سنار — خزانها — سنجة
(١) غابات الخشب والقردة وصيد السمك والطيور (في يوم الأحد ٣ فبراير سنة ١٩٣٥)
يحتاج كل رحَّالة أو وصَّاف رحلة إلى تدوين المذكرات، وكذلك كان شأني في تدوين أنباء البعثة المصرية في السودان، وكنت في بداية الأمر بين أن أدون رءوس المسائل، على أن أعد بحوثي عند عودتي إلى القاهرة أو أن أبادر بوضعها يومًا بعد يوم وساعة فساعة، فأخذت بالرأي الثاني حتى تتتابع الرحلة عملًا وتتتابع على صفحات «الأهرام» وصفًا؛ لأستطيع أن ألمَّ بالتفاصيل خشية أن أنساها لازدحام الأخبار وتراكم المشاهد، ولأذكرها وأنا في محيط السودان.
وكان في الأخذ بهذا الرأي عناء احتملته في لذة، وإن استأداني إهمال الطعام وتقاضاني السهر الطويل، فأنا أكتب في القطار والسيارة، وفي أثناء تناول الطعام، وبين غفوات القيلولة — في حرٍ وصلت درجته أحيانًا إلى الخمسين بميزان سنتيجراد!
وإنني كلما فاضلت بين الكاتب يحتمل الجهد والعناء ويحرم النوم والغذاء وبين الصحفي السياسي يجهد أن يحصل على خبر من وزير مصري، فضَّلت الكاتب في حرمانه على الصحفي في استمتاعه براحة، وكم ثارت نفسي على بعض الوزراء والكبراء الذين لا يقدرون مهمة الصحافة أو يفهمونها على أنها آداة تسخَّر للدعاية لهم، ولا يجوز لها أن تطالبهم بالثمن، والثمن هو الخبر الصحفي المعقول، أو لا يجوز أن تعارضهم في رأي.
(٢) في سنار
استيقظنا مبكرين صباح اليوم — الأحد ٣ فبراير — وتناول الأعضاء طعام الصباح ثم توجه فريق منهم عند الساعة التاسعة صباحًا إلى محلج القطن التابع للحكومة والمجاور لمحطة سنار، ويديره — مقاولة — الصياد الإنجليزي المشهور مستر جاكسون، الذي صاد أكبر سمكة عرفها متحف لندن؛ فقد صاد حضرته من النيل الأزرق عند سنار سمكة وزنها ١٢٦ رطلًا إنجليزيًّا من صنف يدعى في مصر «البياض» وفي السودان «العجل».
ويقوم المحلج بحلج القطن الأميركي المزروع في بلاد النوبة في السودان.
وعند الساعة التاسعة والنصف صباحًا زار الأعضاء مكتب مستر إلين المهندس المقيم لخزان سنار — الذي عرف قبلًا باسم خزان مكوار — وأطلعهم جنابه على رسم برنزي للخزان: أبوابه ومناوره وترعته الرئيسية التي تروي أرض الجزيرة. ثم توجه معهم إلى معاينة الخزان نفسه، بادئًا بالترعة الرئيسية التي تأخذ ماءها من النيل الأزرق، الذي ينبع في بلاد الحبشة.
يشبه خزان سنار خزان أسوان والقناطر الخيرية في حجزه الماء خلفه، وفي إحاطته بحديقة واسعة للنزهة، وفي حبس الماء للانتفاع به في ري أراضٍ زراعية، وفي أن سقف الخزان طريق عام لمرور العربات والجمهور. وعرض النيل الأزرق عند خزان سنار ٣٠٠ متر، على أنه يفيض على جانبيه ويغمر جزءًا من الأراضي المجاورة، فيزداد عرضه عند الخزان أحيانًا، وأحجاره من الجرانيت قد اقتطعت من جبل «سجري» على بعد ٢٥ كيلومترًا من سنار. وللخزان أبواب فوقها مناور، تفتح الأبواب لمرور الماء في مجرى النيل الأزرق إلى نهر النيل حاملة الطمي، وإذا كان الماء كثيرًا فتحت المناور أيضًا. وعدد الأبواب ٨٠، وعرض كل باب متران، وارتفاعه ٨ أمتار ونصف.
ويُملأ الخزان من نوفمبر إلى يناير من كل سنة، ثم يُفرغ حيث تكون الجزيرة قد أخذت نصيبها من الماء.
وفي مجرى النيل الأزرق — قريبًا من الخزان — مرتفعات ومنخفضات، وكانت هناك جزيرة في المجرى أخذت تتلاشى، وبجانب جرفها منخفض عمقه ٤٥ مترًا يظهر أنه تآكل بقوة ارتفاع الماء على سطح الجزيرة الآخذة في التلاشي.
وتصيب الملاريا في السنة من الموظفين بنسبة ٤ إلى ١٣٠. وقد تم بناء الخزان في عهد مستر أرشر الحاكم العام، وهناك لوحة في أعلى الخزان كُتب فيها أسماء الحكام العامين الذين تعاقبوا على السودان من كتشنر وونجت إلى ستاك وأرشر، وسنوات مشروع الخزان وأدوار بنائه منذ سنة ١٨٩٩ و١٩١٧ و١٩٢٤ إلى ١٩٢٦ حيث تم الخزان، وكان إنشاؤه موضوع خلاف بين مصر وإنجلترا، وطلب المهندسون المصريون وقفه محافظةً على ماء النيل الأزرق الوارد إلى مصر، وأوقف إنشاؤه فترات في سنة ١٩١٤ بسبب الحرب، وقررت وزارة عدلي باشا سنة ١٩٢١ وقف العمل فيه مع وقف العمل في خزان جبل الأولياء. وزار شفيق باشا وزير الأشغال فيها السودان لهذا الغرض، ولكن سير لي ستاك لم يقبل، وتم العمل فيه مدة خلفه، وفُتح في ٢١ يناير سنة ١٩٢٦.
وذكر أسماء المقاولين والمهندسين، وأولهم السندريني مقاوله، ومردوخ ماكدونالد، وسير أرثروب «مستشار المشروع»، وغيرهم.
(٢-١) خزان سنار وافتتاحه
احتُفل بافتتاح خزان سنار احتفالًا رسميًّا بحضور اللورد لويد المندوب السامي وبعض وزراء الأشغال المصريين وكبار الموظفين والحاكم العام والصحفيين، وناب صاحب العزة الدكتور محمد حسين هيكل بك مدير السياسة عن الصحافة المصرية، وتحدد يوم الأربعاء ٢٠ يناير سنة ١٩٢٦ الساعة الثامنة والدقيقة أربعين مساءً، لقيام المدعوين بالقطار المخصوص من الخرطوم إلى مكوار لافتتاح خزان سنار رسميًّا يوم الخميس ٢١ يناير سنة ١٩٢٦ عند منتصف الساعة التاسعة صباحًا. وقد وصلوا إلى «مكوار»، وإلى خزان سنار الساعة الحادية عشرة صباحًا، وكانت حفلة الافتتاح الساعة الرابعة بعد الظهر، مع مشاهدة وابورات الحليج ببركات.
