نص في حب العرب
كنت أدخل من قبل إلى الشرق العربي من بوح شهرزاد، ثم من بغداد، قبل أن يفسق فيها الغزاة، ومن قاهرة المعز اليوم بلا عز، ومن بيروت قبل أن تبور، فصرت آتيه من سماء عمَّان، أنزل كل عام بمطارها الفسيح موشحًا بالضوء، والشمس رأسًا تفرش على بشرتي الطريق، ما ألبث أن أشم جلدي، ومن طعم مميز للهواء أعرف أني وصلت إلى بلاد العرب.
كل من يقصد عاصمة يعلم سلفًا أنه ذاهب إلى بلد محدد، بالجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية؛ فإن كانت عربية تراه يزيد إلى هذه الخطوط علامات إضافية ضرورية، يفرضها عليه وعيه ولاوعيه، حتى إنه — مثلًا — لا يقتنع أنه واصل إلى البلد بالذات إلا عندما يدخل إليه من باب واسع أو ضيق، بمعنى أن حيازة بطاقة السفر، والتأشيرة إذا وجدت، لا تضمنان إلا احتمال الدخول، ذاك الذي يبقى متوقفًا على من يهش في وجهك ويبش، أو يلاقيك بعبوس، وأحيانًا، كما رأيتُ ذلك بأم العين في محطة حدود عربية برية يرمي للواقف جوازه بين قدميه، ثم يأتي ليدوسه عمدًا ويدعوه تحديًا أن ينحني لحمل جوازه، أو سيعيده من حيث أتى!
أما أنا فقد تعودت القدوم إلى عمَّان، لا الأردن بالذات، من غرب الدنيا، باريس تحديدًا، فأحس فعلًا بأن الأرض تدور، وأفهم معنى الدوران، وأشعر بأن حضني يمكن أن يصير بسعة الأرض وكواكب مجهولة لي حين أجد أحضانًا فارهة تنتظرني، ووجوهًا مضيئة كالمصابيح تنير الطريق بين المطار والمدينة، وأخرى بانتظاري من بين شفيف الشبابيك. لم أتصور أن تتملكني أبدًا، وأن تتحول عندي هذه المدينة بالذات إلى منتجع سنوي شبه ضروري، أنا الذي، ولا فخر، ألفت مدن الغرب ببذاختها ومدنياتها الفائقة، حتى إنها أفسدت الود بيني ومدن وطني.
في البداية لم تكن عمان، عندي على الأقل، أكثر من معبر إلى العراق عندما أصبح تحت طائلة الحظر الدولي سنة ١٩٩٢م، وصعدًا، إلى أوان احتلاله من الغزاة الأمريكان، وتنصيبهم لشرذمة عملائهم. تصل الطائرة من الرباط أو باريس، فأنهي إجراءات المطار، ثم أغادر سريعًا إلى وسط المدينة، إما لقضاء الليل في انتظار الصباح، أو إلى محطة العبدلي رأسًا لاقتناء سيارة تنقلني إلى بغداد، التي كانت أمس بالإنسان وفي الزمان والمكان، وصارت اليوم في خبر كان. بين الوقتين أعبر عمان، أو أدخلها والوقت ظلام، وهي في سُبات، وحين كان يتأتى لي الخروج في ليلها فمتسللًا دومًا تحت جنح الظلام، كاللصوص والمهربين، وما أنا إلا أهرب عواطف ومشاعر محبة أحترق بها وأخترق سياجات حدود عربية أضحت شائكة الاختراق على أبنائها، ميسرة على الأجنبي وكل محتل غاشم. أركب سيارة الأجرة أولًا فتنهال على تباعًا أسئلة السائق كأنه يريد أن يفتح لي محضر شرطة، تصل أسئلته إلى آخر فرد لم أسمع به من سلالة آيلة إلى الانقراض. يظل يلح وأبقى ممعنًا في الصمت إلى أن يهديه الله أو لا يهديه، وفي الحالين لا يفوز مني ببنت شفة؛ لأن الصمت أجدر بي إلى أن أفوز بلقاء من شددت الرحال من أجلهم، وقمين بي أن أتكئ على هذا الجدار، جدران المدينة وأبهائها، وبيوتها، إلا مضاجعها الخلفية ربما، مقيمة فيه، إلى أن ينبلج فجر يوم جديد تتسامع فيه أبراج المآذن، تهز الأحياء والأموات تدعو كالنفير إلى صلاة يردد المؤذن ويعيد على السامعين أنها خير من النوم!
