماء الري الوارد من أعالي النيل إلى مصر، تجرى في منطقة موحشة غير مأهولة وغير متمدينة ينتشر بها الناموس الجالب للملاريا، والمواصلات إليها شاقة، وعمل المهندس والرسام أشق لأنه قد يضطر إلى قضاء شهرين وحده في صندل، معرضًا للأمراض والحشرات والوحوش والتماسيح والرياح والحر، وينقل إليه الماء والزاد برفاصات، هذا إلى تمهيد الطرق لمسير السيارات وإلى ضرورة وجود الميكانيكيين لإصلاحها إذا فسدت. والنقل بالبواخر المصرية أكثر اقتصادًا من النقل بالبواخر الأخرى فضلًا عن عدم الخضوع لتحكمات البواخر الأخرى، وتسير البواخر المصرية حتى منجلة. وقد كان البحث عن حالة منابع النيل جاريًا قبل الحرب، ولكنه أُوقف بسببها ثم أُعيد بعد انتهائها. وهناك مستشفى الحكومة السودانية تشترك الحكومة المصرية في نفقاته. وقد تمكن الري المصري من مسح منطقة واسعة من الأراضي. وقد مُسحت منطقة كاملة بالطائرات.
وتقع مكاتب الري المصري قبلي الخرطوم في منطقة تُدعى «شجرة غوردون» وحقيقتها «شجرة محو بك» أحد حكام السودان، على بعد أربعة كيلو مترات من وسط الخرطوم، ويقال إن السبب في تسميتها أن غوردون كان يأوي إلى تلك الشجرة ويتناول تحت ظلها الواسع الإفطار والشاي. وقد تهدمت الشجرة وبقي جزعها وبقي اسمها.
(٧-١) في محاكم السودان
بعد عودتنا من زيارة شجرة غوردون توجهت لزيارة حضرة القاضي محمد صالح الشنقيطي قاضي المحكمة الجزئية المدنية بالخرطوم، وهو من خريجي قسم القضاء الشرعي في كلية غوردون، وتلقى دروسًا في الإنجليزية، واشتغل مساعد قاضٍ، ثم عُين قاضيًا مدنيًّا وهو على فضل كثير.
وبهذه المناسبة ننشر شيئًا عن القضاء في السودان.
قبل المهدية: كان الحكم مباشرًا؛ أي إن الذي يتولاه هم المأمورون والمديرون ورؤساء الأخطاط بغير انتداب أشخاص معينين أخصائيين يتولون القضاء.
في عهد المهدية: كان يتولى القضاء قضاة شرعيون وموظفون، يشبهون المديرين سلطة قابلين للنقل والعزل. وكانت أحكامهم تستأنف أمام مجلس القضاة في أم درمان، ويؤلف من عشرة قضاة يرأسهم قاضي القضاة. على أن المرجع الأخير كان للمهدي ثم لخليفته عبد الله التعايشي.
وكان هؤلاء القضاة يفصلون في جميع المنازعات ما عدا المسائل التجارية، فهي من اختصاص المجلس التجاري المؤلف من عشرة تجار. وكان «وهبي» وهو مصري، وكان مأمورًا في بربر قبل الثورة المهدية يفصل في الجرائم الصغيرة.
بعد استعادة السودان: كان الحكم مباشرًا؛ أي يتولى القضاء المديرون والمأمورون في المسائل المدنية والتجارية. والقضاة الشرعيون في مسائل الأحوال الشخصية.
وفي سنة ١٩١٩ أُنشئت سلطة المشايخ «العمد»، فأصبحوا يحكمون في بعض القضايا، وتطور هذا النظام فأُنشئت «محاكم أهلية»، ويرأس المحكمة الأهلية ناظر القبيلة أو الخط أو من يعينه الحاكم العام، ويكون معه أعضاء يختلف عددهم بحسب البلاد. ويؤلف هيئة المحكمة الجالسة من ثلاثة أعضاء على الأقل، ويكون للرئيس نائب ينوب عن الرئيس، ويصادق الحاكم على تعيين الأعضاء الذين يرشحهم ويوصي عليهم مدير المديرية. وليس للمحكمة الأهلية مكان خاص لانعقادها، ويكون لديها دفاتر تدون فيها أرقام القضايا وتواريخها والجريمة واسم المشتكي وأسماء الشهود وقراراتها، واختصاصها هو الحكم بالسجن لغاية سنتين وغرامة قدرها عشرون جنيهًا.
