الفصل الثالث

لا يعرف الحاج محمدين الطوخي عن عائلته إلا أنهم طوال حياتهم في القاهرة ويعملون في بيع القماش، وكل التغيير الذي يذكره عن أجداد الأجداد أنهم كانوا يعملون في الحرائر فقط، حتى تولى المحل جده أبو أبيه الحاج المدبولي الطوخي، الذي ارتأى أن يتوسع في التجارة، وأصبح يعمل في الحرائر والأصواف وجميع الأنواع الأخرى من مخرمات إلى شفائف، ويذكر الحاج محمدين أن التجار الآخرين غضبوا من جده؛ لأنه اعتدى على ما تخصصوا فيه من تجارةٍ، ولكن الحاج مدبولي دعاهم جميعًا إلى العشاء واسترضاهم وصفت النفوس، ويذكر الحاج محمدين بفخر أن جده قال لهم على العشاء: وماذا كنتم تصنعون إذا جاء شخصٌ غريب عليكم لا تعرفونه ولا يعرفكم، وفتح محلًّا أو محلات؟

ونظر بعضهم إلى بعض، وقال الشيخ إسماعيل الحريري لصديقه أبو العلا الصواف: ماذا جرى لنا يا أبو العلا هل أصابنا الكبر؟ لماذا لم نفكر في هذه المسألة من قبل أن يفحمنا بها أخونا المدبولي؟

وحكايات الحاج محمدين كلها لا تخرج عن السوق وأحواله، رابطًا دائمًا بين تجارته والسياسة والاحتلال.

ولم ينجب الحاج محمدين إلا ولدًا وبنتًا، أما البنت عائشة فقد تزوجها يوسف العقاد ابن صديقه زينهم العقاد، وتعيش مستورة وقد أنجبت بنتين وولدًا.

أما ابنه فؤاد فهو حزين من أجله غاية الحزن، فقد تزوج من كريمة بنت الشيخ إسماعيل الحريري، وحملت منه ولكنها ماتت في الولادة ومات معها ابنها، ومنذ ذلك الحين وفؤاد مضرب عن الزواج، يقول كلما فاتحه في الأمر: يا أبويا جربت حظي وعرفته.

ويدمى قلب أبيه: يا ابني ليس لي غيرك.

– البركة في أبناء عائشة أختي.

– أبناء البنت لأبيهم وأبناء الابن لجدهم.

– ربنا يقدم ما فيه الخير يا أبويا.

ويدرك الحاج محمدين أن ابنه يريد أن ينهي الحديث.

ويرى في محيا ولده ما يتكتمه الابن وتبيحه ملامحه، لقد أحب كريمة وكبر الرجال فيه يمنعه أن يعلن حبه.

حين عرف سويلم الحاج محمدين، كان الحاج قليل العمل يكتفي بأن يجلس في الدكان، تاركًا البيع والشراء جميعه لفؤاد.

فقد أصبح لمبرو يرسل سويلم وحده ليشتري الأقمشة من الحاج محمدين، وكان في أول الأمر يوصيه أن يترك اختيار الألوان للحاج محمدين أو لفؤاد، ومع التجربة ترك لسويلم التصرف جميعًا، فقد أصبح يحسن الاختيار كما أصبح على درايةٍ تامة بأذواق السيدات اللواتي يشترين.

صار سويلم قريبًا إلى نفس الحاج محمدين وولده فؤاد، فهما يأنسان إليه ويقبلان على حديثه، يجدان النقاء بغير زيف، والرضى بغير شكوى، وقبول الحياة بغير شروط، فقد تعوَّد كلاهما ألا يجدا عند الناس إلا التذاكي مع الغباء، والسخط بغير جهد، والشروط يضعها كل ابن آدم في عقده مع الحياة، وكأن الحياة أمه التي لم تنجب سواه.

في يومٍ ذهب سويلم إلى محلات الحاج محمدين فلم يجد فؤاد، فاشترى الكمية التي يريدها وجلس إلى الحاج.

– ابا الحاج.

– خير يا سويلم؟

– أريد أن أقبل يدك.