وتحدد يوم الجمعة ٢٢ يناير سنة ١٩٢٦ الساعة السابعة صباحًا لعودة المدعوين إلى الخرطوم.
يا فخامة اللورد، إني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن ضباط وموظفي حكومة السودان وهذا الجمع المحتشد، وفي الواقع بالنيابة عن سكان هذه البلاد، نرحب بفخامتكم ترحيبًا قلبيًّا. كلنا نعلم حق العلم مابذلتم فخامتكم أثناء تقلدكم منصب حاكم بومباي من العناية الفائقة والهمة العظيمة في أمور الري وغيرها من المشروعات الآيلة لإسعاد الشعب وترقيته المادية. ولم يمضِ بعدُ سنتان على وضعكم الحجر الأساسي لهذا العمل العظيم على نهر السند الذي أُطلق عليه اسم فخامتكم، فدُعي قناطر لويد. إننا نقدر عظم ملاءمة هذه الفرصة بمناسبة زيارتكم الأولى للسودان كمندوب سامٍ للاحتفال بإقامة خزان سنار، ذلك العمل العظيم الشأن لخير هذه البلاد.
هذا وإننا يا فخامة اللورد لنتفاءل خيرًا بحسن المستقبل لوجودكم بيننا في هذا اليوم، ولا ريب عندي أن السودان في أيامكم وبفضل عنايتكم يبلغ شأوًا بعيدًا في سبيل التقدم والفلاح. وكذلك أودُّ يا فخامة اللورد أن أعرب لكم اليوم عن أمل عظيم، هو أنكم كممثل جلالة الملك في مصر تتمكنون بالاتفاق التام مع مصر من ترويج وتوسيع نطاق الأعمال التي من شأنها حفظ وصيانة مياه النيل لدرجة يُستطاع معها — بدون أن تتعارض مصالح القطرين — زيادة الثمرات، ليس في مصر فقط، بل في السودان أيضًا.
وإن العمل العظيم الذي نشاهده كاملًا أمامنا في هذه اللحظة ما بلغ هذه النهاية إلا بفضل جهاد أناس كثيرين؛ فقد ظل مشروع ري سهول الجزيرة موضوع بحث المستشارين البريطانيين الذين تعاقبوا في وزارة الأشغال المصرية من عهد السير ويليم جارستين، فالأبحاث الأولية التي بدأها المستر ديبوي أكملها السير مردوخ ماكدونلد بمعاونة المرحوم اللورد كتشنر والسير ريجنالد ونجت والمرحوم السير لي ستاك. وإني لا أشك في أن جميع الحاضرين يأسفون أشد الأسف لعدم تمكن السير مردوخ ماكدونلد والسير ريجنالد ونجت من الحضور معنا في هذا الاحتفال. وقد وصلني اليوم الرسالة الآتية من السير ريجنالد ونجت: «عسى أن يكون افتتاح الخزان ومشروع الجزيرة فاتحة عصر فلاح جديد للسودان وشعبه.» ولا بد لي في هذا المقام من القول بأننا نحن الذين تربطنا بالسودان روابط خاصة نُقدِّر أعظم تقدير اهتمام السير ريجنالد ونجت لخير شعوب هذه البلاد الذين حكمهم مدة سبع عشرة سنة بالحلم واللطف. وقد تكرمت وزارة الأشغال المصرية فوضعت بعناية السخاء تحت تصرف حكومة السودان كل ما كان لديها من الموارد للقيام وإنفاذ هذا المشروع العظيم.
وإني لأنتهز فرصة وجود صاحبي المعالي السيد إسماعيل باشا سري، وعبد الحميد باشا سليمان هنا اليوم لأعبر لهما بالنيابة عن السودان عما نحن مدينون به لجميع الوزراء الذين تعاقبوا في وزارة الأشغال العمومية، وللمهندسين القديرين الذين جاءوا من مصر وكان لمجهوداتهم فضل في المعاونة على إتمام هذا المشروع، وسوف لا أجهد فخامتكم في مثل هذا الظرف السعيد بسرد الصعوبات التي صادفت العمل في بدئه، وما زادت الحرب ونتائجها في تلك الصعوبات، وكذلك لا أطمع في أن أضمن هذا الخطاب القصير ما يجب من الاعتراف لفضل كل أولئك الذين عملوا لإتمام هذا المشروع الذي نحتفل اليوم به. هذا وإني أتقدم بالشكر للسير إدجار نارد والسير إدجار لونهام كارتر والسير جيمس كري لما قاموا به وهم في حكومة السودان من ابتكار هذا المشروع وتنفيذه.
ولي الشرف أن أدعو فخامتكم إلى تكريس هذا العمل الهندسي العظيم لخير السودان وشعوبه.
يا صاحب المعالي، ويا حضرات ضباط وموظفي حكومة السودان وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان، حقًّا إني لكبير الحظ أن تكون أول زيارة لي لهذه البلاد كمفوض سامٍ كانت لأجل الاحتفال بإنجاز هذا العمل العظيم الذي تم لي الشرف بافتتاحه هذا اليوم، وقد قابلت أكثركم لأول مرة في الاستقبال الذي أُقيم في الخرطوم احتفالًا بيوم الملك، وأثَّر بي ما رأيته من روح المودة الخالصة التي تسود ذلك الاجتماع الممثل لمصالح متعددة وهامة، وإني أرحب بهذا الاحتفال الذي تقيمه الآن، حيث قد ختمت تلك المودة بفضل عظيم، الغرض منه جلب المنافع الدائمة لكم يا أهالي السودان للبلدان الأخرى التي تستورد المواد لصناعتها من محصولات أراضيكم، وإن السواد الأعظم منكم اليوم ليستطيع أكثر مني تلك الحكمة والبصيرة والجراءة التي جعلت خزان سنار في حيز الاستطاعة. إن السودان اليوم يجني ثمار عبقرية اللورد كرومر المقرونة بطول الأناة؛ فقد كانت سياسته كما تذكرون ترمي إلى ترقية البلاد ترقية ثابتة دون أن تتجاوز حدود طاقتها، وقد اقتفى السير ريجنالد ونجت والمرحوم السير لي ستاك هذه الخطة وواصلا العمل بإخلاص ونجاح باهرين؛ الأول لمدة سبع عشرة سنة، والثاني لمدة السبع عشرة سنة الأخيرة من حياته. ويجب أن لا ننسى اليوم ما نحن مدينون به لهؤلاء الثلاثة. وعليَّ أيضًا أن أؤيد السير جيوفري أرشر فيما فاه به من ثنائه على البراعة والمثابرة والهمة التي أبداها أولئك المهندسون الشهيرون الذين منذ أن وضع السير ويليم جارستن المشروع الأصلي سعوا الواحد تلو الآخر لأجل تحقيقه. وللسودان في شخص السير جيوفري آرشر الحاكم العام الذي أثق كل الثقة أنه سيحافظ على تقاليد الماضي. وقد جاء للسودان في وقت مناسب وفي دور حيوي في تاريخ البلاد؛ فإن خزان سنار — كما تعلمون — ليس سوى جزء من مشروع عام لأجل ترقية وتحسين موارد النيل، وقد أثبتت المباحث الدقيقة التي أجراها الخبراء في الماضي أن مياه النيل إذا أُحسن صيانتها وتوزيعها بالعدل والإنصاف يجب أن تكفي وتزيد عن احتياجات مصر والسودان الحالية والمنتظرة في المستقبل.