المحاكم القروية: وفي المدن محاكم قروية «قضاء عرفي» واختصاصها الحكم بالسجن إلى ثلاثة أشهر وبغرامة قدرها خمسة جنيهات.
ولرئيس المحكمة الأهلية وحده سلطة إجازية بأن يحكم بالسجن إلى ثلاثة شهور وبالغرامة إلى خمسة جنيهات، وقد تقرر إلغاؤها وتعميم المحاكم الأهلية.
المحاكم المدنية: توجد محاكم نظامية مدنية كالمحاكم الأهلية بمصر، وتُرفع إليها الدعوى بعريضة تُلصق بها ورقة تمغة قيمتها ثلاثة قروش، ويُذكر بها ملخص الدعوى والطلبات، وتُقدم العريضة في اليوم التالي بالجلسة الساعة التاسعة صباحًا، وفي هذه الجلسة يصرح القاضي للمدعي بالسير في الدعوى فيحصِّل رسمًا عليها بنسبة ٥ في المائة من قيمتها ابتدائيًّا، واسمها «رسوم شكوى»، و٥ في المائة أخرى واسمها «رسوم سماع». وتحدد جلسة لسماع الدعوى، ويكون تحديدها بعد أسبوع على الأقل من تاريخ دفع الرسوم.
وهناك محكمة جنائية «محكمة بوليس». ولغة المحاكم النظامية هي: الإنجليزية والعربية؛ غير أن الغالب أن تكون الأحكام وإعداد المحاضر بالإنجليزية.
تنفيذ الأحكام النظامية والشرعية: يكون تنفيذها بطريق عريضة من جديد، ويؤخذ عليها رسم ٥ في المائة فيصدر القاضي أمره بالحجز أو إحضار المدين. وفي الغالب يأمر القاضي بالحجز. وينفذ الأوامر «المحضر» وبعد ذلك يُنفَّذ الحجز في سبعة أيام. والبيع يكون بناء على طلب الدائن، وبعد إعلان تاريخ البيع في موعد ١٤ يومًا في حالة بيع منقولات، وشهر في حالة العقارات، ولا يجوز بيع العقارات إلا بأمر من المدير.
وتنفذ المحاكم المدنية النظامية الأحكام الشرعية بالنفقات وتسليم الأولاد.
وتؤلف محكمة الاستئاف من ثلاثة قضاة، وأكثر القضايا الجنائية يفصل فيها رجال الإدارة، وتقدم الاستئنافات في أحكامها للحاكم العام. وفي الجنايات في المحاكم الكبري تُستأنف الأحكام أمام المدير بواسطة السكرتير القضائي، وسلطته تماثل سلطة وزير الحقانية في مصر.
المحاماة: عدد المحامين في الخرطوم خمسة، أحدهم إنجليزي، واثنان يونانيان، واثنان مصريان. ولا يجوز للمحامي الغريب أن يترافع في السودان إلا بعد تصديق من الحاكم العام، وتصدر المحاكم النظامية أحكامها بسرعة والإجراءات سهلة، والعدالة فيها مكفولة أكثر من المحاكم الأهلية والقروية السودانية.
وقد أُنشئت مدرسة للحقوق ولائحة محاماة بالخرطوم في سبتمبر سنة ١٩٣٥، وهناك مجالس تأديبية ومحاكم عسكرية، ويصدر مجلس الحاكم العام القوانين، وترخص القوانين للسكرتير القضائي والمدير إصدار لوائح وأوامر بقيود معينة. وهناك مكتب لتسجيل الأراضي.
