كتاب المحبة والزوال
يندرج هذا الكتاب في خط أعمال ثلاثة سبق أن نشرناها في العناوين التالية: «كتاب الضفاف» (٢٠٠٢م)؛ «كتاب الذات ويليه كتاب الصفات» (٢٠٠٤م)، وثالثها «جمر بارد» (٢٠٠٨م) مثَّلت مجموع مقالات ونصوص (بين المنشور والجديد) كتبناها في أوقات وظروف شخصية واجتماعية وإنسانية متباينة، عشناها وتفاعلنا مع أحداث وقضايا محددة فيها، وانعكس جزء منها على مرآة النفس، نفذت عميقًا بداخلها، تشربتها وعادت ترسلها مغموسة في شجونها، في إهاب أسلوب وقالب أدبيين، مما أصبح سمتها الرئيس، وجعلها تتميز في نظر قرائها المحترفين والهواة على السواء، بكونها كتابة أدبية منظمة ومتفتحة.
إنه إلى جانب ما نكتب من قصص وروايات ودراسات نقدية، وجدنا ظروف ومقتضيات الحياة تُلقي بنا في خضم العمل السياسي تارة، والمراس الصحفي تارة أخرى، والتنقل بين البلدان، وسُكنى الأحضان طورًا، مما كان له أقوى الأثر على النفس، واستدعى حديث الوجدان … هذا كله، أكثره وأقله، وغيره مما يطول شرحه، حملناه وتحمَّلناه نشجناه، وعدنا نسجناه وأنشدناه، وهتفنا به حتى صرخنا أحيانًا وما بحَّ الصوت، ولا فتَّ العضد. نقول إنه إلى جانب ما كتبنا في الأنواع الأدبية المنضدة، والبحثية المنظمة، انغمسنا في شئون تطلبت التعبير الراهن، والموقف العاجل من الحدث الساخن، وإرسال الكاتب للقول المرغوب في الوقت المطلوب؛ فالكاتب العربي لم تبلغ بلدانه وشعوبها تلك الدرجة من الحرية والتقدُّم، وعمومًا المتطلبات الأساس لحقوق الإنسان كما أدركتها أمم وشعوب ومدارات حضارية هي التي نُدير نحوها وجوهنا صباح مساء مقلدين ومستلهمين وتابعين؛ لنقبس منها أقل شعاع ليهدينا فيما نحن فيه من ظلمات، وأي ظلام (!) ليُحس بأنه مُعفًى من الاهتمام باليومي، مكابدة الهم الوطني، والانصراف وحسب إلى تأسيس عالمه الأدبي وترسيخ عمده، بما يُرضي الأدب ونوازع الذات. هذا الإحساس، ولو الوهمي، برسالة الكاتب في بلداننا المتردِّية يواصل حضوره في اهتمامه بكيفية ملحَّة، خاصة أنه يجد دائمًا ما يستدعيه ويبرره حتى ولو أن الحبل بات في الفترة الأخيرة ملقًى على الغارب، وانفرط شمل الكتَّاب العرب المتضامنين حول قضايا مجتمعاتهم ومعوقات أمتهم، إما لفائدة تأجير أقلامهم هنا وهناك لما يُدرُّ الفائدة، ويُجنِّب الملامة في آن، أو لأنهم يستسلمون تباعًا لمحبطات اليأس والتواري نتيجة تكالب قوى القهر السياسي والربح المركنتلي الكاسح، وشبه انهيار القيم الرمزية الرسولية.