ومن دواعي سرورنا الخاص أن يكون حضرة صاحب المعالي السير إسماعيل باشا سري، أحد أبناء مصر والمعروف بالنبوغ والشهرة حاضرًا معنا اليوم؛ وذلك نظرًا لاشتراكه شخصيًّا في إعداد هذا المشروع، وكذلك نتفاءل خيرًا بوجود صاحب المعالي عبد الحميد باشا سليمان، فإني واثق أن مقدرته وسعة نظره يبعثان على إزالة ما بقي عالقًا من سوء الإدراك للمسائل العلمية الحاسمة بالمشروع.
أما والوقائع الجوهرية هي كما تعلمون، فإذا ساد المفاوضات روح الحكمة السياسية فلا يجب أن تقوم صعوبة في سبيل الوصول إلى تسوية تضمن ضمانًا وافيًا حاجة مصر، وفي نفس الوقت تمكِّن السودان من السير في طريق العمران بقدم ثابتة حسبما تسمح له موارده. وللسودان في أحوال كهذه أن ينظر إلى المستقبل بعين الثقة والطمأنينة، وعسى أن يبقى العمل الذي افتتحه اليوم شاهدًا دائمًا على الفوائد الناجمة عن قيام الحكومة بعمل كهذا بغاية الحكمة والتبصر، ويجب أن يكون من نتائج هذا المشروع ليس فقط ازدياد رفاهية المزارعين الوطنيين، بل يجب في نفس الوقت أن يعود بفائدة عاجلة مقابلة لرأس المال الكبير الذي أُنفق على إنشائه.
وختامًا أقول إنه بالرغم من أن زراعة القطن هي الغرض الأول من مشروع الجزيرة، فهناك شرط على جانب عظيم من الحكمة يضمن وفرة المواد الغذائية محليًّا وعدم تعرضها للنقص، وأود في الختام أن أشير إلى موضوع آخر عام وعلى جانب من الأهمية، وهو أن الروابط التي تربط الحكومة وأهالي السودان لهي روابط صداقة شخصية. ومن المبادئ الأولية في مشروع الجزيرة كما في غيره من المشاريع التي يمكن أن تُقام في هذه البلاد أن تلك الروابط المرغوبة يجب أن يُحتفظ بها بغاية الاعتناء. والحكومة تعتقد أن من الأمور الجوهرية ترقية الشعب على موجب طبيعته، وأن التحسين المتعاظم في الأمور المادية لا يجب أن ينتج ضياعًا أو انحطاطًا في الأفكار والتقاليد التي هي أساس أخلاق الشعوب. ولي ملء الثقة أن يقوم قادة الأفكار في السودان؛ سواء كانوا رؤساء دينيين أو زعماء قبائل أو ذوي معارف ممتازة، بالواجب عليهم للمحافظة على الحالة السعيدة الحاضرة. ويسرني أن أخاطبكم بلهجة المتفائل بحسن المستقبل أن الرجم بالغيب محفوف دائمًا بالمخاطر، وإنما يمكنكم أن تتأكدوا من شيء واحد، هو أني سأبذل أقصى الجهد وروح التساهل الودي لإزالة كل العوائق التي قد تقف في طريق المشروعات العظيمة لارتقاء وعمران السودان في المستقبل. وإن ما اختبرته في هذه المدة الوجيزة أثناء زيارتي الأولى للسودان يبعث في نفسي الاعتقاد بأن في استطاعتي الاعتماد على ولاء ومساعدة كل شخص في السودان سعيًا وراء تلك الغاية العظمى التي لا بد أن تثير اهتمام وعطف العالم المتمدن بأسره.
يا فخامة المندوب السامي، ويا صاحب المعالي الحاكم العام، ويا سيداتي ويا سادتي:
كان من بواعث سروري العظيم أن أُدعى لحضور هذا الاحتفال الزاهر بافتتاح خزان سنار المعد لإحياء موات جزء عظيم من الأراضي السودانية بالري الصناعي الذي ما دخل أرضًا إلا زاد إنتاجها كما هو معلوم. ومن بواعث الفخر لمصر أن تكون هي واضعة مشروع ري الجزيرة بواسطة كبار مهندسيها، وفي مقدمتهم المرحومان السير ويليم جارستن والسير آرثروب، ومن تبعهما كالمستر ديبوي والمستر توتنهام والسير مردوخ ماكدونلد الذي تم على يديه تحضير المشروع نهائيًّا وإعداده للتنفيذ. ولا حاجة لأن أذكر أن كل هؤلاء من أعاظم المهندسين التابعين لوزارة الأشغال العمومية المصرية على العمل في مدة تنفيذه.
ويمكنني أن أزيد مع الفخر اشتراك شخصي الضعيف في تحضير المشروع، وإني أذكر هنا مع مزيد السرور لأهالي السودان الحاضرين معنا عطف الأمة المصرية عليهم بهذه المناسبة السعيدة، وأخبرهم بأنها يسرها أن ترى السودان في بحبوحة من الرغد والسعة، وأن يزداد أهله رفاهيةً وتقدمًا في العمران. ولا ريب عندي أن ما يجري من الماء في النيل السعيد يكفي، بل يزيد عن احتياجات مصر والسودان لريهما معًا إذا أحكم تدبيره بالأعمال الصناعية التي أولها هذا الخزان. وإني أسأل المولى القدير المتعال أن يوفقنا جميعًا للوصول لأداء واجباتنا.
وفيما كان الماء يندفع من إحدى بوابات القناطر في ترعة الجزيرة وقف مطران السودان المحترم جوين، ووقف إلى جانبه مفتي السودان الشيخ إسماعيل الأزهري فوق العين التي يتدفق منها الماء، وتليا عبارات التبريك لهذا الماء الخصب المنساب إلى أراضٍ لم تكن تعرف الخصب ولا الزراعة من قبل. ووقف الحضور جميعًا في أثناء تلاوة صلاة التدشين التي فاه بها الأب المحترم جوين والخطبة المباركة التي ألقاها المفتي الأزهري وصلاة المطران جوين الثانية.
