الفصل الرابع
مرت سنوات وعرفت الشيخوخة طريقها إلى لمبرو، وأصبح سويلم يقوم بكل العمل، واكتفى لمبرو بتسلم النقود والجلوس في محل مارك أخي زوجته المرحومة أتينا، ثم بدأ يتخلف عن الجلوس يومًا أو يومين في الأسبوع ثم ثلاثة، فرحًا بمداعبة مجدي بن سويلم، وحين ذهب مجدي إلى المدرسة كان لمبرو حزينًا في وحدته على رغم وجود نعمات بالبيت، فقد تركت العمل ببيت عدلات هانم قبيل ولادتها، وما لها أن تعمل خادمة وقد أصبح العيش ميسورًا لها غاية اليسر.
لقد جعل لمبرو منها ومن زوجها أسرته، وكان فرحه بمجدي أعظم من فرحة أبيه وأمه، فقد حقق صراخ الطفل في بيته أملًا لم يتصور في يومٍ من الأيام أنه سيتحقق. كان مجدي بالنسبة لأبويه فرحة الشمس تهم بالشروق، وكان بالنسبة إلى فوكيون لمبرو أمل الشمس تهم بالغروب، فهي تودع الحياة ولا تنتظر منها شيئًا.
كان مجدي لأبويه أمرًا طبيعي الحدوث، وكان لفوكيون أمرًا مستحيل الوقوع، وإن لم يكن ولده. نعم وإن، وقد أسماه هو مجدي لا فهمًا منه للاسم، ولكن ليكون نطقه سهلًا على لسانه الأعجمي.
تحمل لمبرو ذهاب مجدي إلى المدرسة في ضيقٍ شديد، ثم ما لبث المرض أن داهمه، وأصبح من العسير عليه أن يترك الفراش، ولكنه هانئ البال مطمئن، فسويلم يقوم بالعمل، ونعمات مقيمة بالبيت، لم يفكر واحدٌ منهما أن يتركه وحيدًا مع مرضه.
وفي يومٍ عاد سويلم إلى البيت مبكرًا بعض الشيء، فلم يجد الخواجة في حجرته.
– نعمات أين الخواجة؟
– أليس في حجرته؟
– ما هذا الغباء، أكنت سألت؟
– لا أدري. أنا في المطبخ من الصبح.
– هل تناول إفطاره؟
– نعم وتناول الدواء، وكانت صحته طيبة، وترك السرير ليجلس على الكرسي، وتركته أنا وذهبت لشراء الغداء وعدت إلى المطبخ مباشرة، وقلت في نفسي إذا أراد شيئًا سيناديني.
ولم يطل النقاش فما لبث لمبرو أن جاء وسأله سويلم: أين كنت؟
– كنت في البنك أسحب قرشين.
– ولماذا لم ترسلني مثل كل مرة؟
– اشتقت أن أرى أصدقائي هناك، ووجدت نفسي أريد أن أخرج.
– أرجوك يا خواجة، إذا أردت أن تخرج مرةً أخرى أخبر نعمات.
– طيب، ولو أنني لا أظن أنني سأخبرها.
•••
مر على هذا النقاش شهر وبضعة أيام، ثم نادى الخواجة سويلم قبل أن ينزل في الصباح: أين ستذهب اليوم؟
– اليوم لن أمر على بلاد، سأمر على زبائن الزقازيق.
– ليس مهمًّا.
– لماذا؟
– أنا أريدك.
– فيمَ؟
– اجلس. خذ.
– ما هذا؟ هذا شيك أبيض، لماذا لم تكتبه؟
– في هذه المرة أنت ستكتبه.
– لماذا؟ أكتبه؟ أنا في حياتي كلها لم أكتب شيكًا.
– اليوم ستكتب.
– أنحبس.
– لن تنحبس.
– أنا يا خواجة لولاك ما ذهبت إلى البنك في حياتي أبدًا.
– ستذهب بعد هذا كثيرًا.
– لا أفهم.
– اسمع. أنا ذهبت إلى البنك آخر مرة لأضع أموالي كلها باسمك يا سويلم.
– ماذا؟
– ولا كلمة.
– ربنا يا خواجة يبقيك، أنت لا تجعلنا نحتاج لشيء.
– ولما أموت؟!
– علمتني السوق ويكفيك هذا.
– ومن يأخذ فلوسي؟
وألجم السؤال سويلم وراح يتهته.
– أنت تأخذ هذه الفلوس، هذا حقك، أنا ليس لي أحد في الدنيا، خمسة وعشرون ألفًا وأربعمائة جنيه.
– يا خبر أسود. أبيض! وماذا أصنع بهذا جميعه؟
– هذا شأنك، وإن كان لي رأي فأنا أرى أن تذهب إلى مصر. وربنا إن شاء الله سيفتح عليك، أنت معك فلوس وتعرف السوق.
– ربنا يطيل عمرك. والله أكذب عليك إن قلت إنني لست سعيدًا، ولكن هذا كله لا يعوضني عنك يا خواجة، يا أبويا لمبرو.
•••
وبعد أيام لم تكتمل شهرًا مات لمبرو.