وها العراق مضى، لن يستعاد إلا بزوال الاحتلال، وخسوف الأنذال، ومن حسن الحظ أن الأردن باقٍ، سيبقى، وعمان جوهرته الهاشمية. هي مدخل شرقك الجديد، وأنت تصنع لك فيها الجغرافيا التي هي أبعد عن سياسة الجغرافيا، وأدنى إلى سياسة القلب، تهمس بينك كأنك تبوح بسر إليك: أريد أن تكوني مدينة روحي التي أضعتها في مدن قبلك، فلعلك تستردينني وإياها، لعلك؟ لا تراها تمانع، تنبسط أمامك الأرض بطاحًا، تمتد في سفوح تسعى إلى أن تتأمل تربتها فتنطوي في تلال، ثم أخرى تعلو التلال، ومن حيث لا تفطن تجد أنك انخرطت في السيل العرم؛ طرقات وأبنية وبشر، وهذا هدير كالشلال. وبينا أنت فيها يعتريك لحظة شك في أنها تفلت من الحس والبصر، هل لأنها ما تنفك تكبر وتتبدل اتساعًا ومعمارًا، وهو صحيح، أم لأنك أنت لا تريد أن ينقطع بحثك عن المدينة نفسها، شأن مقاوليها، نوعًا ما لا ينتهي حفرهم وانتزاعهم لأراضي البناء في جبالها، يشقونها شقًّا، يا للأرض المسكينة لا تهجع أبدًا (!) بينكما فرق أنهم يضاعفون رقم المعاملات في البورصة، وأنت تضاعف أسهم الشجن والذكريات.
لكن، ما هذه المدينة التي كأنما وجدت في الطبيعة لتعاند السماء في علوها، وتغيظ الأرض في انحسارها عنها، تواصل بعتوٍّ ارتفاعها، كأن جبالها، ويحها، لا تكفيها، وهي تتمادى، تحسبها تبغي تركيع رجالها، فيما هم سادتها وعمادها. وإلا، ما صخرها العنيد، وبنيانها العتيد، حدًّا يدعوك لتسأل هل ليستفز الروح من خارج، فتأوي سريعًا إلى داخل، أنت الغريب الباحث في كل صقع عن نسيب. ما هذه المدينة تبدأ موجات، تتشكل سنامات وهوادج، لعل بُناتها يستحضرون بين الصعود والنزول مسير القوافل الغادية في كل اتجاه، تشد النوق بأعناق بعضها، والحداء وحده يشجيها ويوحدها، بينما تغوص في رمل كان في قديم الزمان تحتها، ونهر جرى بينها، قربها، وأنت تطأه اليوم تظن أنك تسمع خريرًا لسراب علا وجهها وقلادة دم حرون وشح نحرها، ما أهولها هذي الأرض يسري في أحشائها نهر اسمه السَّيل، كان سيلها، واليوم أمسى له الأسفلت غطاءً فسُمي سقفها.
