الفصل التاسع
قالت له في اليوم التالي وهما سائران على شاطئ النيل في المعادي: لقد خُطبت أمس.
ووقف، ثم جلس على الحجارة ثم التقط شهيقًا مروعًا، ونظر إليها: ماذا؟ ماذا قلت؟
وانفجرت ضاحكة. أمزاح في مثل هذا؟
– أنا والله لا أمزح.
وروت له كل شيء وأدرك أنه لا بد أن يتحرك من فوره وإن كانت سميحة تقول له في هدوء: إن الذي حدث أمس كان من المنتظر حدوثه، وربما كان وقوعه خيرًا لنا وأنت لا تدري.
– ربما، ولكن كيف؟
– لقد أدرك أبي اليوم أن مصيري بيدي وحدي، وأنه لا يستطيع أن يرغمني على زواجٍ لا أريده.
– هذا حق والآن جاء دوري.
– لا تتعجل.
– أترضين لي أن تقفي أنت هذا الموقف الحر وأسوِّف أنا؟
– اسمع يا مجدي أنا لست جاهلة، وأنا حين أحببتك عرفتك على حقيقتك، وأنا لست ساذجة لأحبك أولًا ثم أضعك بعد ذلك في موضع الاختبار.
– هل تتصورين السعادة التي أشعر بها وأنا أسمع هذا الحديث؟
– نعم أتصورها لأني أحس بهذه السعادة وأنا أقول ما أقول.
– كنت أحسب أنك أحببتني لأننا نشأنا معًا، ونشأ الحب بيننا وليدًا ثم كبر، العاطفة وحدها هي التي تحكمه.
– مثل هذا الحب يكون حبًّا مخيفًا لا يعرف واحد منا عواقبه، أنا كنت أراقبك في كل مراحل حياتك منذ بدأت أعي وتذكرت وأنا عاقلة ما كنت تصنعه ونحن أطفال و… و… وأحببتك، وأعلم أنك صنعت معي نفس هذا الصنيع.
– أنا أحببتك؟
– ودرستني كما درستك، لست أنسى ونحن أطفال يوم قذف سيد المدبولي الكرة بقدمه فكسرت زجاج بيت جميل بك، فتقدمت أنت إلى البواب وقلت له إنك أنت الذي كسرت الزجاج وإنك ستدفع ثمنه؛ لأنك تعلم أن والد سيد المدبولي سيضربه وأنه لا يطيق أن يدفع ثمن الزجاج.
– ياه أما زلت تتذكرين هذه الحكاية البسيطة؟
– ربما كانت بسيطة لو صنعتها الآن، أما ونحن أطفال فهي ليست بسيطة.
– وأنا لا أنسى حين نزلت من قطار المعادي ولم تكوني تعرفين أنني فيه، ولا كنت أدري أنا أنك معي في القطار، وتقدم منك فكري يريد أن يحمل كتبك ويسير معك حتى البيت، فإذا أنت ترفضين وتتركينه يمضي.
– أكنت وراءنا؟
– تخفيت عنكما ورحت أرقبه وهو يمضي، ورأيتك أنت تتمشين على الرصيف فترة، ثم تأخذين وجهتك إلى البيت، أدركت أنك قلت له إنك لن تذهبي إلى البيت حتى لا تخجليه، وفي نفس الوقت رفضت أن تسيري معه وحدكما.
– وأشياء كثيرة رأيتك فيها إنسانًا ورجلًا، لم تحاول أن تحقق ذاتك بشعارات وإنما حققت ذاتك بالدراسة، ولك آراؤك الوطنية ولك إيمانك الديني، لم تحاول أن تتطرف أو تتظاهر بالعلم أو بالبطولة وتتكلم، فأعلم أنك تقرأ كثيرًا دون أن تدل على الناس أو على أصدقائك بأنك تقرأ.
– وأنت ألا تفعلين هذا؟
– وأعرف أنك تعرف.
– ويصدق علينا قول الشاعر:
– وشعر أيضًا؟
– بيت واحد من نفسي.
– نعود إلى البيت.
– أمرك.
•••
مر يومان على هذا الحديث، وكان مساء جلس سويلم فيه ونعمات يشاهدان التليفزيون ومعهما مجدي صامتًا، وفجأة قال لأبيه: ما رأيك يا أبي في وظيفة معروضة عليَّ بالسكة الحديد؟
وفوجئ سويلم بالخبر وقالت نعمات: ألف مبروك، ألف مبروك يا باشمهندس. أزغرد، ابني أصبح مهندسًا في السكة الحديد.
وأتاحت الجملة لسويلم أن يفكر قليلًا ثم قال: متى عُرضت عليك؟
– اليوم طبعًا، وهل يمكن أن أخفي عنك شيئًا هامًّا كهذا؟
– وأنت ما رأيك؟
– أريد أن أعرف رأيك أولًا.
– ألم تقل إنك تريد أن تفتح ورشة؟
- الآن؟ لا يمكن، أنا سأعمل بعد الظهر في ورشة الأسطى داود الميكانيكي بالمعادي.
– أنت يا باشمهندس تعمل بورشة مع أسطى؟
– الذي تعلمناه في الكتب شيء والحياة شيءٌ آخر، أيرضيك أن أتعلم الهندسة في سيارات خلق الله.
ولم يملك سويلم نفسه وقام إلى ابنه وهو يقول له: قم، قم، قف على حيلك.