- أولًا: الفتحات السفلى، وعددها ٨٠، وعرض كل واحدة ٢ متر، وارتفاع ٨٫٤٠، ومنسوب العتب ٤٤٫٢، ويعمل عليها الموازنة ببوابات حديد تفتح بواسطة ونش بخاري.
- ثانيًا: الفتحات العليا، وتسمى فتحات التخفيف، وهي ٧٢ فوق الفتحات السفلى. عرض كل واحدة ٣ متر، وارتفاعها ٢ متر. وهذه الفتحات يُعمل عليها الموازنة بواسطة أخشاب غما أفقي، وترفع بهلب باليد.
- ثالثًا: يوجد بالجبهة الشرقية من الفتحات المبينة عاليه ٢٠ فتحة عليا
ومثلها في الجهة الغربية. وعرض كل فتحة ٥ متر، وارتفاعها ٢ متر.
وعتب عموم الفتحات العليا على منسوب ٤١٧٫٢، وتفتح وتقفل بواسطة
أخشاب غما أفقي.
سعة الخزان وملوه وتفريغه:
- أولًا: أعلى منسوب تصل إليه المياه أمام الخزان هو ٤٢٠٫٧، ويخزن على هذا المنسوب ٦٣٦ مليون متر مكعب.
- ثانيًا: في أول يوليو من كل سنة يكون منسوب أمام الخزان على ٤١٤٫٥، ويرتفع تدريجيًّا في مدة خمسة عشر يومًا إلى ٤١٧٫٢٠ لإعطاء مياه لري القطن بالجزيرة، وتُحفظ المياه على هذا المنسوب إلى أول نوفمبر.
- ثالثًا: من أول نوفمبر إلى ديسمبر يرتفع منسوب المياه تدريجيًّا إلى ٤٢٠٫٧، ويبقى على هذا المنسوب إلى ١٨ يناير.
- رابعًا: من ١٨ يناير تأخذ الجزيرة كافة احتياجها من الماء المخزون أمامها والتصرف الذي يكون في النيل الأزرق في الروصيرص؛ أي تصرف النهر الطبيعي يمر خلف الخزان كما هو لاحتياجات القطر المصري لغاية أول يوليو حيث يتكرر الترتيب المبين عاليه.
ملحوظة:
قد اتبع نظام خاص في الحجز على الخزان هذا العام لعدم أخذ مياه كثيرة في يوليو يمكن أن يحصل منها ضرر للقطر المصري، وفي أول ديسمبر من هذا العام تم حفظ أمام الخزان على الدرجة المطلوبة وهي ٤٢٠٫٧.
ترعة الجزيرة:
- أولًا: فم الترعة عبارة عن ١٤ فتحة، عرض الواحدة ٣ متر وارتفاع ٥ متر، والعتب على منسوب ٤١١٫١٠. من هذه الفتحات سبعة مقفولة بالخرسانة المسلحة، وتُعمل الموازنة بواسطة بوابات حديد ترفع بونش يدار بواسطة رجلين.
- ثانيًا: الترعة عرض قاعها ٢٦ مترًا، وارتفاع المياه بها ٣٫٤٥ متر، وانحدار ٧ سنتي في الكيلو، وذلك كافٍ لري المساحة الحالية وهي ٣٠٠٠٠٠ فدان ومسطاح الترعة يسمح بتوسيعها عند زيادة الزمام.
- ثالثًا: أول قناطر حجز على الترعة عند كيلو ٥٧ ويتفرع أمامها خمس ترع ومصرف على النيل لتخفيف المياه بالترعة، وعندها يبدأ الري بالجزيرة، وكل الري بالراحة.
- رابعًا: ثاني قناطر للحجز عند كيلو ٧٧ وأمامها ثلاث ترع ومصرف على النيل للتخفيف ثم قناطر حجز أخرى عند كيلو ٩٩ ثم عند كيلو ١٤٤.
وبلغت الأرض المقرر زراعتها بالجزيرة سنة ١٩٢٦ تم ري ثمانين ألف فدان قطن و٤٩٠٠٠ فدان ذرة وعشرة آلاف لوبيا، والزراعة حالتها حسنة.
والمقرر هو أن يزرع مائة ألف قطن ومثلها ذرة وبقول، ويترك ألف فدان بور.
السبع فتحات المقفولة بفم الترعة والمسطاح المتروك بالترعة يسمحان بزيادة الزمام إلى مليون فدان.
وقد طرأ على بعض ما في هذه المذكرة تعديلات فيما يتعلق بالتواريخ التي تبدأ فيها حاجة مصر لتصرف النهر الطبيعي، نعرض إليها حين الكلام عن مشروعات ضبط النيل كافة. كما أن سعة الخزان بعد ملئه للمرة الأولي تبين أنها ٨٠٠ مليون متر مكعب. والمناسيب المذكورة فيها مذكورة بالمقارنة إلى ارتفاع مياه البحر الأبيض المتوسط، أما ما ورد على مسطاح الترعة وكونه يسمح بتوسيعها عند زيادة الزمام، فذلك لأن الخزان يتسع لخزن مياه تكفي زراعة نصف مليون فدان؛ أي ضعف المساحة الحالية إلا قليلًا. والسبع فتحات المقفلة بالخرسانة من فتحات ترعة الجزيرة تكفي لإمداد هذا المقدار بالمياه اللازمة له.
ويحسن أن ننبه القارئ كي يسهل عليه إدراك حكمة تواريخ الملء والتفريغ الواردة في هذه المذكرة إلى أن زراعة القطن بالسودان تبدأ في أواخر شهر يوليو أوائل أغسطس. فرفع مستوى الماء في الخزان من ٤١٤٫٥، وهو الرقم الموازي لمنسوب الفيضان الطبيعي للنهر إلى ٤١٧٫٢٠ في النصف الثاني من شهر يوليو، إنما يقصد به إلى تغذية أرض الجزيرة بمياه الراحة اللازمة لري الأرض وزرعها قطنًا. ويبقى هذا المنسوب ثابتًا إلى شهر نوفمبر حين تخلو مياه النهر من الطمي ويمكن التخزين. وفي شهر نوفمبر يرفع منسوب التخزين في سنار إلى مستوى ٤٢٠٫٧ ويبقى أن تبدأ حاجات مصر للماء لزراعة القطن وتغذية النهر. وإذا كانت أولوية مصر أمرًا مقررًا مقدمًا به من الجميع فقد وجب البدء في تفريغ الخزان بحيث تأخذ أراضي الجزيرة كل حاجاتها منه ويبقى تصرف النهر الطبيعي وقفًا على مصر. والواقع أن حاجة أراضي الجزيرة للماء تقل بعد شهر يناير الذي تبدأ فيه الجنية الأولى من جنيات القطن، ينتهي في شهر مارس، فلا تبقى ثَمَّ حاجة لغير مياه الشرب. وهذا يكفيها ما مقداره تصرف عشرة أمتار في الثانية، فإذا كان شهر يوليو ابتدأت الحاجة إلى المياه في الجزيرة لزراعة القطن وابتدأ الفيضان يجعل رفع الماء في الخزان غير ضارٍ بحاجات مصر، بدئ في عملية رفع المياه في الخزان من جديد.