المدينة مؤنثة بالتسمية، هل كل مدينة أنثى؟ يتوقف ذلك على حيث أنت، الموقع والهوية والثقافة، وبما أن السائد في ثقافتنا العربية الإسلامية يقمع المرأة، عمومًا، ويضعها في مرتبة دنيا، أو يخفيها تمامًا باسم الدين حينًا، والحشمة حينًا آخر؛ فإن عمَّان وهي تعرض تضاريسها في جسدانية أنثوية تتموه بأساليب شتى، ليحافظ رجلها على ما يفترضه في وعيه ولاوعيه وقار مدينته، بمعنى قليل من النساء والفتيات ندر ألا يظهرن محجبات، وعرمرم من الرجال في كل مكان، كأنهم ولدوا من فقاقيع هواء لا من أرحام نساء، ثم كثير من القنوط، على الأقل التحفظ الشديد في تعبير الوجوه حتى عند التاجر، كأن الابتسامة مظهر ترحاب ولياقة لا تليق بسلوك الرجال، أي هي للمرأة ينبغي أن تختفي وهي تزدرد لقمتها تحت نقاب. هكذا يندر التشبيه، وتضمحل الصورة، فمن أين سيأتي الفم والشعر إذا لم تتناسل الصور ويتهستر المجاز، وتصبح المدينة وهي استعارة حقيقة تُسمي أعضاءها بأسمائها الحقيقية، ولذلك كلما جئت عمان، ومدنًا عربية غيرها، لا أكفُّ عن البحث عنها في الخفاء قبل الظهور لأنها خفية. اذهب إلى فاس وستجد نفسك، وأنت تتزأبق بين الأزقة والدريبات والسراديب العتيقة، إنما تدريجيًّا تغشى عالم الأسرار، ومكنون الحكايا والأخبار، هو عالم الدراية الدفينة والغواية بأبواب سفلية، وسقوف محنية، وممرات ندية، وعتمات تنيرها وجوه كالبدور، وعيون أهِلة، وأصوات ينابيع يرتوي الظمآن بمائها يترقرق في السقايات والنافورات والعوينات الناتئة من الأرض وجدران التكايا والزوايا قبل أن تسري ريًّا، وتجري راحة في الحلقوم. تلك فاس.
ولعمَّان أوزارها وأسرارها، الخبيئة من مئات السنين، طلبت من روائي المدينة إلياس فركوح أن يكشف لي ستر واحد منها، فوعد ثم سها عن طلبي لأنا كنا في رمضان، أولًا، ولأن «أرض أليمبوس» عنده في يقيني خير الأوطان. لكن «وسط البلد»، الأزقة المحفورة فيه خاصة كسطور مؤشرة في كتاب، والدرج الصاعد إلى أعلى كأنما متوله عشقًا بالسماء حيث يقيم، والشرفات المطلة على شوارع صال فيها التاريخ وجال، على جدرانها كالوجوه تجاعيد وخدوش وأوشام. هنا، وفي تلافيف نظرات نسوة مسدلات الأهداب، وثنايا أجساد مثقلة بأسرَّة الغياب والعيون الحارقة، في الصخب المتأجج، والروائح الفاغمة لتوابل صاعقة، وباعة يغنون للكوسة والبندورة، فيما التفاح والرمان كناية عن نهود تحت العباءات مرفرفة جارحة، مهداة لليالي السهاد وآهات محبين، لو تفتقت بحب فتكت بها أن تفقس طير أبابيل قبائل كالجائحة. كل هؤلاء الغادين، والرائحين، الهابطين والصاعدين، من رأس السير، تلاع العلي إلى سقف السيل، المارين على حافة الجسد الأبيض الموله دومًا بعشق ندي، لا يعرف أين يطفئ ناره، ولا ماء يجيره، ولا هذي الأرض، بكل ما أنجبت من أنبياء، من رسل وعشاق وشهداء، ببوح أعظم الشعراء، ولا تنجده، الجسد الأبيض مهرة جامحة، يذرع المدينة كل يوم من صياح أول ديك إلى آخر نجمة في السماء، طولًا وعرضًا، تنطوي الكيلومترات في عداده وفي عينيه شساعة بلا حدود للحرقات، فأين، إلى أين أحمل جسدي الأبيض يصرخ، شهوتي السمراء، كيف أجعل قومي يفهمون أن الإنسان يمكن أن يكون من رغبات صغيرة، ولتكن رعناء، أم لا بد أن نقيم في كل مطلع شمس عزاء، ولا نصحو إلا على مواكب الشهداء، وحين تسد في وجوهنا أبواب أي حلم، خلسة ضوء، نركب هودج الذكرى لندفن فحيحنا في ذكرى «البتراء»!