لنعتبر كتابنا هذا، إذَن، في جزء منه محاولة أخرى من هذا القلم المتواضع كيلا تسقط الراية، ومن أجل الانتصار لثقافة المقاومة، باعتبار الأدب والثقافة عمومًا مقاومة عظيمة للفساد والظلم والاستبداد، والصوت الذي لا غنى عنه لقول الإنسان من الأرض إلى الأرض قبل أن يتأمل القمر ويبوح للنجوم. وهو في جزء آخر «حديث الروح للأرواح يَسري»، كتابة يقول مُنشئها بها وفيها ذاته، منفعلة بذوات، ومتشبعة بأشواق ورغاب، كما هي تخوض في بحر لجَب من أسماء وأماكن وأوقات، تتعين مرة حدَّ التشخيص الكامل، وتتجرد معنًى ومبنًى في محفل الصور والاستعارات، تَرى قولها يقيم في التراوح بين المعطَى والمخفِّي، المهموس والمحسوس، وهي ترفل في دثار الشِّعر، نرسله من غير أن نجنِّسه، وذلك من كثرة ما رأينا ونرى هذا التعبير السامي يُبتذل في أيامنا التعيسة هذه. لقد أحببنا في غير مكان أن نترك الكتابة تأخذ المسار الذي يناسبها، ويوافق في الشكل مرامها، بناءً على تعريف العرب للبلاغة بوصفها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهكذا سيجد القارئ أن النصوص المعروضة هنا تميل جلها إلى العبارة الشِّعرية، إما جلية تمامًا، أو تستعير نكهتها وتتلون بقَوزحها، وهذا ما يواتي الجمال الذي نبحث عنه، أما الكمال فذاك ما لا يبلغه الإنسان، ومن حسن الحظ أن من ديدن الأدباء التنافس لعلوِّ الكعب في هذا الباب؛ فيُغنون اللغة وسجل الأساليب وديوان البيان، وإلا فلا قيمة لأدب لا يسمو به صاحبه إلى ذُرى القول الجميل، ترى المعنى والشعور يشمخان بألطف عبارة وأبهى مبنًى، وفيما تكون الكتابة أداة تبليغ، وواسطة رسالة وقصد، تُضحي قابلة لتؤخذ في ذاتها، وتتجلى للعيان في أحسن قوام، تصقل العين واللسان، وتُرقِّي الذوق، بعد أن شفَت حرقات النفس وجوى الوجدان. وإنا لينبغي أن نحتفل بالأدب في كل وقت، ونستمر نلوذ به خاصة وقت تردِّي الأذواق، وابتذال الأحاسيس وسوقية الأقلام. لا فرق عندنا بين نصٍّ يُنافح عن قضية اجتماعية، كأن يشجب ظلمًا أو يناهض مفسدة، أو يدعو إلى إصلاح الأمور في هذا الشأن وذاك، وبين مقال قد يُوحي لمن ليس وثيق الصلة بالقول الفني أنه مُزجًى للعواطف أو لمشاعر مترفة، ونزوات عارضة، لعَمري لكَم تعدل الأخيرة سابقتها، بل تفُوقها قدرة علي نقل الدفين، والبوح بما في النفس البشرية من لوعة وحنين، تتضمن الإنساني كلًّا، تفي بحق الجزئي العارض، والجوهر الفريد لها مكمن وموقعه مكين.
وبعد، لقد قمنا بتوزيع كتابنا إلى مجموعة محاور، كل واحد منها يستقطب تيمة، أو بؤرة شعورية، أو رؤية عن الحياة، أو مرجعية تذكارية هي جماع المنظورات ومنطلقها الأول.
في هذه المحاور تشغل الذات موقع الصدارة، المرصد والموجه، أكاد أقول البدء والختام، فيما تلتحم في نسيج نصوصها عناصر وتخوم القرب والبعد الطافحة في الوجود، المؤسسة لماديته الصرف، فأيُّ ذات، خاصة المنشغلة بتفاعلها المؤثث الخارجي، بشرًا وفضاءً وهمومًا، الطامح صاحبها لصوغها بكيمياء فنية، لا يمكن أن تنفصل عن محيطها أو ترقى إلى نضج يصونها من أنانية محدِقة ونرجسية خانقة، رغم أنها طبع الإنسان، كيف بالفنان، إن هي لم تنغمس في الحَمية الكلية للمعضلات الإنسانية، وتتمثلها قلبًا وقالبًا. من هنا النبرة البوحية والعبارة الشعرية، وهي أيضًا طريقة تفتح أمام الكاتب سبلًا لم يطرقها بعد، ويجرؤ على اقتحام قواعد الترتيب الأجناسي، ومعناه أننا نسعى إلى جانب كل ما سبق أن سجلناه وألمعنا إليه، إلى مواصلة مشروع في تجديد أسلوب، وتحوير وتنويع طرائق وصف وسرد، وعمومًا جعل النص مسرحًا للاحتفال بالكتابة والابتهاج بوشيها وارتشاف رضابها، بعد الاستدلال بمعانيها والتشبع بإرهافاتها، ذلك أن خط الأدبية كان وما يزال هاجسًا لا نفترق عنه إلا لمزيد اعتناق لمذهبه، وشديد توكيد لأدواته ونطبع بخصائصه ما ينبغي أن يسم كتابة بعينها، ويسمح لكاتب أن يتسمَّى، أو إنه يتفرق في شتات الكلام وعمومه إذ لا أدب إلا بما هو خاص.
ولعل ما يجعل هذا الكتاب خاصًّا أكثر، سواء في مسار مؤلفه، أو مدار اهتمامه، وكذا أفق تلقيه، أنه منغمس في تجربة حياتية ووجودية كلية، انغماس من عاش وجرَّب وامتلأ وأثخن بالجراح، حتى لتغدو النصوص أقرب إلى النزف، للذات والذوات الثاوية فيها المحيطة بها والأماكن والأزمنة، تقرع جرس الزوال منذرة بالنهايات، إنما بمأساوية جمالية وحس دهشة ووقار، وهذا في ظني جوهر كتابة تنبذ التفاؤل الساذج وتبقى مفتوحة على قلق السؤال.