الفصل العاشر
كان فرح هشام دردير وحمدي الفنجري بسيارة فكري أعظم من فرحته هو، ولم يدرِ سبب ذلك فحمدي عنده سيارة هو أيضًا.
– الليلة لا بد أن نحتفل بك.
– الليلة سنسهر للصبح.
وصاح فكري: لا، كونا عاقلَين، السيارة جديدة لو سهرت بها من أول ليلة يسحبها هو في صباح هذه الليلة، الأمور لا بد أن تكون بالعقل.
وقال هشام: هو ما قلت، تذهب معنا إذن إلى صديقٍ لنا ونعرفك به.
– صديق جديد؟
– عرفناه وأنت مشغول بالمذاكرة.
– من هو؟
– ستعرفه، اصبر. لو تعرف ما فعلناه لأدركت أن أبواب السماء فتحت لك.
– خيرًا؟
– هيا بنا.
لم يكن بعيدًا عن حياة الليل فقد طالما تعرف ببنات الهوى، ولكن ذلك في بيوتٍ يعرفها أصدقاؤه، النفقة فيها يطيقها ما يناله من أبيه، وكان بذلك يظن أنه عرف من الحياة كل الحياة، وأن أحدًا لا يستطيع أن يدري من شئون الدنيا أكثر مما يدري هو.
وكان بظنه هذا قانعًا كل القناعة، وحين كان يسمع عن الكباريهات والأموال التي تنفق فيها كان تقديره أن هذه الحياة ما هي إلا ما عرف ولكن بصورةٍ علنية، فالذين هناك لا ينفقون مما يجود به عليهم آباؤهم.
وظل على ظنه هذا حتى ذهب مع صديقيه هشام دردير وحمدي الفنجري إلى ذلك الرجل الذي قالا عنه إنه صديقهما، وهناك رأى فكري عجبًا.
البيت في شارع الشيخ فواز بالمهندسين والعمارة شاهقة لم يستطع أن يعرف عدد أدوارها إلا حين قرأ رقم ١٢ في المصعد، والصديق الذي ذهبا إليه يسكن هذا الرقم، فهو في أعلى العمارة فيها شقتان متصلتان، تطلان على ما كان سطحًا ثم أصبح جنةً من جنان الأرض، فالأنوار فيه باهرة والأركان نوافير والجدران حلي وتهاويل، كلها أشكال تنير وتثير في وقتٍ معًا.
وحتى يبلغ السطح أو الذي كان سطحًا كان قد اخترق بعض غرف أحس وهو يخطو إليها من الباب الخارجي، ثم وهو يخطو فيها أنه في فتحة الباب قد انتقل من إنسانٍ يحيا في القاهرة المعزية إلى ممثل في أروع ما أنتجته السينما الأمريكية من تجميل للبيوت.
لقد تولاه البهر والذهول منذ اللحظة الأولى، وما فكري بفقير وإنما هو ابن تاجر موفور، ويسكن أيضًا شقتين متصلتين، ويحيا حياةً لا تعرف إلا الرغبة المجابة في المأكل والمشرب والملبس، ولكن أين هذا جميعًا مما هو رائيه الآن، دنيا غير التي عرف وحياة غير التي يحيا، واستقبله بالباب خادم واضح أن صاحب البيت رسمه ليكون جزءًا من هذا الإبهار، ووضح له أن الخادم يعرف صاحبَيه فهو يقول في ألفةٍ: تفضلا البك في الروف.
ويخطو فكري معهما ذاهلًا واعيًا شاردًا منتبهًا، لا يفكر في شيءٍ إلا سؤال ظل يتردد في ذهنه ويدق مشاعره: ما هذا؟ أين أنا؟ أين أنا؟ وكان ذهوله قد بلغ منتهاه، حين خطا خطوته الأولى إلى السطح وأدرك صاحباه ما ألم به، فهما أيضًا مرَّا بما يمر به اليوم حين صحبهما إلى هذا الحلم المحقق زهران قدري زبون رفعت الفنجري والد حمدي إلى صديقه صاحب هذا البيت.