أما الشمس، فلي معها، هنا، حكاية أخرى، مجرد حكاية دغدغة، ها، ها، تنضم إلى ولع الجسد، ها، ها، مدد، مدد! يتوقف أبو بادية، الشاعر المجيد حميد سعيد، في منتصف الطريق بين خطوة لم تعُد تقود إلى بغداد، وأخرى ملتاعة ترد صاحبها، يرسلها كصيحة في وادٍ؛ يتوقف ونحن ننقل الخطو وقد تألق مبتسمًا باحتراز خشية أن يخدش وقار حزن عميق في الفؤاد، وأراه يسلم على ذراعه يمرر عليها يده اليمنى متلمسًا دفء شمس أقرب إلى الدفء منها إلى الحر. أحس بها دائمًا تدغدغ الأطراف العارية في الجسد، وأستحي أن أسأل أوَتحسون مثلي بدغدغة تنتشر في سماء فرحة، أو كضحكة طفل مرحة، لم لا عزف كمان، يتقاطع مع الصخب العالي المتموج في شوارع عمان، طرقاتها الهائجة، ليوقف سيل السيارات العرم، أين تمضي كل هذه الأساطيل تمتص رحيق الهواء، تزحم شاحنات الغاز إذ تعلم عن بيع قنانيها، عجبًا، بسوناتات لموزار، والدفء أشمه بينها فوق ذراعي يحلو لي أن ألعقه كزبد بحر حاد الملوحة، هنا أملأ رئتي صدقًا لا مجازًا بالمدينة، وأعتبر أنه طقس حي لا يتفوق عليه إلا حرارة إيمان المصلين في المسجد الحسيني، ويضاهيه عشرات، مئات العمال والفقراء ممن يتناوبون على وجبات الفول والحمص والفلافل بالخبز البلدي الحار، يأكلون بشهية حارة، وهم يحلمون بالجنة أو بست الحبايب ستزف لهم أجمل عروس، وبصحة جيدة ليتمتعوا بمزيد فول وفلافل، ولم لا شقفة كباب ذات يوم، أو ذات عيد، ولو في اليوم الآخر! وتبقى الشمس لغة الشرق العربي كله، تستحق من أجلها وحدها أن تسافر، أن تخاطر أحيانًا، وبما فعلت بي صرت أعرف أنها لا مثل باقي الشموس، لأنها ببساطة شامية وعمَّانية وبيروتية ولمزيد علم فهي تتكلم العربية، فصيحة تمامًا حين تنطق أبجدية القمر، ولها حرائق في كل الفصول!
يحلو لي المشي في الأسواق، لا لأتبضَّع، فذاك يحدث لا ضرورة أبدًا، الليل والنهار سربالي ونعالي، والحلم راحلتي، ليكن، إنما أسواق الشرق لها نكهة الأعشاب والرياحين والرقى، والسحر الخفي؛ ثمة ظلال الغموض، وأيادٍ مع أصوات متسترة تناديك أن تعال فتتبعها ولا تخاف أن تضيع وأنت ستضيع، مثل صوت انخطفت إليه في «وسط البلد» حسبته نهنه من ممر العطارين، منفتحًا على درج صاعد، حاد في عموديته، يتقاطع أخيرًا مع سقف بناية وجدتها تنفتح بدورها على زقاق لم أبلغه إلا بعد أن أمسكت قلبي بين يدي وهو يضرب: دك/دك، ثم قادني إلى درج ثانٍ، فثالث، أتبع الصوت يتبدل بين لهاث وهمس، كلما تعثرت تحسسني وشوشة وحفيفًا، وتجاذبني شهوة وتقوى، متأرجحًا بينهما أي بلوى، لا يكف الدهر يمتحنني صعدًا، صاعدًا إلى أن حسبت الصوت سيخطف روحي، أنا الذي منذ دهر خطفتني ألحاظ إلهية في دهليز سري بين جامع