وظنت نعمات أن زوجها غاضب فصاحت: انتظر يا سويلم بالهداوة، بالراحة يا سويلم.
وأعاد سويلم الجملة: قم قلت لك.
ووقف مجدي ذاهلًا وإذا سويلم يقول له: ادخل في حضن أبيك، أنا اليوم عرفت أنني خلفت رجلًا لا طفلًا.
وزغردت نعمات دون أن تدري لماذا واستطرد سويلم: كنت أخاف أن تظن أنك ما دمت حصلت على شهادة الهندسة ستحتقر الأسطوات، وتقول في نفسك إنك مهندس، وإنهم لا يعرفون ما تعرف، أنا الآن مطمئن إذا مت هذه اللحظة.
وتقاطعه نعمات: يا أخويا بعد الشر إن شاء الله العدو. أهذا وقته.
ويضحك ثلاثتهم ويعودون إلى مجلسهم، ثم يقول مجدي: ما دام الأمر كذلك فأنا أريد أن أتزوج.
وتسارع نعمات وتضع يدها فوق شفتها العليا متهيئة لزغرودة أخرى، فيقفز مجدي في هذه المرة ويضع يده على فم أمه: في عرضك يا ماما الذي لم يسمع الأولى قد يسمع الثانية.
ويقول سويلم: وما له؟ خلي الدنيا كلها تسمع.
ويجلس مجدي في هدوء وهو يعلم أنه سيقول كلامًا لن يرضي أبويه كل الرضا.
– فقط اسمعا الحديث لآخره.
– وما له يا نعمات انتظري بعض الشيء بزغرودتك، يبدو أن في الأمور أمورًا.
قال مجدي في هدوء: ما رأيك؟
– وهل قلت شيئًا؟
– قلت إني أريد أن أتزوج.
– الشقة موجودة والمهر موجود والعروسة …
وهنا قاطعه مجدي: ليست موجودة.
وصاح الأبوان كلاهما معًا: ماذا؟!
واسترسل مجدي: أنتما لا أنا خطبتما إلهام، وأنا لا أريد أن أتزوج إلهام.
وصاح الأبوان مرةً أخرى: ماذا؟
وقال مجدي في هدوء: هل قلت لك يا بابا أو قلت لك يا ماما إني أريد إلهام، أو إنني معجب بها؟
– حسبنا أنك …
ويقاطع مجدي أباه: إنك حسبت يا بابا ليس هذا ذنبي.
– يا بني هذه عشرة عمر، وأبوها أكثر من أخ وجدها له فضل عليَّ وعليك، لولاه الله وحده يعلم إلى أي مصير كنت أسير.
وتقول نعمات: أين أودي بوشي منك يا وهيبة؟
ويلحق بها سويلم: ووهيبة هذه ابنة عمدتنا وأنا الذي زوجتها.
ويقول مجدي: وهل ترى أنك ما دمت زوجت الأم لا بد أن تزوج ابنتها أيضًا؟
– لا أقصد.
وتقول نعمات: ولماذا لم تقل هذا من زمان يا ابني؟
– وهل سألني أحد منكما؟
وينظر سويلم إلى نعمات وتنظر هي إليه ويقول سويلم: ألم تسأليه؟
فتقول في ذهولٍ يحتويها: وأنت ألم تسأله؟
– كنت أظن الأمر منتهيًا.
وتقول نعمات: أنا كنت أظن الأمر منتهيًا.
ويقول مجدي: أيصلح الظن في هذا؟
ويقول الأب في جِدٍّ وعيناه متفتحان والدهشة لا تفارق وجهه: أظن لا.
– فأنا لا ذنب لي إذن.
وتقول نعمات: ماذا أقول لوهيبة؟
ويقول سويلم: وأنا ماذا أقول لفؤاد؟
ويقول مجدي: ألست تحبين عمتي وهيبة يا ماما؟
– روحي من جوه.
وينظر مجدي إلى أبيه: وأنت يا بابا ألا تحب عمي فؤاد؟
– أنت تعرف.
– أيرضيكما أن تزوجا ابنتهما لرجل لا يريد الزواج منها؟ أتعتبران أن هذا حبًّا أم كرهًا لعمتي وهيبة ولعمي فؤاد؟ ماذا كنتما تصنعان لو أردتما الانتقام منهما أكثر من ذلك؟ افرضا أنني وافقت من أجلكما ومن أجل الصداقة التي تربط بينكم، أيرضيكما هذا لإلهام نفسها؟ لو كان لكما بنت أترضيان لها هذا؟
وساد صمتٌ مطبق ثم قال سويلم: في هذا الزمان الأب لا يستطيع أن يزوج ابنته فكيف يمكن أن يتدخل في زواج ابنه؟ نحن نربي ونكبر ثم لا رأي لنا بعد ذلك، نحن لا لزوم لنا، نحن نصنع فلوسًا فقط، نحن عقليات أكل عليها الدهر وغسل يديه، ما دام الولد أخذ الشهادة فما حاجته إلينا، نقدم له المال بضع سنوات أخرى ثم يستغني عنا وعن مالنا جميعًا، وإلى الجحيم آراؤنا وإلى ستين جحيم صلاتنا بالناس وحسبنا الله ونعم الوكيل، قومي يا نعمات نروح حجرتنا.
وتقوم نعمات وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، عين وأصابتنا والأمر لله من قبل ومن بعد، حسبي الله ونعم الوكيل.