كيف نُفذ مشروع خزان سنار
يعد السير ويليم جارستين مستشار وزارة الأشغال المصرية أول من أشار بري سهل الجزيرة ريًّا صناعيًّا في سنة ١٨٩٩، وذكر ذلك في تقرير قدمه في سنة ١٩٠٤ إلى اللورد كرومر قنصل بريطانيا الجنرال في مصر. وقد عُرفت زراعة القطن في السودان، فقد روى المسيو بونسيه الذي زار سنار مع المبشر زافريوس دي برفان سنة ١٦٩٩ أنه وجد بها مائة ألف من السكان رائجة تجارتهم في تصدير القطن إلى حد أن اتفق السلطان الأزرق — وذلك هو اللقب الذي يُطلق على أمير هذه المنطقة الواقعة على النيل الأزرق — مع ملك الحبشة على إبقاء ضابط بالنيابة عنه في شلجا عند حدود الحبشة لتحصيل العوائد على القطن الصادر واقتسامها شطرين، يأخذ كل أمير منهما شطرًا. كذلك روى بركار الذي زار شندي في سنة ١٨١٤ أن أهم صادرات سنار كان الدمور المصنوع من القطن، كما روى أن مصانع القطن في سنار وبجرمي هي التي كانت تمون القسم الأكبر من أفريقيا الشمالية بالملابس. على أن هذه الصناعة انحطت في السودان وتدهورت لقيام الصناعة الكبرى في أوروبا ومزاحمتها الصناعة اليدوية في الأسواق.
فعاد السودان إلى زراعة الحبوب وأصبح سهل الجزيرة مخزن حبوب السودان كافة. وقد أدخلت زراعة القطن عند فتح محمد علي السودان، ثم بعد ثورة المهدي كانت زراعة القطن وصناعته قد تدهورت.
وفي أثناء ذلك بدأت الحكومة تجربة زراعة القطن، فأقامت في سنة ١٩١١ محطة طلمبات عند بلدة الطيبة على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق، وحفرت الترع التي تأخذ مياهها من محطة الطلمبات هذه لتغذي ثلاثة آلاف فدان زيدت بعد ذلك إلى خمسة آلاف. وعهدت حكومة السودان في القيام بهذه التجارب إلى نقابة زراعة القطن بزيداب في شمال الخرطوم، وبدا نجاح تجربة الطيبة نجاحًا باهرًا في سنة ١٩١٣، فدعا هذا النجاح إلى ضرورة التفكير في أصلح طرق الاستغلال. وكان لورد كتشنر يومئذ قنصل بريطانيا الجنرال في مصر، فتوسط في الأمر وأتم الاتفاق على أن تكون حكومة السودان مسئولة عن الترع الكبرى في كل ناحية يُزرع القطن فيها، وأن تكون نقابة زراعة السودان مسئولة عن الترع اللازمة لهم، وأن يقوم الزراع بالعمل في الأراضي، وأن يوزع محصول القطن الناتج من الزراعة بنسبة خمس وثلاثين في المائة منه للحكومة، وخمس وعشرين في المائة للشركة، والأربعون في المئة الباقية تكون للمزارع، كما تكون له سائر الحاصلات التي تنتجها الأرض.
في هذه السنة عينها سنة ١٩١٣، وعلى أثر زيارة لورد كتشنر للسودان مع الفنيين في الري من رجال الحكومة المصرية، وبعد أن رفضت الحكومة المصرية ضمان القرض الذي أُريد إصداره بمبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات لإقامة خزان سنار، ونجاح مشروع ري الجزيرة. في هذه السنة أقر البرلمان البريطاني الحكومة الإنكليزية على ضمان القرض، وعلى ذلك بُدئت الأعمال التمهيدية لبناء الخزان في سنة ١٩١٤، لكنها وقفت عندما شبَّت نيران الحرب الكبرى.
وقد رفضت الحكومة المصرية إذ ذاك ضمان هذا القرض؛ لأنها رأت الأمل ضعيفًا في استرداد ما دفعته للسودان سدادًا لعجز ميزانيته، ولأن السياسة الإنجليزية كان ظاهرًا ميلها إلى استئثار إنكلترا بالسودان بعد أن تكون مصر قدمت له من الأموال ما مكنه من الاستقلال ماليًّا عنها. وربما كان للحكومة وللجمعية التشريعية عند ذلك من العذر أن الأموال التي دفعتها مصر للسودان في السنوات المتعاقبة كانت ملايين كثيرة. وضمان مصر لقرض الجزيرة قد ينتهي بأن تدفعه مصر فتضاف هذه الملايين إلى تلك لتعود فائدتها آخر الأمر على إنكلترا وحدها.
تنحت مصر إذن عند الاشتراك في استغلال سهل الجزيرة فأقدمت إنكلترا بتشجيع لورد كتشنر على الانفراد بهذا الاستغلال، وأقرَّ البرلمان البريطاني ضمان الحكومة الإنكليزية قرض الجزيرة، فبُدئ بالأعمال التمهيدية لإنشاء خزان سنار، ثم استعرت نار الحرب فوقفت هذه الأعمال. لكن وقفها لم يمنع من الاستمرار في قيام نقابة زراعة السودان بإجراء تجارب جديدة؛ خصوصًا بعدما تقرر أن تكون مساحة الأراضي التي يرويها خزان سنار ثلاثمائة ألف فدان يزرع ثلثها قطنًا في كل عام، فأنشأت النقابة المذكورة في أوائل سنة ١٩١٤ محطة طلمبات جديدة في بركات لري ستة آلاف فدان، ثم أنشأت بعد ذلك محطة أخرى لري ١٩٥٠٠ فدان في ناحية الحوش بدأت استغلالها سنة ١٩٢١، ومحطة رابعة في وادي النور لري ثلاثين ألف فدان بدأت استغلالها سنة ١٩٢٢، وكان هذا الاستغلال على قاعدة زراعة الثلث قطنًا والثلث ذرة ولوبيا، والثلث الباقي بغير زرع؛ أى على قاعدة الدورة الثانية.