لقف كل من الصديقين ذراعًا لفكري وقاداه ذاهلًا واعيًا، وأوقفاه وجاء إلى أذنيه صوت كان عنه تائهًا وخُيِّل إليه أنه صوت حمدي: أهلًا علوان بك، هذا صديقنا فكري بن فؤاد محمدين صاحب المحلات المشهورة بالحمزاوي.
ورأى فكري نفسه واقفًا أمام شخص قصير القامة أصلع الشعر، أو هكذا خُيِّل لفكري على الأقل، وصاح حمدي: ما لك التهيت هذه اللهوة الكبرى، أفق وسلم على علوان بك سلطان، لا مؤاخذة يا علوان بك أنت طبعًا تعرف حالة الواحد منا حين يأتي إلى هنا لأول مرة.
وقال علوان: مرحبًا، مرحبًا فكري باشا، كلمني عنك حمدي وهشام كثيرًا.
– مرحبًا سعادة البك.
– اسمع أنا أعرف أنك لن تستريح حتى ترى البيت كله، خذه يا حمدي وفرجه على البيت.
ورأى وازداد ذهولًا كل غرفة مصنوعة خصيصى لتجعل الداخل إليها يكاد يغيب عن الوعي.
وحين عاد إلى مجلس علوان كان الإعجاب الحائر واضحًا عليه، وأراد علوان أن يجتذبه من دواره: مبروك الثانوية العامة.
وانتبه فكري إلى الواقع ودار في الجالسين. ثلاثة رجال وامرأتان رائعتا الجمال ثم سارع يقول: الله يبارك فيك يا سعادة البك.
وقال حمدي: والأهم من ذلك يا علوان بك أن فكري أصبح الآن مساعدًا لأبيه في المحل، وقرر أن ينزل إلى الحياة العامة.
– هكذا! هذا هو الكلام. أليست الشهادة وسيلة للغنى، فما دام عندنا الغنى والحمد لله فما لزوم هذه الشهادة؟
وقال هشام: ونحن اليوم نحتفل بركوب أول سيارة يملكها فكري، وصاح علوان في تظاهرٍ بالفرح: أهكذا؟! ألف مبروك! وما ماركتها؟
وصمت فكري وقال هشام: اشتراها صغيرة حتى يربيها على يديه.
وضحك جميع الجالسين وقالت إحدى الفتيات: تتربى في عزك إن شاء الله.
وقال علوان في جد: لا، ستتربى في عزي أنا إن شاء الله، أنا أحب الشباب الجريء الذي لا يبحث عن المظاهر والشهادات، فكري ابني منذ اليوم.
ودهش فكري أن يصبح ابنًا هكذا في لحظة من زمن، ولم يملك إلا أن يقول: ألف شكر.
ويقول علوان: اسمع يا فكري أنا لي زملاء وصلوا إلى وزراء، وأعلم أنهم لولا الخجل لجاءوا إليَّ ليستلفوا مني، أنا أخذت الابتدائية وبدأت العمل الحر، لو كنت أخذت الدكتوراه كان مرتبي الآن أقل من نصف مرتب متولي الخادم الذي قدم بكم إلى هنا، هذا واحد من خمسة يعملون عندي، هو أقلهم مرتبًا لأنه آخر واحد عينته عندي.
ستصبح مثلي يا فكري وسترى.
وازدادت حيرة فكري، كيف؟ كيف؟ وقال علوان: أنت الليلة ضيفي إلى الصبح.
وارتج على فكري وقال هشام: يا أخي كلم والدتك وقل لها إنك ستسهر معنا الليلة.
وقال فكري: أرني التليفون يا حمدي.
وضحك الجميع وصاحت الفتاة الثانية: يا بني هنا تليفون على كل كرسي، الكرسي الذي تجلس عليه الآن بجانبه تليفون.
وقال جالسٌ آخر: هنا خمس نمر بخمسة عشر خطًّا.
