رحلة ذات بين الفصول
فصل الشتاء
لست معنيًّا باليأس — لو افترضنا أن له معنًى مشتركًا بين الناس — لأن بيننا سباقًا قررت ألا يهزمني فيه، وإلا أكون قد مت وعندئذٍ ينتفي السؤال. إن الرجفة الفعلية هي تلك التي تتقدم خطوة سأقدم عليها، ما أتصوره نصًّا أو لحظة استثنائية، مثلًا، وسوى ذلك قلق هو ما يعطي للوجود معناه، وللحياة طعمها، وللإبداع مداه بانتصاره على «يأس» الفناء.
لا أغتاظ كثيرًا من الشتاء، فبيننا تآلف وتساكن سببهما أننا جُبلنا من عصف واحد تقريبًا مع فارق هام، وهو أن الشتاء يمضي وتظل عواطفي — لا أستطيع أن أعرف حقًّا ما هي — ملتهبة ورياح وجداني ووعيي ووساوسي وحنقي على وجودنا الذي لا يتوقف عن الانهيار؛ تظل جامحة. ما يؤرقنى حقًّا هو أن أعرف متى سأهدأ، ولن أعرف، لأني وقتها سأصبح آخر، أي سأزداد ضياعًا …
حياة المرء مثل سماء تتناوب عليها الأنواء؛ ثمة غيوم النفس الحزينة تدمن حزنها، وبعض غيوم العيش العادية، وغيوم كثيفة لأمة وبشر وثقافة وإنسانية تنهار، هي أجمل ما فات ولن يعود، وغمة في النفس لن ترفع، إن رفعت، إلا في غدٍ لن تراه … فواحسرتاه!
هي ما عنيت وما لا يُسمى وما يظل يضطرم في السويداء. أحسب أن الإنسان لا يواصل الحياة إلا بسبب وتحت ضغط الصراع المحتدم الذي يعيشه، أولًا، بينه وبين نفسه، وثانيًا، إزاء المحيط الخارجي المنسجم، فقط، في خداعه وفجاجته. منازلة بلا نهاية أو إلى النهاية.
الصقيع ليس صورة، هو طقس يأكل العظم وييبِّس الجلد. عرفته للمرة الأولى وأنا تلميذ في مدينة فاس، خلال شتائها المستحيل، وكان الزاد قليلًا فتعلمت الصبر، وصار كل صقيع عشته بعد ذلك، في باريس عمرًا، وفي موسكو، وبكين، وبلدان أخرى، مجرد ذكرى. أما صقيع الروح فلا ينتهي حين يخلو القلب من الحب، فيسري الوهن في الجسد والنص معًا.
عندي غابة في حناياي اسمها الذكرى، أحتطب منها كلما اشتد زمهرير العمر، وأملك رصيدًا لا يفنى من لهفة الشوق، وأشعل حولي دائمًا حريقًا من الحنين، وأحب أن أولم للأصدقاء، وأنسى مؤقتًا أن «الفرح ليس مهنتي» ولا الثورة، أيضًا، وآخذ الكتاب بقوة.
فصل الربيع
هو حب أمي لي، وحيائي من أني لن أضاهيها فيه، فيزداد حبي لها أكثر … آه، بعد فوات الأوان! وافتتاني بالحياة نفسها، بدوام دهشتي فيها وعناد الوصول إلى الاستثنائي والنادر في ركام الرتابة والابتذال … وفاتنة في الحي «وأخرى تداويت منها بها».
حين أرى الأطفال يلعبون ويمرحون ويضحكون. عندما يسقي الله عباده ويغيث بهيمته بعد طول جفاف. حين يحضر عندي طلبة جدد في مطلع العام الجامعي، وأرى في عيونهم تطلعًا إلى المعرفة وفي وجوههم نضارة الحياة. كلما رأيت يدي أصابع امرأة ورجل متشابكة فيرفرف طائر في قلبي.