ولم يكن غاية حكومة السودان ولا نقابة زراعة السودان من إنشاء محطات الطلمبات هذه مجرد القيام بتجارب لزراعة القطن، فقد كانت تجربة الطيبة كافية منذ سنة ١٩١٣، لكن زراعة القطن كانت قد اندثرت من السودان قبل ثورة المهدي بزمن غير قليل، والمصريون المدربون على زراعة القطن رفضوا الاشتراك في الاستغلال. وقد عطلت الحرب استمرار القيام بأعمال إنشاء الخزان فرأت الحكومة ورأت النقابة الاستفادة من هذا الظرف لتدريب أكبر عدد ممكن من المفتشين الإنكليز ومن أهالي السودان ومن الوافدين عليه من النيجر والسودان الفرنسي، والحث على القيام بهذه الزراعة ومراقبتها، حتى إذا تم بناء الخزان وإنشاء الترع والقنوات في الثلاثمائة فدان أمكن زرع ثلثها أو ما يقرب من الثلث قطنًا دفعة واحدة، والزراع الوطنيين والمستأجرين الذين مرنوا على زراعته. وأمكنت زراعة ثمانين ألف فدان قطنًا على أثر تمام بناء الخزان مباشرة في شتاء سنة ١٩٢٥–١٩٢٦.
أما هذه الثلاثمائة ألف فدان التي تقرر منذ البداية أن يتكون منها مشروع ري الجزيرة فتمتد على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق مبتدأة عند قرية الحاج عبد الله على بعد سبعة وخمسين كيلو مترًا إلى شمال مكوار حيث يقوم الخزان، «وقد نسي الناس في السودان اسم قرية الحاج عبد الله وأصبحت هذه النقطة معروفة عند المهندسين باسم الكيلو سبعة وخمسين.» ثم تستمر في امتدادها شمالًا على محاذاة النهر وسكة الحديد مدى خمسة وثمانين كيلو مترًا. ويختلف عرضها من الشرق إلى الغرب بين أربعة عشر وخمسة وعشرين كيلو مترًا، ويسير — وأمامك هذه الأبعاد — أن تتصور هذه النقطة من السهل المطمئن لا تقوم عليه ربوة من الربى ولا عقبة من العقبات محاذية النيل الأزرق المخصب، وأن نتصور إلى جانب ذلك أنها ليست إلا جزءًا من عشرة أجزاء من تلك الأراضي التي يمكن ريها بالمشروعات والتي تبلغ ثلاثة ملايين فدان من خمسة ملايين هي مجموع مساحة سهل الجزيرة. وأن نتصور أخيرًا أن هذه الثلاثمائة ألف فدان تقررت سنة ١٩١٣، وها هي حكومة السودان ونقابة زراعة السودان تراها الآن غير كافية بالحاجة الزراعية مع أنه لم يبدأ بزرعها إلا عام ١٩٢٥ و١٩٢٦؛ أي منذ عام فقط.
لم تكن الثلاثمائة ألف فدان كغيرها من أراضي سهل الجزيرة ملكًا لحكومة السودان، وهي ليست إلى الآن ملكًا لها، بل هي في ملك أهالي السودان الذين كانوا يزرعونها على المطر حبوبًا. وقد رأت الحكومة أن نظام مشروع الجزيرة لا ينتج ثمراته إذا بقيت هذه الأراضي تحت يد ملاكها، ورأت من ناحية أخرى أنه لا بد لنجاح المشروع من أن تكون للأهالي مصلحة مادية فيه، فاستأجرت أراضي المشروع لمدة أربعين سنة بإيجار سنوي عشرة قروش للفدان، كما اشترت الأراضي اللازمة للترع الرئيسية وغير الترع الرئيسية من المنافع العامة بثمن جنيه واحد للفدان. وكانت هناك هيئة حددت مساحة هذه الأراضي تحديدًا دقيقًا وأتمت عملها في سنة ١٩١٢، وسجلت أملاك الأهالي بأسمائهم.
وقد رأت الحكومة أن قدرة الزارع في الاستغلال الصالح لا يمكن أن تعدو العمل في ثلاثين فدانًا يزرع منها عشرة أفدنة قطنًا وعشرة ذرة ولوبيا، وتترك العشرة الباقية بغير زراعة؛ لذلك جعلت هذه الثلاثين فدانًا وحدة ما يضع الرجل عليه يده في أراضي الجزيرة. وملاك الأراضي الأصليون يفضلون على من سواهم في الاستغلال؛ فكل مالك يضع يده على ثلاثين فدانًا من أرضه، وجعلت القاعدة أن يكون للمالك حق اقتراح الأشخاص الذين يستغلون سائر ما استأجرته الحكومة من ملكه، وهو غالب الأحيان يقترح من يتصلون به بصلة القربي. وما دامت تقارير المفتشين عن هؤلاء المزارعين صالحة فلا محل لإجلائهم عن الأرض التى يستغلونها.
بعد انتهاء الحرب عاد المسيو السندرينى الذى كلفته الحكومة مباشرة أعمال إنشاء الخزان، وجعل ارتفاعُ الأسعار على أثر الحرب المبالغ التى قدرت لإتمام البناء غير كافية، على أنه استمر في العمل لحساب الحكومة، وباشر منه قسمًا غير قليل، ورأت حكومة السودان النفقات باهظة، فلما قررت الحكومة البريطانية رفع قرض السودان إلى ستة ملايين طُرح إكمال بناء خزان سنار في المناقصة، ورسا على محلات بيرسون وأولاده بلندرة فبدأوا العمل فيه من أبريل سنة ١٩٢١، وهم الذين قاموا بإتمامه، ويبلغ طول خزان سنار ومعه الحوائط الصماء ٣٢٥٠ مترًا، وعليها شريط سكة الحديد، وهناك مذكرة فنية عن خزان سنار وضعها ألفي بك الذى كان مدير أعمال بتفتيش ري مصر بالخرطوم.
(٣) زيارة سنجة
وزرنا مدير المديرية مستر ووكر، وكان طريق السيارات بين سنار وسنجة سهلًا، وكان الحر شديدًا بلغ ٤٢ درجة مع أننا في الشتاء …
وزرنا الساعة الأولى بعد الظهر غابة القزازة، حيث شهدنا أشجار السنط ورأينا آلة قطع الأخشاب يشرف عليها أحد اليونانيين وعمالَ سودانيين معهم البلط والمناشير. وتُستعمل الألواح في فلنكات السكة الحديدية وفي أعمدة التلغراف، ولا تصلح لنجارة الأثاث؛ لأن الخشب خشن لا يقبل النعومة بالفارة. ويعطى قاطع الخشب أربعة قروش عن كل متر، ويستطيع العامل أن يقطع من الخشب المتر والنصف والمترين في اليوم، ويشتغل العمال في حرارة الشمس ولا يلبسون غير السروال. ونفاية الخشب وكساؤه يستعملان وقودًا لوابورات نشر الأخشاب والرفاصات. والأرض هناك جيدة التربة تنقصها اليد العاملة، وأشجار السنط التى على النيل ملك «لعمر الخضر»، وبقية أشجار المنطقة ملك للحكومة.