قال علوان: يا جماعة على مهلكم، الرجل أول مرة يأتي إلى هنا، والذي لا يعرفك يجهلك، ثم هو لم يغلط، إنه يريد أن يكلم والدته أتريدونه أن يكلمها أمامكم، قم يا حمدي خذ صاحبك إلى حجرة المكتب.
وفي الطريق إلى المكتب قال فكري: يا بني أنا كنت أسهر وأقول لها إنني أذاكر، الآن ماذا أقول لها؟
وصاح فيه حمدي: يا رجل أفق إلى نفسك، أنت اليوم أصبحت حرًّا، تسهر كما تريد وتعود حين تريد، ألا تعرف الآن قدر نفسك؟
وضحك فكري وهو يقول: معقول، معقول، فقط ليس من أول ليلة هكذا.
– بل يجب أن يعرفوا حدودهم من أول ليلة.
– من هؤلاء؟
– أبوك وأمك.
– أترى هذا؟ سنرى.
وطلب فكري التليفون وقال: ماما أصحابي يريدون أن يحتفلوا بالسيارة الجديدة وسنسهر الليلة معًا، لا لن نتأخر كثيرًا، نعم ناموا أنتم، معي المفتاح نعم، لا لم أنسه مع السلامة.
وبدأت الليلة.
أما الويسكي فيعرفه فكري وما هو بجديد عليه، وأما المخدر فقد جربه ولكنه لم يستجب له، وأما الفتيات اللواتي يشربن ويسمرن فهو أيضًا يعرفهن، كانت الفتاتان قد أصبحتا ثلاثًا فقد قدمت إلى البيت فتاة في عشرينيات عمرها، فُتن بها فكري منذ لحظة قدومها، وقد أُعجب فيها بمظهرٍ بريء، كانت نبتًا أخضر جديدًا على مثل هذه الحياة، بيضاء الوجه سوداء العينين متوسطة القامة في طولها تميل إلى النحافة، كثيرة المرح ولكنه مرح ساذج لم يتمرس بعد، وأحست ألفت بإعجاب فكري فراحت تلقي شعرها عليه وهي ترقص، وتكثر من الوقوف أمامه، ويصخب الجميع مدركين اللقاء المتبادل الذي تم على مشهدٍ منهم، وصاحت سعدية أقدمهم في العلم: ألكونتاك جديد عند الاثنين، هزي وسطك يا ألفت، سيارته جديدة بشوكها.
ولم يلحظ فكري علوان وهو يغمز لحمدي الذي تبعه إلى حجرة المكتب.
– هذا الولد سينفعنا.
– ألم أقل لك؟
– وسيارته الجديدة هذه مهمة جدًّا.
– أعلم.
– لا تظن أنني أختاركم وأنا لا أعرف ماذا أفعل، أمثالكم بعيدون عن كل شبهة.
– أنا سأتركه بعض الوقت ولا تذكر أنت أو هشام له شيئًا، أنا لي طريقتي الخاصة.
– لا يمكن أن نعمل شيئًا قبل أن تقول.
– أنا أريده الليلة في الكباريه.
– يذهب.
– وأريد ألفت تذهب معه إلى شقة جاردن سيتي.
– قل لها.
– لا شأن لك بها ولكن هيئه أنت لهذا وخذ، اجعله يعطيها هذه المائة جنيه وأنا لي معها شأن، قل له إن الفلوس منك أنت.
– أمرك.
وعادا إلى مكانيهما وبعد دقائق قال علوان: والآن إلى العمل.
وصاح فكري: عمل! أي عمل؟
– أتظن أن ألفت وسعدية وسميرة يكسبن عيشهن من انبساط سعادتك.
– إذن!
– هن ذاهبات إلى الكباريه ونحن سنذهب معهن، الساعة الآن فاتت العاشرة، هيا بنا.
وشهد فكري الكباريه ورأى رأْي العين كيف تصبح الجنيهات من فئة المائة والعشرين والعشرة عقودًا في نحور الراقصات، ورأى آلاف الجنيهات تلقى على الموائد وكأنها قروش.
وكان من المقرر أن ترقص ألفت أول الراقصات، وحين بدأت الرقص لم يلتف حول نحرها سوى عقدين: أحدهما من ذوي العشرة والآخر من ذوي العشرين، جديدة.