هو الإنسان الذي يمضي قدمًا بإرادة صدقه وعزيمته ووفاء لمُثل لا يهمه أن يتنكر لها الجميع. البسيط المتلفع بصمته، غناه في داخله لا في رصيده البنكي. الذي لا ينسى حين يمر بمشتل أن ينحني مبايعًا الورد. من يعتبر أن الشعر أقوى من الجبروت والاستبداد … وذاك الذي يتخطى النمل فلا يدوسه، يتركه يكدح خارجًا من الشتاء ليتنسم الربيع.
في التبدل السري والحثيث للفصول وخاصة الخريف. تعلمت في باريس وضواحيها ألوان ومفردات الزمن الطبيعي. حين تبدأ العصافير في الرجوع وأتقاسم معها فطيرة الصباح. هناك أشجار كأنها تستأذنني بالرحيل. الفرح المذهل لزهور تتفتح بالدفء والتغريد العائد. أن تكون في دمشق أو بغداد، تشم الشمس، وتحس أن الشمس عربية.
هي شقائق النعمان، لا وصفًا أو استعارة ولكن من طفولتي البعيدة حين كنت أقطفها من الحقول، في برشيد حيث ولدت وظللت متعلقًا بها كرمز للجمال والزوال. كلما نظرت إلى لوحة كلود موني «شقائق النعمان» تزداد دهشتي من قدرة الفن على التفوق. ولكل موسم من حياتنا زهرة، وأجملها غدًا زهرة السكينة.
هذه خصلة تدغدغ الكتاب والناس عامة، وهي مصيدة لمن يقع فيها. تراه يخسر ذاته في معرض الفرجة، أي يفشل. أُومن بتوافق الإنسان مع ذاته وإخلاصه لما يريد، ولمن حوله طبعًا، وأن ينسى بعد ذلك صغار الأمور ليبقى جديرًا بحب كل أولئك ممن وهبوه نعمة الحياة، أو علموه حرفًا، أو سكبوا في روحه كلمة السر، الدليل الأقوى لنجاحهم، أما أنا فأووف …!
فصل الصيف
«لا أحب الانتظار. يمضني. فيه بعض شقائي. أُصبح آخر بسببه. أتبعثر. أفقد نقطة ارتكازي … المفترضة. أعرف أني سأتغير قبل حلوله فينقض عليَّ دفعة واحدة. جذبتني مارغو إلى أحضانها فسألتها همسًا: «خبريني، هل تأخر أم مضى؟» تساءلت بمكر: «ماذا تقصد، هل تعني أنت أم حبنا؟!»» (من قصة لي بعنوان: «اسم الغائب».)
أرحب بكل صراحة صريحة، أي مقصودة لذاتها. هناك من يلتمس إلى الصراحة لغة ونبرة التجريح والإسفاف ومثله. من هنا بعض أهمية الأخلاق والأسلوب في الحياة. بدون أسلوب لستَ أنت صريحًا أو كاذبًا أو مداهنًا، وخاصة بالنسبة للكاتب وللمحب، أيضًا. طبعًا يتوقف الأمر على الموهبة والشجاعة وأن تتطلع دائمًا إلى أفق بعيد … هناك!
حين أشعر أني أنجزت ما ينبغي بما يرضي ضميري. حين أجد الكلمات والصور المناسبة لقول ما أريد. وحين ترخي الصداقة ظلالها فيسترخي الأصدقاء في فيئها بلا حساب. وكلما تذكرت طفولة كانت صافية وغدًا لأمتي ربما صار أبهج … ويا إلهي حُبًّا نأى أظنه يطرق الباب فأهبُّ إليه ﻓ…
من قال عنه الشاعر العربي: «أعلِّمه الرماية كل يوم/فلما اشتد ساعده رماني.» العقيم الذي يعاند عبثًا في حلبة الموهوبين. والذي يمشي في الأرض مرحًا. وجميع الذين يستبدون ويسرقون حقوق الناس، والدجالون، المحتالون في كل ميدان. والذين يدوسون على النمل ويضربون الكلاب في بلداننا. أخيرًا أنا لا أكره وإنما أحتقر وأحذف، لكي أنسى … ربما!