– أستغفر الله لماذا يا ابني؟

– ربنا استجاب لدعواتك لي.

– خيرًا؟

– نعمات حامل.

– صحيح؟

– والختمة الشريفة.

– ألف مبروك يا ولد.

ثم نادى: يا سليمان هات ثلاثة أمتار حرير ياباني فستقي، وقيد ثمنها على حسابي ولفها وأعطها لسويلم.

وأشرقت الفرحة في عيني سويلم، فرح بحب الحاج أكثر من فرحه بالقماش وصاح: والله عندي نداؤك السريع على سليمان يساوي مال الدنيا كلها، إيدك أبوسها، أبي مات وأنا عندي سبع سنوات ولحقت به أمي بعد سنتين، وقد يجد الإنسان المال عند الناس، ولكن الحنان الذي أجده عندك يجعلني أنسى يتمي.

– أترضى بي أبًا يا سويلم؟

– وأين أنا من هذا؟

– يا ابني أنت طيب ولك قبول، وريحك خفيفة وربنا سيوفقك؛ لأنك تجمع إلى كل هذا الذكاء والمهارة.

– يا ابا الحاج الناس قد يخرجون المال، ولكنهم يكنزون الحنان لأولادهم.

– وأنت منذ اليوم أخ لفؤاد.

– فأنا أعظم الناس حظًّا؛ لأن ربنا عوضني عن أبي بأبوين.

– الخواجة فوكيون رجل طيب يا سويلم.

– يا سلام يا ابا الحاج، والله لو كان خلفني ما كان يعاملني هذه المعاملة الطيبة، بعد كم شهر أصبحت أنا الذي أبيع وأشتري وأعمل كافة الأشياء، وبعد الشهر الأول لم يعد يحاسبني قط.

– الأمانة عمرها طويل يا سويلم يا ابني.

– إن يكن أبواي قد ماتا وأنا طفل، إلا أني يا ابا الحاج تعلمت وحفظت القرآن، وربنا أكرمني كل الإكرام حين عرفت الخواجة الذي عرفني بك.

– أرضاك الله يا ابني.

– ألا قل لي يا ابا الحاج.

– نعم؟

– هو حبيبنا فؤاد عمره كم الآن؟

– آه، لا تذكرني يا سويلم.

– قارب الأربعين؟

– يفوتها السنة دي.

– ولا زال …

– ويرفض حتى أن أكمل معه الحديث فيه.

– واذا جعلته يتزوج؟

– كيف؟

– هذا شغلي.

– والله يا سويلم أعطيك مائة جنيه.

– حد الله، لماذا تشتمني يا حاج؟ أتسحب مني أعز ما أملك في لحظة إعطائه؟ ألم تقل إنني أخو فؤاد؟

– صدقت.

– فأنا الذي سأزوجه.

– من؟

– اسمع يا ابا الحاج، الزبائن اللواتي يجئن إلى هنا بنات يحاولن أن يوقعنه ويتزوجنه، وبهذا يجعلنه ينصرف عنهن فهو تاجر لسابع جد، ولا يمكن أن يضحك عليه أحد، وأما سيدات من بنات الأثرياء يجئن في السيارات الفخمة ومعهن السائق والزفة، وغالبًا يكن مخطوبات أو غالبًا تكون قلوبهن مع أصحاب النصيب.

– والله يا ابني كلامك كبير. أستمع إليه وكأنني أنا الشاب وأنت الشيخ، إنما يبدو أن عملنا في التجارة يجعلنا لا نفكر إلا فيها، قل يا سويلم.

– العمدة في بلدنا الفؤادية.

– اسمها الفؤادية؟

– كان اسمها شقلبان وسعينا حتى أسميناها الفؤادية.

– عجيبة.

– كأننا أسميناها الفؤادية ليتزوج فؤاد ابنك ابنة عمدتها.

–كم عمرها؟

– ستندهش.

– كم؟

– خمسة وعشرون سنة.

– وما الذي جعلها تنتظر؟

– أكملت تعليمها في الجامعة.