القرويين وضريح مولاي إدريس، ومنذئذٍ ونقاد من ثقافات مختلفة يجرون حفريات على قلبي لقياس النبض الخصوصي، بين جنس الإنس والجان. في النهاية وجدت رأسي تغوص في سحابة، وباقي أعضائي حتى أخمص القدمين أكواخ ودور ومآذن وشرفات وخمائل ومصاطب سطوح وشبابيك وستائر وستر من الله ودعوات إلى يوم الحشر ورجال يحملون حول أعناقهم لحودًا، ونساء سبيات، صبايا لم يطمثن أبدًا في حداد، وقصائد مشنوقة بلا إنشاد، وكمثرى وتفاح ورمان دائمًا وقوارير عطر ونبيذ مثقوبة تبح بالآهات، بالنشوة الموءودة، والجنة الموعودة، ورجال كالغيلان فرشوا لحاهم في الشوارع، ومثلهم حليقو ذقون يفحصون جماجم الأحياء، وخلفهم من يلقي بالموتى والأحياء معًا خلف جدران النسيان؛ هنا صرخت في علوي كأنما من كابوس: أنا عمَّان! صرت الكائن والمدينة وجسدهما كما كانت إرم ذات العماد … لم يوجد مثلها في البلاد. طفقت إثرها أنزل تاركًا رأسي ينام في فراش السحاب، وجسدي، ما باله لا يهدأ، يعدو إثر تلك المهرة الجامحة!
قبلئذٍ، في غفلة من حواسي «سرقتني» الشام، ربما بسبب أحمد المجاطي، الشاعر الذي لا يستحقه المغرب، ويعيث بالقوافي في أرجائه بعده الأذناب، مات وفي نفسه كثير من غصون البان، الذي خانه في الشام، وقع في هواه مذ رآه، وكان قبلئذٍ، أيضًا، قد سباه سعيد عقل تركه بلا عقل لما أنشد: «الهوى لحظ شآمية، رقَّ حتى خلته نفذا!» أما في قلبي فلم يجد قمر دمشق وهو يرميني بسهام جديدة وأنا في «أحلى طلة» من قاسيون ما يصيب بعد؛ فقد كان أكثر من سهم قبله قد نفذا، وها أنا، بعد المجاطي، بعد رجال شداد، نعيش اليوم كل هذا البددا!
لأعترف بأني وضعت بيني والشام حصنًا منيعًا، لا طاقة لي أن أزيد هلاكًا على هلاك، بقيت فيها أقل ما يمكن من الوقت كيلا أصاب بلوثة الأبيض المحمص بطراوة الهواء، أطفو كلما رأيت عيونًا ستسحبني إلى الجوف، أو ستلقي بي من يدي المدبقتَين بغبار الأشياء إلى سماء الأسطورة، فأبتعد، «يصير بدي صَورخ» كما يقول سائق التاكسي الذي يحاذي سور دمشق التاريخي عابرًا قربه فعلًا كصاروخ أرض أرض فقط، أما الجو فمسوَّر بالإنذار.
لأعترف، أيضًا، بأن من الأفضل لك أن تطفو وأنت فوق سطح ساخن، من أن تحترق في جوف أرض الغليان، لا تحفزًا من أجل غدٍ وإنما حسرة على ما فات، فبالأمس كان العرب يمضون فاتحين لانتصاراتهم، واليوم ينكصون إلى قواقع هزائمهم، يعتكفون فيها عامًا بعد عام، ولو أني أسير قمر الشام أي فحولة أظهر، أي مهر أعطيه، أي نهر يسقيه إذا جف الهوى «بردى»، فلا أملك أخيرًا إلا أن أتجمل بركعتَين في المسجد الأموي، ومثل أجدادي ما أكف عن الرحيل، ما أسعفني أمس، فهل يسعفني اليوم بكاء على الطلل المحيل؟!