إذا جاز لي أن أسمِّي الأمر كذلك وأتوافق مع منطق رفضته أعلاه، فسأتذكر أن المرحوم والدي عاد مساء يوم إلى البيت وبيده جريدة العلم المغربية — كان ذلك في نهاية الستينيات — فرأيته متهللًا شديد الانشراح وما هي إلا دقيقة فرد! إثرها الجريدة التي نشرت لي قصة بسيطة واسمي بلقب أبي — وهو خريج جامعة القرويين — مرصع في أعلى الصفحة، ومن يومها وأنا أحاول أن أبقى وفيًّا لروح ورضا ذلك المنشرح، رحمه الله.
فصل الخريف
بداهة الذي لا يعرف معنى المودة. الذي لا يقرأ. لا يتألم من شيء ولا يأبه لشيء. من لم يقتنِ باقة ورد في حياته. الذي يمشي دائمًا منحني الظهر غير منتبه أن السماء فوق رأسه — العبوس القمطرير — من لا يعرف من الألوان غير الأبيض والأسود. الذي لم يغامر أبدًا.
الطبيعة أقوى من الإنسان رغم أنه أمضى حياته على الأرض يحاول تطويعها، وحتى قبل أن أبلغ ذاك الخريف؛ فإني لا أتهيبه وأستعد لملاعبته وإرجاعه إلى صباه لو أمكن. المفارقة أن هذا الموسم ليس بداية الخرف أو الذبول، كما هو المزعوم، بل منطلق إدراك الوعي بالحياة والعض عليها بالنواجذ. العري والنحول هو استعداد للوثبة القادمة. يقول هيرمان هسه إن خريف العمر ينبغي أن يُستحق، وهو أعظم محطة في الوجود، ودون ذلك لن نعرف قوة الشباب؛ عندي أن كل شيء ينبغي أن يُستحق وإلا فهو العبث.
هناك الحلم بمعنى التمنِّي والأمل في تحقيق أشياء صعبة أو باهظة أو الوصول إلى مركزٍ ما، وهذا فعلًا هش. وهناك منامات الإنسان وليس أفضل من فرويد مرجعًا في هذا الباب. ثم إنني تساءلت كيف أن أحلامي قلَّت في السنين الأخيرة؛ فلم أجد تفسيرًا لذلك سوى أني صرت غارقًا في الحلم تأخذني إليه شخصيات وعوالم قصصي ورواياتي؛ هذه التي جعلتني أزداد اقتناعًا بهشاشة الواقع.
انتفاضة الدار البيضاء في ٢٣ مارس ١٩٦٥م؛ ثورة البولشفيك بزعامة لينين، ثورة الضباط الأحرار في مصر، نداءات عبد الناصر: «يا جماهير أمتنا العربية»، قصيدة كوليرا لنازك الملائكة؛ ديوان «لن» لأنسي الحاج، و«إنها لثورة حتى النصر!»، وكثير.
كنت في الرباط حين حل أوانه فتأجل، من أجلي تأجل الخريف. هو احتفال يعتريني ليهيج حواسي. تهيج من فرط الرؤية، من فرط اللون، من فرط ورق الشجر. وأنت يا نهر السين امشط سالف مائك في صباحة محياه، بألوان هذا الورق الماجن. وانحنِ له في «منتزه مارس» الباريسي؛ حيث كان ينتظرني لأجمع الأصفر والزعفراني والأرجواني، وخفقات قلبي الواقعة من شدة الحنين، ولكي أزداد إليه بالشوق ضرامًا، وكل حرائق العمر منه مضرمة … فإن وصلت يا خريف إلى هذا الحد من القراءة اعلم أني صرت من رماد، فاجمعني وكلماتي واختر موقعًا ينفسح فيه نهر السين وانثرنا لنستجير بالماء بعد أن جربنا الكي الذي قيل، والله أعلم، إنه آخر الدواء.