– الجامعة وهي ابنة العمدة؟

– عقلها يزن بلدًا بأكمله.

– ولماذا لم تتزوج زميلًا لها؟

– القسمة، زملاؤها كن يخفن منها.

– أهي …؟

– إن لم تكن قمرًا في تمامه أكون غير جدير أن تقول لي ابني، لقد صمم أبوها أن يلازمها في ذهابها إلى الكلية والعودة منها، الرجل الذي رباها عم حسنين أبو سعفان، وأقامت والدتها في مصر طوال دراستها في الجامعة.

– أليس عند العمدة غيرها؟

– اسم الله عليك، وأرادها أن تتعلم كما لو كانت ولدًا.

– وهل تقبل؟

– فؤاد متعلم.

– ولكن لم يتخرج في الجامعة.

– بل تخرج في أحسن جامعة، جامعة محلات الحاج محمدين الطوخي وولده.

ويضحك الحاج محمدين: وكيف سيراها؟

– دع هذا لي.

– هل أنت جاد؟

– سأخبرك بالموعد في التليفون حتى تحرص على وجود فؤاد بالمحل.

– أنا لن أخبره بشيء.

– إياك يا ابا الحاج أن تخبره، سنجعل الموضوع وكأن ابنة العمدة قادمة لشراء لوازمها لا أكثر ولا أقل.

ونادى الحاج محمدين مرة أخرى: يا سليمان.

وصاح سويلم في غضبٍ صادق: إياك يا ابا الحاج، إنما أسعى سعي أخ لأخيه، فلا تفسد عليَّ سعادتي وانشراحي.

– ربنا يا بني يكتب لك في كل خطوة سلامة وتوفيق، أدخلت الأمل إلى نفسي بعد أن تملكني اليأس.

•••

قال سويلم: يا خواجة أنا عندي فكرة.

- قل.

– الآن المحلات تملأ الزقازيق، والستات إن كن تعودن الشراء منك، فهن لن يلبثن أن يذهبن إلى هذه المحلات، فهن طبعًا يردن أن يخرجن، وأن يكون مجال الاختيار عندهن أوسع.

– أنا فاهم هذا.

– إذن لماذا لا تذهب إلى القرى، نستأجر سيارة ونذهب مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع إلى البلاد؟

– فكرة عظيمة يا سويلم، ولكن كيف سنحصل مستحقاتنا ونمر على بيوت البندر؟

– وبيوت البندر أين ستذهب، إنها موجودة ولك عليَّ أمر عليها بعد الظهر في الأيام التي نذهب فيها إلى البلاد.

– اسمع سويلم، أنا يا بني كبرت، أنا أشتغل حتى لا أكون عاطلًا، أنت تذهب إلى البلاد ومعك البضاعة والمكسب بالنصف.

– لماذا النصف هل اشتكيت لك؟ أنت لا تؤخر عني طلبًا وأنا راضٍ هكذا.

– المكسب بالنصف يا سويلم، أنا عندي فلوس كثيرة ولكن أخشى أن أمرض مرضًا أكثر من فلوسي، ولا أريد أن أحتاج لأحد، والناحية الثانية لا تنفع فيها الفلوس، أنا أريدك، أريدك أنت ونعمات في البيت؛ لأنني رأيت فيكما الوفاء والأمانة، وأنا أعلم أنني إذا مرضت لن تتركاني للمرض.

– يا رجل أعوذ بالله، من الذي أتى بسيرة المرض الآن يا خواجة؟

– الوحيد لا يخاف شيئًا إلا المرض سويلم.

– وهل أنت وحيد يا خواجة فوكيون؟

– من يوم مجيئك لم أصبح وحيدًا. اسمع سويلم أنت من بكرة خذ البضاعة إلى البلاد، طبعًا أول بلد سيكون الفؤادية.

•••

– صباح الخير يا حضرة العمدة.

– أهلًا يا سويلم وبسيارة سويلم. أتكون قتلت الخواجة وسرقت فلوسه؟

– لا قدر الله يا حضرة العمدة، الخواجة لمبرو رجل طيب مثل سعادتك يا حضرة العمدة.