أعود إليك عمان، ولم يكُ في الحقيقة فراقًا، وإنما شرودًا عمدًا من أجل مزيد اشتياق، وبعبارة أقل مناورة فنحن كلنا في الهم شرق. وصلت إليه ونفسي مبتردة، أطلب السلوى، وأتوقع البشارة لمجهول، ولا طلب لي في الكتابة، ما عادت أُرَبا وهي تُسام خسفًا وتُنشر عهرًا، ودِّي أن ألتصق بالكائن، باللحم الحار وتغضن الأشياء، أرى هذا كله كنبت يينع في يدي؛ فإذا هي شجرة، غابة، غضارة، مرج، هرج تستفيق عليه عمَّان وتبيت، نمشي فيه جميعًا لا يضجرنا إلا الصمت، أنا القادم من الغرب البارد، الصامت، المحنط بالعلامات والأيقونات.
المرج، لا بد لي من الذهاب إلى المرج سألت سيدة الجسد الأبيض، سواء كانت حقيقية أم تخيلًا من بنات هذياني، فلا هي التفتت، ولا انسحبت من مسرح التخيل، أراها في جيئة وذهاب بين الوعي والإحساس، وكلانا يمسك بطرف من الخيط، أريد المرج فيما تهرب منه وهي فيه. وما هو في النهاية إلا مكان، ربما صار زمنًا لو جعلناه أرض نبوءة، كجبل نيبو، مثلًا، أو إلهًا منحوتًا في أخدود صخري بالبتراء، أما الآن فهو عندي مبتغًى بالاسم فقط، ريثما تنجلي حقيقة الرغبة، رددت في سري مرغمًا؛ فأنا لا أنسى لحظة واحدة أني هنا في أرض الكتمان، وإلا لم تعجُّ بالصخور، وترتد فيها النظرة والابتسامة إلى الداخل دون العيان؟!
إذا أخذت الطريق السيار خاصرة عمان، وسرت كأنك تنزل جنوبًا باتجاه المطار، تنتصب على يمينك لوحة تؤشر لمكان اسمه «مرج الحمام»، وهو في الخريطة يقع غرب العاصمة قبل بلدة ناعور. سلكت الطريق نفسه سابقًا لكني أرى الإشارة للمرة الأولى؛ فشغلني عن كل شيء بأن أصبح همي زيارة هذا المكان. لماذا؟ سألت المراوحة بين الواقع والخيال، فأجبتُ بإلحاحي في الطلب وكفى، ولم أكن أنا نفسي أفهم ما خطبي، ولم ألح في السؤال. أقبلت في الغداة وامتطينا معًا مهرتها الريح، فحذرتني أن أمسك جيدًا بعُرفها أو واحدة من جدائلها لأتجنب السقوط من علٍ، لقد كانت تدفع ذراعيها تشقُّ السماء من ناحية الغرب أشطارًا. بدل الانضباط لدعوتها وجدتُ يدي تدخل فيها، تحت سحابتها أم تنورتها، لا أميز أيهما، وصعقت للمفاجأة أحس بأصابعي تخشخش تارة في العشب، وأخرى تسري في غدير، وطورًا تنزلق فوق مساحة ملساء أنعم من حرير، دون أن أكف تساءلت هل موعدي مع إنس، أم متخيل أم سمكة، أم هذا لاشعور قراءتي للوحة الطريق يحضر أمامي أتحسسه بأصابعي كما لو أني أدركه بوعيي، وها هي لعبتي تفتضح أسرع مما توقعت، أما حبل الغواية فهو كالكذب قصير. لا قوة تردعني بعد أن كشفت لعبتها، وإلا لم جاءتني كالسمكة، الدليل أننا ما انفككنا منذ التقينا، مذ متى لا أذكر، نعوم، عمَّان لنا بحر لا ساحل له، وإن وجدت فيها يابسة فليست إلا لشفتيها ونحرها وتفاحها وخوخها وتلالها وباقي ثمارها الطيبة، وصولًا إلى «مرج الحمام». إنما أين يقع، سألت؟ خذ ما في متناولك الآن، سأريكه في المرة القادمة، أوَلا ترى أن المدينة كلها في حضرتك فتنة وافتتان؟ بلى … الله يسعدك يا عمَّان!