(٧-٢) عند آل هاشم
أقام حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد أحمد أبو القاسم هاشم وكيل مشيخة المعهد العلمي بأم درمان وآل هاشم الكرام مأدبة غداء اليوم الساعة الأولى بعد الظهر. وآل هاشم أهل علم ودين منذ قديم الزمان، وعميدهم المغفور له الشيخ أحمد أبو القاسم كان شيخًا لعلماء السودان، كان أول مؤسس للمعهد العلمي الذي عاش ربع قرن؛ أي منذ سنة ١٩١٠. وقد لبى الدعوة حضرات أعضاء البعثة وسماحة السيد عبد الرحمن المهدي وفضيلة قاضي القضاة وفضيلة المفتي والعلماء والتجار: السيد أحمد محمد البرير والسيد إبراهيم عامر، ويونس محمد، ومصطفى أبو العلا. وقد ذبح آل هاشم عشرين خروفًا وقدموها في الموائد لحمًا حنيزًا معه ذيول الخراف، وقد أُلقيت الخطب المناسبة.
(٧-٣) شاي قاضي القضاة
وأقام فضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان وفضيلة المفتي حفلة شاي في الساعة الرابعة والنصف من مساء اليوم، حضرها سماحة السيد عبد الرحمن المهدي والعلماء والتجار.
(٧-٤) استقبال السيد الميرغني
وفي الساعة السابعة من مساء اليوم زار حضرة صاحب السيادة السير السيد علي الميرغني أعضاء البعثة في فندق الجراند أوتيل، فاجتمع به حضرات الأعضاء وتبادلوا مع سيادته شتى الأحاديث، وانصرف سيادته مشيعًا بالإكبار والاحترام. هذا وللسيد الميرغني أتباع كثيرون جدًّا في مصر والسودان والحجاز وأفريقيا، وهو قليل الخروج غير محب للمظاهر، على أنه إذا زار كسلا ودنقلة وغيرهما من بلاد السودان خرج الأهالي للتبرك به، ولثم راحته، وله نفوذ عظيم، ولسيادته مواقف كريمة نحو مصر ونهضتها وأمانيها، وهو قليل الكلام كثير الصمت.
(٧-٥) محاضرة المؤلف
رغب إلى المؤلف بعض الشبان المثقفين في السودان من خريجي كلية غوردون أن يلقي محاضرة في ناديهم.
سادتي:
إن النيل قد جرى في وادٍ وجعل من مصر والسودان بلادًا متكاملة، وجعل من المصري سودانيًّا ومن السوداني مصريًّا، ولكن الاسم لم يتغير والمعنى لم يتحور، بل مصر والسودان كلمتان مترادفتان ولفظان متقابلان. والآن ونحن على أهبة السفر ونوشك أن نقول كلمة الوداع، لن نكون مخلصين لكم ولن تكونوا مخلصين لنا إلا إذا رحلتم إلينا ورحلنا إليكم.
فنستودعكم الله ونحن إخوان متحابون، وأبناء قد تباعدوا أو أبعدتهم الحوادث، ولكن لهم مرجعًا ولهم أبًا؛ فمرجعهم وأبوهم هو النيل، والنيل دائمًا، والسلام عليكم ورحمة الله. ا.ﻫ.
خطاب الأستاذ عبد الرحمن طه
ووقف حضرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه سكرتير النادي وألقى خطابًا تفضل فيه على المؤلف بكلمات صاغها أدبه وكرمه، ووصف المحاضرة بأنها كانت في أجزائها رحلات من موضع إلى آخر، وعد إلقاءها فرصة سعيدة للحاضرين استأهلت «رحيلهم» من دورهم البعيدة والقريبة لسماعها. والأستاذ عبد الرحمن في مقدمة خطباء السودان فصاحة وبلاغة وأدبًا.
خطاب السيد عبد الرحيم سماحة
وارتجل حضرة السيد محمد عبد الرحيم سماحة خطابًا تكرم فيه على المؤلف بشيء كثير من الإكرام، ثم خاطب مواطنينا السودانيين فامتدح فضائلهم وتحدث عن التجارة بين مصر والسودان.