– وما هذه الأشياء التي تحملها؟

– بضاعة جئت أعرضها على الست الحاجة والأستاذة وهيبة.

– ادخل، الحاجة أمك ووهيبة أختك.

كان سويلم قد انتقى أقل الأقمشة شأنًا، وتوقع ألا يعجب الحاجة أو وهيبة شيء مما سيعرضه.

الحاجة سيدة وقور لم تتعد الخامسة والخمسين من عمرها، معتدلة القوام تميل إلى النحافة، في وجهها إشراق ترسل به إليه نفس لم تعرف الحقد يومًا ولا الكراهية، يحبها أهل القرية حب أم وأخت، لم تتأخر عن خيرٍ تستطيع أن تقدمه.

أما وهيبة فهي فتاة طويلة القامة صبيحة الوجه، بيضاء البشرة، ذات شعر مسترسل ينسكب انسكاب الحرير على كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة تمسكها أن تبقى على رغم أنفها، فكأنما تجد الابتسامة نفسها في غير مكانها، فهي تريد أن تهرب وتولي الأدبار، كأنها لا تعرف لوجودها على هذا الثغر معنًى ولا سببًا، وفي عينيها الواسعتين الوديعتين قلق يريد أن يعلن الدنيا بوجوده، فترده وهيبة في كبرياء الشريفات وفي ثقة المثقفات، وفي وجهها انسياب حلو فلا هو بالمستطيل ولا هو بالمستدير، لها إطلالة تأمر من يراها أن يشعر بالإكبار والاحترام.

– أهلًا، أهلًا يا سويلم.

– أطال الله عمرك يا ست الحاجة.

– إن شاء الله تكون مبسوطًا.

– بركة دعائك يا ست الحاجة.

وأفرجت وهيبة ثغرها عن ابتسامةٍ مرحبة مضيئة: لك وحشة يا ولد يا سويلم، والله أحسسنا بفراغٍ كبير من يوم أن تركت البلد، وكيف حال نعمات؟

– تسلم على ست الحاجة وعليك، وكانت تريد أن تأتي معي لولا أنها …

– ماذا؟ قل؟

– لا تكسفيني يا ست وهيبة.

– لعنة الله عليك، وفيمَ العجلة يا ولد؟

– قلنا نربيهم ونحن شباب.

وقالت الحاجة: على بركة الله، مبروك يا ابني ألف مبروك.

ثم نادت: يا نوادر.

وجاءت نوادر وقالت الحاجة: مائة بيضة وبرطمان عسل أبيض وضعي متردين قشدة في صفيحة، وضعي كل هذا في قفةٍ صغيرة وأعطيها لسويلم وهو مروح.

وقالت نوادر: إذن نعمات حامل. مبروك يا سويلم يا خويا، هل كان العيل واقفًا على الباب؟ النهاية تقوم بالسلامة إن شاء الله.

– ربنا يبقيك يا ستي الحاجة، أفضالك سابقة والله لا أنسى عطفك عليَّ وبرك بيَّ، منذ تركني أبي وأمي كنت أحس في حضرتك بالأمن الذي لا أشعر به في أي مكانٍ آخر.

وبدأ سويلم يعرض البضاعة، وصح ما توقعه إلا أن الحاجة قالت: والله القطعة هذه لا بأس بها آخذها.

وقال سويلم: طول عمرك طيبة وقلبك من ذهب، القطعة هذه لا تنفعك، لا تنفع الست وهيبة ولا تنفع نوادر حتى، إنما أنت أردت أن أنصرف من عندك مجبور الخاطر.

وضحك الجميع وقال سويلم: هذا القماش لا ينفعكم، وأنا جئت به عندكم لأراكم، إنما القماش الصحيح موجود.

– أين؟

وقطبت الحاجة وجهها: أتخون صاحب عيشك يا سويلم؟ ليس هذا ما أعرفه فيك.