ومال حمدي على أذن فكري: البنت تموت فيك.
– حلوة كالقمر.
– ما رأيك نخرج معها الآن؟
– هل أنت جاد؟
– اتفقت معها فعلًا.
– ولكن أنا … أنا …
– خذ هذه مائة جنيه أعطِها لها.
– يا نهارك أسود.
– ماذا جرى لك؟
– من أين؟
– الأعمال الحرة تجعل المائة جنيه هذه عشرة قروش.
– ومن أين أردها لك؟
– قسطها لا شأن لك.
– وأين سنذهب؟
– أيضًا لا شأن لك هي تعرف.
– وإن طلبت أكثر، أنا ليس معي إلا عشرة جنيهات.
– خذ عشرين لتكون مطمئنًا.
– أقوم؟
– اركب سيارتك وقف بها أمام الباب وستجدها بعد خمس دقائق بجانبك.
•••
شقة جميلة نظيفة، كل شيء معد لتمضية سهرة وللإقامة أيضًا، عرف فكري أنها من شقق علوان، وفهم أن حمدي هو الذي صنع له هذا المعروف.
•••
– خذي.
– ما هذا؟
– ألا تعرفين؟
– أعرف طبعًا.
– إذًا لماذا تسألين؟
– لأني لن آخذ منك شيئًا.
– ماذا؟
– أليس من حقنا أن نعجب ببعض الناس ونحبهم؟
– من حقك طبعًا. ولكن يبدو أنك تحتقرين المبلغ الذي أقدمه لك بعد أن أخذت العقدين من المعجبين في الصالة.
وانفجرت ألفت تضحك في قهقهةٍ عالية بعيدة عن التظاهر، ثم ما لبثت أن أوقفت ضحكتها وقالت فجأة: أهذه أول مرة تذهب إلى كباريه؟
– لاحظي أنني قبل اليوم كنت تلميذًا.
– آه، معقول. اسمع أولًا أنا لا أعرف المبلغ الذي تعرضه عليَّ حتى أحتقره أو أحترمه، وثانيًا كيف تصورت أن هذه العقود كلها لنا.
– ماذا؟!
– إننا لو أخذنا منها عشرها تكون نعمة، إنها تقسم على جميع العاملين في الصالة، وحين تكون الراقصة جديدة مثلي يكون نصيبها عدمًا أو قريبًا من العدم.
– إذن لماذا ترفضين؟
– أحببتك.
– ثانية.
– وأنت أيضًا أحببتني.
– الحقيقة أنا … أنا معجبٌ بك جدًّا.
– وستحبني.
– يتهيأ لي. لن أسألك ماذا رماك إلى هذا العمل.
– يا حبيبي هذا السؤال كان يصلح أيام زمان، الآن لا أحد يسأل هذا السؤال، اللواتي لا يقمن بهذا العمل علانية يقمن به سرًّا في بيوتهن؛ ولهذا لم يصبح اسمه المقدر أو النصيب كما كان يسمى في أفلام الماضي، وإنما أصبح عملًا محترمًا مثل كل الأعمال، ودخله أصبح أعظم من أي دخل، ويوم أريد الزواج ألف يتمنون تراب رجلي، منهم تسعمائة وتسعون يستفيدون من خبرتي ويجمعون المال من ورائي، والعشرة الباقون ليجعلوا مني أم عيالهم.
وفوجئ فكري بالإجابة، وصمت طويلًا ثم قال: ألفت.
– نعم.
– أنا أحببتك.
– إذن أدخل هذه الفلوس في جيبك.
– ولكني أحب أن أقدم لك شيئًا.
– قدم لي هدايا عندما تريد.
– قد تكلف أكثر.
– هدية بعشر جنيهات منك تساوي عندي الكثير، إننا من سن واحدة ندخل الحياة من بابٍ واحد، ويبدو أن الصلة بيننا ستطول.
– ومن يدري ربما تدوم.
– يا رب.
– كل شيء بأمره.