(٧-٦) حفلة راقصة بالنادي اليوناني
وأقام نادي كونتو ميخالوس وزملائه اليونانيين حفلة راقصة توديعًا لأعضاء البعثة لمناسبة سفرهم في اليوم التالي، حضرها العشرات من كبار موظفي السودان الإنجليز وأعيان الجاليات الأجنبية مع عقيلاتهم. وانتهت الحفلة بعد الساعة الأولى من منتصف الليل.
(٨) اليوم الثامن — الجمعة ١٥ فبراير
اليوم انتهت أيام البعثة المصرية في السودان، فنحن نغادر الخرطوم ونترك حضرات أعضاء الجمعية الزراعية الملكية ينجزون بعض الأعمال الزراعية. نغادر الخرطوم والسودان آسفين متأثرين؛ ولقد بكى الدكتور محجوب ثابت وبكى المودعون وتبادلنا العناق. السودان قد ملك من نفوسنا المكان الأول، واحتل في قلوبنا الركن الركين، فلن ننساه، وسنعود إليه كلما سنحت الفرصة.
(٨-١) قبور الضباط المصريين
لمناسبة الجمعة زارت البعثة المصرية قبور الضباط المصريين في أم درمان، ونثرنا الورد والزهور وقرأنا الفاتحة ووزعنا الصدقات وودعنا رفات مصري استشهد أصحابه في سبيل مصر والسودان، فاستأهلوا الذكرى والتخليد.
(٨-٢) في دار السيد المهدي
في الساعة التاسعة والنصف صباحًا زرنا دار حضرة صاحب السماحة السير السيد عبد الرحمن المهدي محيين شاكرين حسن ضيافتة، وقد وُزعت علينا الحلوى والمرطبات، وألقى الخطباء الخطب والقصائد، وأشاد السيد عبد الرحيم سماحة بمكانة السيد المهدي من الزعامة، واقترح على الحاضرين أن يعدوا هذا اليوم يوم عيد وأن يكبروا تكبيرة العيد «الله أكبر الله أكبر»، فتبعه الحاضرون ثم انصرفنا شاكرين بعد مشاهدة بعض الآثار النقدية والسلاح في دار السيد.
(٨-٣) مأدبة الغداء
أقامت البعثة المصرية مأدبة غداء بالفندق تكريمًا وشكرًا للداعين والمضيفين من الأعيان والوجهاء، وكان في مقدمة الحاضرين سماحة السير السيد عبد الرحمن المهدي وحضرات أعضاء مجلس الحاكم العام والغرفة التجارية والعلماء والتجار وكبار الموظفين. … إلخ.
وخطب في المأدبة حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك والأستاذ عبد الرحمن علي طه.
وقد سار بنا القطار الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، ومر بشندي ثم عطبرة وأبو حمد فإلى حلفا، وكان الأهالي على طول الطريق يحيون البعثة أجمل تحية.
(٨-٤) تأليف لجنة مشتركة دائمة
زارت البعثة صباح يوم ١٤ فبراير مصلحة الري المصري وبواخرها النيلية بناحية شجرة غوردون، وعقدت جلسات مع الغرفة التجارية بالخرطوم ومدير المكتب الاقتصادي، ثم تناولت طعام الغذاء بدار آل هاشم بأم درمان، ثم لبت بالخرطوم دعوة أصحاب الفضيلة قاضي القضاة والمفتي ومفتشي المحاكم الشرعية.
وزارها بجراند أوتيل فضيلة السيد علي الميرغني، وهي أول زيارة من نوعها تقديرًا للبعثة وإعجابًا بأعمال سمو الأمير عمر طوسون، فقوبل بكل حفاوة وترحاب.
ولبت البعثة دعوة نادي كونتو ميخالوس ودارك هانكي لحفلة ساهرة.