– الله يعلم المقاصد يا ستي الحاجة، تأكدي أنني أنا كما أنا لم أتغير، فهذا القماش هو ما تبقى من اختيار السيدات، ونحن نعرف زبائنه، ولكنني أفكر في الست وهيبة وقعدتها في البلد، لا تجد شيئًا تفعله.

– لا تترك الكتاب من يدها.

– ونعم، ولكن النفس تحب التغيير، قلت أعملها حجة وأستأذن حضرة العمدة، ونذهب إلى محلات مصر وتشترين حضرتك لوازمك والأستاذة وهيبة لوازمها، وزيارة وتجارة.

وأشرق وجه الأم وابنتها.

– والله يا ولد فكرة، والحاج مسعود لن يرفض.

ويدخل الحاج مسعود: ما هذا الذي لن أرفضه؟

وحين علم قال: وما له!

وقال سويلم: أحضر سيارة وآتي يوم الاثنين الساعة السابعة صباحًا، نكون في مصر التاسعة.

– وهو كذلك.

•••

حين تقدم فؤاد لخطبة وهيبة أدرك الحاج مسعود أبو عطوان ما صنعه سويلم، ورحب العمدة بالحاج محمدين وبفؤاد ترحيبًا طبيعيًّا عن سليقةٍ مواتية، وقال: والله يا حاج من جهتي أنا لا مانع عندي، فأنت تاجر معروف، والرجل حين يكون له مثل اسمك في التجارة لا بد أن يكون شريفًا يعرف أصول الناس وأصول المعاملة.

– أكرمك الله يا حضرة العمدة.

– ولكنك تعلم أن وهيبة تحمل الليسانس.

وقاطعه الحاج محمدين: والله يا حضرة العمدة أنا الذي جعلته يقعد بجانبي في المحل، بعد أن حصل على البكالوريا، فنحن عائلة تجار من جدود والعلم عندنا هو التجارة.

قال العمدة: ونعم الكلام يا حاج، ولكنني أسأت التعبير وليس هذا ما أقصد إليه، فإنه لا عيب في ابننا فؤاد، والتعليم وسيلة للثقافة.

وقاطعه الحاج محمدين: هذا كلام الكبار والله.

وواصل العمدة حديثه: والتجارة تجعل صاحبها أعظم في عمله من الذي حصل على الدكتوراه، وإنما ما قصدت إليه أنني لا بد أن أسأل وهيبة وأجعلها توافق عن اقتناع.

وقال الحاج محمدين: ونعم الكلام.

– نحن يا حاج لا نستطيع أن نحمل مسئولية أولادنا وهم كبار، يكفينا مسئوليتهم وهم صغار، ولقد أرادت أن تتعلم وأردت لها ذلك في نفس الوقت، وأنا ليس عندي غيرها، وقلت العلم يجعل من عقلها عقل رجل، والآن وقد تعلمت أصبح من حقها على الأقل أن تختار شريك حياتها.

– لقد أوصى النبي بذلك في وقتٍ لم يكن الفتيات فيه عرفن الجامعة ولا حتى المدرسة. متى نرجع يا حضرة العمدة؟

– أسبوع واحد؟

– وهو كذلك.

•••

قالت وهيبة: أكون ليسانس في الآداب وزوجي رجل البيت بلا شهادة جامعية؟

وقالت الحاجة: يا بنتي هذا زواج وليس جامعة.

– يا نينا البيت يجب أن يكون جامعة للأولاد.

– البركة فيك أنت، علمي أولادك علوم المدرسة وأبوهم يعلمهم علوم الدنيا.

وقال الحاج مسعود: يا بنتي لقد تقدم لك الكثيرون من أهل البلد حاملي الشهادات، وللأسف وجدتهم جميعًا طامعين في القرشين، أو يريدون أن يتزوجوا بنت العمدة، والمال زائل والعمودية زائلة، لقد كنت مصرًّا أن يتزوجك من يريدك أنت، وأنت وافقتني ورفضت كل الذين تقدموا، في هذه المرة العريس عاقل وفي غنًى عن مالنا، وعرف الدنيا، وجاء يخطب وهيبة، لا يهمه مالها ولا عمودية أبيها، والأمر من قبل ومن بعد لك، قومي يا حاجة واتركيها تفكر.