(٣-١) عند آل أبي العلا
وعند الساعة الأولى والنصف تناولنا طعام الغذاء في منزل الوجيه مصطفى أبي العلا في سنجة، وقوبلنا بالحفاوة والإكرام، وألقى الداعي خطابًا رقيقًا، وألقى كل من حضرات فؤاد أباظة بك والأستاذ علي شكري خميس والسيد محمد عبد الرحيم سماحة كلمات مناسبة للمقام في بيان فضل آل أبو العلا في توثيق الروابط التجارية والاجتماعية بين مصر والسودان، واشتهارهم بالصدق، وشكر سكان «سنجة»، وقد قوبلت الخطب بالتصفيق.
خطبة الوجيه مصطفى أبو العلا
سادتي، إخواني التجار:
بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن إخواني أشكر لحضراتكم جميعًا تفضلكم بقبول دعوتنا، وتحملكم مشقة السفر، وأحمد الله على سلامتكم.
وكم كان بودي لو أن زيارتكم لمدينة سنجة كانت مرتبة في برنامج الرحلة حتى نكون على استعداد عظيم للقائكم والحفاوة بكم، ولكن رب صدفة خير من ميعاد، فالحفاوة بكم هي محبتكم في قلوبنا، وهذا الشعور الجميل المتبادل معكم، والتوفيق الذي يلازم بعثتكم الموقرة. وحسبكم ما رأيتم في بقاع السودان جميعًا من البشر والابتهاج، وما يطلقه السودانيون على مجهوداتكم العظيمة من الخير العميم الذي يعود على القطرين بالسعادة والفلاح.
وفي هذه الفرصة السعيدة يمكننى أن أذكر لكم ملخصًا بسيطًا عن سنجة؛ فهي من أقدم المدن التجارية في السودان، ولا زالت موردًا عظيمًا للسمسم الأبيض والأذرة والصمغ. والأراضي الزراعية بها من أجود أراضي السودان.
وأرجو قبل الختام أن أوجه خالص شكري لسعادة فؤاد بك أباظة الذى طالما بذل الجهود الطيبة في توثيق العلاقات بين مصر والسودان.
أيضا مسيو كونتو ميخالوس الذي يسهر دائمًا على سعادة السودان ودوام الروابط الاقتصادية بين القطرين. والسلام عليكم ومرحبًا بكم ألفًا. «تصفيق».
خطبة محمد عبد الرحيم سماحة
أيها السادة:
أشكر الظروف السعيدة التى هيأت لنا فرصة الحضور إلى مدينة سنجة وزيارة السادات أبو العلا، وأشكر لهم جزيل الشكر على دعوتهم لنا وحسن استقبالهم وجميل شعورهم.
اسمحوا لي أيها السادة أن أذكر مع الفخر أن السادات أبو العلا تجار مصريون أسس المرحوم والدهم محلهم التجاري بالسودان منذ سبعين عامًا، وسار في تجارته سيرًا حميدًا حتى وصلوا الآن إلى مقام محمود في تجارة السودان. وقد اتصلوا بتجارة مصر منذ إقامتهم في السودان، ولما راجت تجارتهم واتسعت أعمالهم افتتحوا فرعًا لهم في مدينة القاهرة، وحازوا في القاهرة شهرة واسعة، وكانوا خير مثل للصدق وحسن المعاملة. ويسرني أن أذكر لكم بعض ما أعلمه عن تجارتهم.
ذلك أنهم تقدموا الصفوف في العمل على زيادة الروابط بين القطرين الشقيقين فأصبحوا بفضل جهودهم التجارية أكثر المحلات التجارية اتصالًا بمصر، والدلائل كثيرة على استمرار نموهم التجارى.
وقد صدَّروا وحدهم إلى مصر في العام الماضي ما يزيد على نصف صادرات السودان إلى مصر، ولم يقعدهم نشاطهم على تجارة مصر والسودان فحسب، بل اتصلت تجارتهم بأوروبا وأمريكا، فكانوا في مقدمة المصدِّرين لتلك البلاد من محصولات السودان.
هذه عجالة من أعمالهم؛ لذلك أرى لزامًا علينا أن نفخر بهم، ونحيي فيهم الشجاعة والإقدام. وقبل الختام أكرر لهم شكري، وأخص بالشكر منهم حضرة مصطفى أفندى الذي عمل كثيرًا مع مسيو كونتو ميخالوس وإخوانه جميع أعضاء الغرفة على تهيئة هذه الرحلة الميمونة.
(٤) العودة إلى سنار
وحوالي الساعة الثانية والنصف عدنا من سنجة إلى سنار، ورأينا في الطريق بيتًا من الخوص به حانوت من القش؛ حيث كانت شابة سودانية تُدعى «بنتوم» تعايشية من طاما متزوجة عمرها ١٣ سنة، تتولى بيع القهوة والبيض المسلوق.
وفي طريق السيارات حوانيت تقدم فيها القهوة السودانية المعروفة بالجَبَنة (بفتح الجيم والباء والنون)، وهي تصنع من البن العادى الذي يحمص على النار أولًا أمام الزبون وتغلى في إناء من الفخار الأحمر يشبه الإبريق الصغير بدون «بزبوز»، ولهذه القهوة مذاق خاص يعجب به الدكتور محجوب ثابت كثيرًا.
ويجلس الدكتور على مقعد خشبى أمام أمثال هذه الحوانيت التي تسمى «رواكب» ويسأل النساء اللواتي يقمن منفردات أو مع الشيوخ بهذه المهنة عادةً، عن أسمائهن وقبائلهن. وطالما استوقفهن وبعولهن في الطريق يقص عليهم حديثًا في أنساب القبائل السودانية
وعند ذهابنا إلى سنجة صاد فؤاد أباظة بك طيورًا ببندقيته، وهي «دجاجة الوادي» وقُمريًّا وغرنوبًا ودرًّا وطيرًا ملونًا، وعدنا إلى محطة سنار الساعة الرابعة مساءً، وتوجه الدكتور محجوب إلى المستشفى الأميري، وهو يسع ١٢٦ سريرًا منها ٤٠ للنساء والأطفال، وبه أقسام للحميات والجروح وأمراض النساء والعمليات، وعملت مكمدات لقدم الدكتور، ثم توجهنا ومعنا حضرة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير جريدة «حضارة السودان» لنلحق برفاقنا إلى غابة النسانيس، وهي تبعد ١٩ ميلًا عن خزان سنار، ومررنا في طريقنا عند الخزان بحديقة الخزان، وتبلغ مساحتها ٨٠ فدانًا، زرع منها ٤٠ بالفاكهة من موز وباباي وجوافة وتفاح ويوسفي وغيره، وتباع فاكهتها، ويسمح للجمهور بالتنزه فيها، ما عدا حوض السباحة فهو خاص بالموظفين الإنجليز وعائلاتهم، وكان طريقنا إلى الغابة يقع بين النيل الأزرق والترعة الرئيسية، ومررنا بأنقاض مدينة سنار القديمة التي هدمتها الحروب، وكان في سنار ملك ودولة قبل أن يفتحها إسماعيل وقبل أن تحتلها «المهدوية» في ثورتها وقبل استعادتها مع استعادة السودان. وبين الأنقاض جامع كان مكتوبًا عليه «بُني بأمر الحاج محمد علي». وكان لملوك سنار صداقة ببني عثمان، وينتمي الملوك إلى بني أمية، وكانوا يرسلون في القرون الخالية بعثات من الطلبة السناريين إلى الجامع الأزهر.