وفي صباح الجمعة ١٥ فبراير زارت البعثة منزل السيد عبد الرحمن المهدي وسط جمع حافل وحفاوة بالغة تُليت فيها التلغرافات المتبادلة مع صاحب السمو الأمير عمر طوسون، مع التحيات والتقدير، ثم أقامت البعثة مأدبة جامعة بجراند أوتيل حضرها نحو مائة وخمسين مدعوًّا من كبار القوم وكبار الموظفين والتجار، وشكر سعادة رشوان باشا رئيس البعثة سعادة الحاكم العام والموظفين والأعيان والتجار وإخواننا السودانيين للحفاوة التي استقبلت بها البعثة في كل مكان بالسودان، وتلاه فؤاد أباظة بك شارحًا نتيجة زيارة البعثة من إحكام الصداقة بين المصريين والسودانيين، ووضع أسس التعامل التجاري، وتأليف لجنة مشتركة توالي اجتماعها سنويًّا بالتوالي بالقاهرة والخرطوم لتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية والزراعية بين مصر والسودان، ولمنفعتهما المشتركة، كما اتفق على عرض حاصلات السودان وصناعاته بالمعرض الزراعي القادم.
وعاد لمصر الفوج الثاني من البعثة بقطار الساعة الرابعة بعد الظهر وسط جموع غفيرة من المودعين راجين لهم سفرًا سعيدًا، وتخلف عن السفر لجنة الجمعية الزراعية والدكتور إبراهيم شوربجي بك وعطا عفيفي بك والأستاذ مصطفى نصرت.
هذا وقد سافروا من الخرطوم الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة ٢٢ فبراير ووصلوا إلى القاهرة صباح يوم الثلاثاء ٢٦ الجاري.
(٨-٥) زيارة قبور الضباط المصريين والسودانيين
كان أمس الجمعة وكان موعد سفر معظم البعثة، فبكر الأعضاء في الصباح لزيارة مقابر الضباط المصريين والسودانيين بالجيش المصري بأم درمان، ونثرنا الأزهار على قبر المرحوم اليوزباشي عبد الله عرفة رمزًا لذكرى الضباط المصريين، وكذلك على قبر اليوزباشي فرج أفندي إبراهيم رمزًا لذكرى الضباط السودانيين، ووزعنا الصدقات وقرأنا الفاتحة على أرواحهم. وحالة القبور تستدعي العناية بترميمها.
(٨-٦) من الخرطوم إلى أسوان
ركبنا القطار الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة ١٥ فبراير سنة ١٩٣٥، ووصلنا إلى حلفا مساء اليوم التالي، وقابلنا حضرة مندوب الجمارك المصرية الشاب المهذب جرجس ميخائيل حنين أفندي، وسار معي في المدينة، وألفيناها كمراكز مصر، وسكانها مصريون وقد كانت مصرية.
ثم ركبنا باخرة نيلية من حلفا، وشهدنا في اليوم التالي معبد أبي سمبل في الحدود المصرية، ثم مضت الباخرة في سيرها حتى وصلنا إلى الشلال قبيل ظهر يوم الاثنين ١٨ فبراير، ووضع أعضاء البعثة «الفوج الثاني منها» أمتعتهم في القطار، وركبوا السيارات وشهدنا خزان أسوان.
واحتفى الأسوانيون بنا احتفاءً وطنيًّا. وقد نزلت في أسوان ومكثت بها من ظهر يوم الاثنين ١٨ فبراير إلى صباح يوم الخميس ٢١ فبراير، حيث سافرت إلى الأقصر وبقيت فيها حتى يوم الأحد ٢٤ فبراير، حيث شاهدت آثارها.
(٨-٧) خزان أسوان
تكلمنا عن خزان سنار وخزان جبل الأولياء ومشروع خزان تانا ومشروع خزان بحيرة ألبرت في الجزء الثاني من الكتاب. ونتكلم عن خزان أسوان الآن.
ري الحياض: كانت الزراعة في مصر تجري على طريقة ري الحياض، فتُزرع الأرض مرة واحدة في السنة، وقد رؤي شق الترع في عهد محمد علي وتمكين الأرض من الزراعة مرتين وثلاث مرات في السنة، وهو ما يسمى «بالري الصيفي»، وقد نهج الخديوي إسماعيل منهج جده محمد علي في تعميم الري الصيفي، بشق ترعة الاسماعيلية التي تقع على مسافة ١٧٥ كيلو مترًا جنوبي القاهرة.