•••

وفيمَ أفكر، أخطأني الحب، زميلي عزام أحببته وأحبني، لم يزد الكلام بيننا عن جملٍ تعد على أصابع اليدين، وتركني بعد أن ضاقت به السبل، والحمد لله أنه تركني، لقد تزوج بعد ذلك من ابنة عمه، فهو شاب لا شخصية له، أمره أبوه أن يتزوج فتزوج، ورجل بلا شخصية كالكلام بلا معنى، والأيام تجري، وإن كنت أخفي القلق عن الناس، فهو يمور في نفسي ويثور، يفترسها وينهشها، يقض مضجعي، يحيل ساعات أيامي رعبًا وهلعًا، أي مصير يمكن أن ألقى إليه إذا لم أتزوج، ولا أخ ولا معين على الحياة بعد أبي أطال الله عمره، هذا زواج منطقي لا عاطفة فيه، والعاطفة لا تغتصب ولا يستطيع أن يخلقها إلا بارئ النفوس، وأين أنتظر العاطفة وأين مني الطرف الآخر فيها وأنا حبيسة البيت، فقد رفض أبي أن أعمل بالليسانس وهو محق، فقد سبق عصره حين جعلني أتعلم، وهو الفلاح القح تحكمه القرية بكل أوضاعها، وقد ارتضى على نفسه تشنيع أعدائه، وأي عمدة بلا أعداء، ومن المستحيل عليه بعد ذلك أن يجعلني أعمل أيضًا، وكيف كان يمكن أن أعمل؟ ألم يكفِ أنه شتت بيته أربع سنوات من أجلي، وسمح لأمي أن تلازمني في القاهرة، وهل يمكن أن يشتت بيته عمره كله، أنا لا أستطيع أن ألومه، وليس من المعقول أن أضع ما أصابته مني ظروف المجتمع على كتف أبي، إن تعليمي كان في ذاته شذوذًا عن طبيعة الأمور في حياة مصر، فهل يقبل المنطق أن ألوم أبي اليوم لأنه حقق رغبتي في التعليم؟ أعرف أنها كانت رغبته أيضًا لأنه يريد أن يشعر أن ابنته لا تختلف عن الرجال في شيء، أويحسب هذا له أم عليه؟

ترى هل استطعت أن أخفي قلقي عن أمي، هيهات، إن قلقها هي أشد، وأبي أيضًا يريد أن يطمئن إلى وجود رجل إلى جانبي، وفؤاد يكبرني بعدة سنوات، ولكن أليس هذا هو الرجل الذي يطمئن إليه والدا البنت الوحيدة، إنهما يريدان رجلًا عرف الحياة وعركها، ليكون زوجًا وسندًا، ولا يهمهما كثيرًا أن تتمتع ابنتهما بضع سنوات بزواج شاب يجرب الحياة، ولا يدري من أمرها شيئًا، فهو يقدم عليها إقدام الجهلاء الذين يخيل إليهم أنهم أعلم الناس بكل شيء، أما أنا فقد كنت أتمنى شابًّا نتعرف معًا على الحياة، ونخطئ فيها ونصيب، فأغلب الأمر أن فؤاد على الرغم من عدم حصوله على الشهادة العالية، سيكون بالنسبة لي أقرب إلى المعلم، فأحسب أنني قرأت ما يكفي لأن يجعلني أعرف أنني في علم الحياة لن أدري الألف من الباء.

أيهما خيرٌ لي، أن أدلف إلى الحياة معصوبة العينين لا أحمل إلا علم الكتب، أم أن أسعى إليها ويميني معتمدة على رجلٍ تمرس بها وعرفها وعرفته، أيهما خير؟

وهل يدري أحدٌ أين الخير؟ إننا نتحسب ونقارن ونزن الأمور بقدر ما تسمح لنا عقولنا، ثم يقع الغيب كما قدر له الله أن يقع.

•••

وتم الزواج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