وقد جنحت حكومة السودان إلى إطلاق «سنار» على «مكوار»، ومكوار اسم شخص وضع علمًا على «حِلة»، والحلة «بكسر الحاء وتشديد اللام» هى قرية أو عزبة، وسمي الخزان أولًا خزان مكوار ثم دعي خزان سنار. وسنار اليوم هي المباني الجديدة التى للحكومة من مباني المهندس المقيم وموظفي الري السوداني والمصري الذي يتولاه المهندس حسن الديب، والمحطة والمستشفى، والحديقة والحوانيت المخططة، والحلل المجاورة. وهناك سنار التقاطع؛ لتقاطع الخطوط الحديدية إلى القضارف والأبيض، وهى تبعد عن سنار المركز بنصف ساعة.
وفي غابة القردة والنسانيس في جبل المشايخ حارس، وكان العلم المصري موضوعًا عن يمين باب الدخول لمكاتب الحكومة، وعن اليسار العلم البريطاني، وكذلك في جميع مصالح الحكومة السودانية.
وتُصاد النسانيس بإحدى طريقتين: بعمل حفرة في جوز هند فيدخل النسناس يده ولا يستطيع أن يخرجها، أو بوضع شراب المريسة في إناء، فإذا شرب منه النسناس أُغمي عليه وسهل القبض عليه. وتستعمل الطبقة الأرستقراطية جلد النسناس في صنع الحقائب وغيرها.
(٤-١) صيد السمك
الأستاذ عطا عفيفى — من أعضاء البعثة — صياد ماهر في البر والبحر، وقد اتفق مع صديقه مستر جاكسون مدير محلج الحكومة في سنار على صيد السمك من النيل الأزرق الذى هو غني بالسمك، فصاد الأستاذ عطا سمكة من نوع العجل وزنها ٢٦ رطلًا إنجليزيًّا، وأخرى وزنها ٨ أرطال، وقد هنأه الأعضاء على مهارته، وتبرع بالسمكتين لمطبخ القطار الخاص، حيث يقدم السمك عند غذاء اليوم التالى ٤ فبراير.
وطريقة صيد السمك الكبير أن يستعمل الصائد سنارة مدلاة من حبل طويل مربوط بقصبة من الغاب، فإذا أمسكت السنارة السمكة وجب على الصائد إرخاء الحبل؛ لأنه إذا جذبه إليه قاومت السمكة، أما إرخاؤها فهو مضعف لقوتها، حتى بعد ربع ساعة مثلًا تصبح بغير مقاومة فيجذبها الصائد بسهولة.
(٤-٢) حفلة شاي سنار
وأقام حضرات تجار مدينة سنار حفلة شاي تكريمًا للبعثة عند منتصف الساعة السابعة مساءً، كان يتقدم الداعين حضرات السيد حميدة سر تجار المدينة ووكيل شركة شل ومتعهد مقاولات وتوريدات الحكومة، والخواجة جورجي هب الريح، والطيب أحمد سليمان، ويوسف حامد، وعباس الضوي، وعثمان الحسن، وعبد السلام العجل، وعزت شامي، وأكثر التجار من بربر.
وألقى حضرة الشيخ خليفة عبد السلام تاجر الحبوب كلمة ترحيب بالبعثة باسم التجار. وأُقيمت الحفلة في دار الخواجة جورجي هب الريح — وهو من أصل سوري — وحضرها مستر كين مفتش سنار والدكتور أحمد عبد الحليم طبيب المستشفى الأميري وكبار الموظفين.
وقال مستر كين: إنني لم أشهد منذ حفلة افتتاح خزان سنار سنة ١٩٢٦ اجتماعًا في سنار كاجتماعنا اليوم.
وفي داخل بيوت المدينة غُرست أشجار الحناء. ويُدعى عمدة سنار «الفضل المرجى».
وبجوار سنار حلة الفلاتة — مهاجري السودان الفرنسي وغيرهم — تُدعى «حلة مايرنون» عليها شيخ يلقبونه «بسلطان» يُسمى «الحاج طاهر».
- (١)
للحكومة.
- (٢)
للسائحين الإنجليز وأمثالهم.
- (٣)
للأفندية.
وبسنار خزان لماء الشرب الذى يُؤخذ بآلة رافعة من النيل الأزرق وثلاجة، فيُوضع الماء في الأزيار.
ويورده للمنازل مقاول عنده عمال يحملون الماء في جرادل من صهريج الماء، والأجرة تُدفع بحسب الدور. والدور قدره صفيحتان من الماء، يأخذ المقاول النصف والعامل النصف. والأجرة يُتفق عليها بين الساكن والمقاول.
وبين سنار وواد مدني ثلاث ساعات بالقطار وساعتان ونصف بالسيارة، وهناك لوريات تحمل بضائع وركابًا يدفع المسافر فيها إلى واد مدني ٤ قروش، ورخصة كل دكان مائة قرش في السنة، ورخصة عربة الكارو عشرون قرشًا في السنة، وهناك ضريبة على الأرباح تُقدَّر بسبعة في المائة. وبالمدينة لجنة من التجار برياسة سر تجارها لتقدير رأس مال كل تاجر وما يجب عليه دفعه للحكومة في السنة، وتُفتح الحوانيت منذ الفجر وتُغلق الساعة السادسة مساءً عند الغروب عادةً، ما عدا القهاوي ومحلات الشاي فتبقى لمنتصف الليل.
وأهالى سنار معروفون بإكرام الغرباء، ولا يوجد بها بار لبيع الخمور. ورخصة الخمر خمسون جنيهًا في السنة. وتنار مكاتب الموظفين ومنازلهم بكهرباء مستمدة من الخزان، أما الأهالى فليس عندهم كهرباء. والبضائع اليابانية منتشرة في سنار وفي السودان كله، وخاصة الدامور والدبلان والخامات الهندية. وقد شرع ممول إنجليزى يفاوض الحكومة في إنشاء مصنع للنسيج بسنار.
ومحاصيل سنار: الذرة بأنواعها من فتريتة ودغفر وشامي ودجني والسمسم واللوبيا، وتشتهر بمراعي الأبقار ذات اللون الأسود في بياض والعنق المرتفع، ولا يوجد بها جاموس. وأرض بندر سنار ملك للحكومة وحكر للأهالي، وسنار مركز. وأمراض سنار: الملاريا والبلهارسيا والزهري.
وفي الساعة العاشرة مساءً، سار القطار إلى محطة سنار التقاطع فوصلها الساعة العاشرة والنصف واتخذ طريقه إلى كوستى.