ثم رؤي إنشاء قناطر في أسوان، فإنشاء الخزان بها للري الصيفي، وأُنشئت قناطر أسيوط لإمكان ري الأراضي العالية.
وتبدأ زيادة الفيضان حوالي آخر يوليو، وتصل زيادتها في سبتمبر، وقد تتأخر إلى أكتوبر ونوفمبر وتنتهي في ديسمبر.
وكان إنشاء خزان أسوان لأول مرة من سنة ١٨٩٨ إلى سنة ١٩٠٢ لإمكان تخزين الماء على منسوب ١٠٦ عن سطح البحر، ثم أُجريت تعليته من سنة ١٩٠٧ وتمت سنة ١٩١٠، حتى يصل إلى منسوب ١١٣٠٠٠. وسطح الخزان على ارتفاع ١٠٦، وبلغ ١٦٠٠٠٠٠٠٠ متر مربع، وسعته حوالي ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب. وقد سمح ذلك بتحويل ٣٠٠٠٠٠ فدان في مصر الوسطى إلى الري الصيفي. وبلغت تكاليفه مع نزع ملكية الأراضي اللازمة له ٣٠٥٠٠٠٠ جنيه مصري. فإذا قدرنا أن ثمن الفدان قبل إنشاء الخزان ٧٠ جنيهًا، وأنه صعد إلى ١٤٠ جنيهًا، كان الخزان قد أتى بمبلغ ٢١ مليون جنيه لمصر.
وجُعلت التعلية على منسوب ١١٣٠٠٠، ومسطح الخزان ٢٧٠٠٠٠٠٠٠ متر مربع، واستيعابه أو سعته ٢٤٠٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب.
ومكنت هذه التعلية من تحويل ١٠٠٠٠٠ فدان في مصر الوسطى إلى ري صيفي، وبلغت نفقات التعلية ١٤٠٠٠٠٠ جنيه.
وقد ظلت الحاجة ماسة إلى تخزين الماء خلف خزان أسوان، فأُجريت التعلية الثانية، من سنة ١٩٢٩ إلى سنة ١٩٣٣ على ارتفاع ١٢٣، ويُخزن الماء على ارتفاع ١٢١ و١٢٢ فقط عن سطح البحر. ومسطح الخزان بعد التعلية الثانية ٨٠٠٠٠٠٠٠٠ متر مربع، وسعته «استيعابه» ٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب. وقام بالتعلية المقاولون سير مورتون جريفيث وشركاه ثم طوفان جونز وريلتون لمتد. أما الإنشاء والتعلية الأولى فتولاهما جون إيرد وشركاؤه.
وأصبح طول قناطر الخزان بعد التعلية الثانية ٢١٢٩ مترًا منها ٥٨٠ مترًا للجزء غير المفتوح، ١٥٤٧ للجزء المفتوح العيون، ويوجد ١٨٠ فتحة لمرور الزائد من ماء النيل، وقد قُدر هذا الزائد في سنة ١٨٧٨ بمقدار ١٤٥٢٠ مترًا مكعبًا، وتختلف الفتحات ارتفاعًا وعرضًا. فعرضها من مترين وارتفاعها بين ٣٫٥٠ و٧ أمتار.
تكاليف التعلية الثانية
وقد بلغت التكاليف من نزع الملكية ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفي وزارة الأشغال إدارة للخزانات، وتبحث الوزارة في الانتفاع من سقوط الماء في توليد القوة الكهربائية للإنارة وإدارة الآلات عند أسوان وما يجاورها جنوبًا.
(٨-٨) من الأقصر إلى القاهرة
سافرت من الأقصر صباح يوم الاثنين ٢٥ فبراير إلى أسيوط، وزرت بلدتنا «بني عديات»، ثم عدت فلحقت بعد منتصف الليل بالقطار الحامل للفوج الثالث من البعثة وكان به سعادة رئيس البعثة رشوان محفوظ باشا، ومحمد بهي الدين بركات بك وزير المعارف العمومية الأسبق، وعبد الحميد فتحي بك، وفؤاد أباظة بك، والدكتور إبراهيم الشوربجي بك، وعبد الحميد أباظة بك، والمهندس مصطفى نصرت، وعطا عفيفي بك، والأستاذ محمود مصطفى علي، ومصور البعثة، ووصلنا إلى محطة العاصمة صباح يوم الثلاثاء ٢٦ فبراير.
(٨-٩) وصول الفوج الأول من البعثة
وصل صباح السبت ١٦ فبراير من أعضاء البعثة حضرات أصحاب العزة والوجاهة الدكتور يوسف نحاس بك وإسماعيل بركات بك والأستاذ أحمد أبو الفضل الجيزاوي وأحمد الحناوي أفندي والحاج أمين حجاج الزيني، ونزل في أسوان الأستاذ فخري الزق، وفي الأقصر صاحب العزة إلياس عوض بك، وقد احتفى بهم في العودة الموظفون السودانيون والمصريون في العطبرة، واستقبلهم تجار أسوان في محطة الشلال ورافقوهم إلى أسوان.
شكر من الأزهريين السودانيين على صفحات الأهرام
إخوانك السنارية بالأزهر يتقدمون إلى حضرتكم بتحيتهم الخالصة وكلهم مغتبط مسرور ليبلغكم تهنئته لكم أنتم وحضرات الأفاضل النجباء أعضاء البعثة الاقتصادية الموفقة بسلامة الوصول بعد أن قمتم بأكبر واجب لدى إخوانكم السودانيين وأجلِّ مقصد عند أبناء القطر الشقيق، ونحن السنارية لم نبرح نرقب حركاتكم منذ بدء رحلتكم الميمونة في ظعنكم وإقامتكم، نرقبها بعين الاهتمام والإعجاب والإكبار والإجلال. واعتقادنا أن أعضاء البعثة إن لاقوا حفاوة من إخوانهم السودانيين في طول البلاد وعرضها بالغة ما بلغت تلك الحفاوة ما هي منهم إلا القيام بالواجب، بل أداء لحق، وتعبير عن عاطفة قوية برهنت الحوادث والتقلبات على أنها مهما وُضعت الحواجز والموانع في سبيلها على طول الزمن وشدة العسف لا تزداد إلا شدة ورسوخًا وثباتًا، توحيها وتلهبها وتنميها العوامل التي لا حد لها؛ عوامل الجوار والدين واللغة، بل عوامل الحركات والسكنات في الجسد الواحد. فلا غرابة ولا عجب أن رأينا المصري في السودان يمشي على أرض ليست بالغريبة عنه وإنما هي قطعة من وادي النيل، ويمتزج مع إخوان هو منهم وهم منه في القديم والحديث، وسيظلون هكذا إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات. كتلة النيل واحدة ووحدة النيل متحدة.
أيها الأخ العزيز: إنا إذا حيينا أعضاء البعثة وشكرناهم فردًا فردًا ثم خصصناك من بينهم فلإعجابنا بك الذي لا حد له في صراحتك وإخلاصك وهمتك العالية، وقيامك بأداء واجبك على أحسن ما ينبغي وأجمل ما يكون من تصوير الحقائق وشرح الواقع بأسلوبكم الرائع وعبارتكم الرصينة. ولا ننسى توجيهكم النظر إلى وزارة المعارف وطلبكم منها العناية بدروس التاريخ والجغرافيا خاصة في بلاد السودان؛ كي يعرف التلميذ الحقيقة ويتلمس الواقع البين من طبيعة الأرض وطبيعة ساكنيها وما هم عليه من حضارة ورقي أخلاق.
فهذه أمنية طالما تمنيناها وفكرة جديرة بالاهتمام طالما نادينا بها، ونرجو أن يكون لكلامكم لدى وزارة المعارف أثره فتعطيه من العناية ما يليق به ويحقق المقصود.