كل دم مسفوح، ونحن بخير!
١
٢
لا شك أني عنيد، ولم أتعلم أي درس من حياة العرب المحدثين، أي ما جره الدهر أو جروه على أنفسهم من ويل وثبور وهوان، فصاروا لا نخالة ولا حب زؤان، حكامهم، شعوبهم، مفكروهم وكتابهم كأنما لا حس ولا كرامة، وعدا النهم والنهب والسفلة، ليسوا من الزمان. لا بد أني أصم فلم أسمع المنادي لما طاف يطلب ممن تبقَّى من عرب الأمس أن يبادروا إلى دفن أجداثهم قبل أن يأكلهم بعضهم، ويغصب باقي عرضهم وأرضهم وقرآنهم، وينتظرون أن يغضب الله نيابة عمن كانوا من نسل بني تميم أبدًا غضابًا.
٣
غير أني أمقت التنازل لقدر لم أصنعه، كذا الاستسلام لما جناه علينا الجبناء وأولاد السُّخرة، فالأرض بيضاوية دائمة الدوران، لكي تتخفف ممن هم بلا جاذبية وبجسوم وعقول جوف. ونحن في هذا البلد دأبنا ألا نخون الأرض، يصاعد البنيان، يطغى معه الإنسان، لكم تجبروا علينا ويتجبرون، من مهدهم، وفي آخر المطاف تطوي لحودهم وأدرانهم، ما أكبرها وأقواها أمنا الأرض. لا تهون إلا على من كبروا عبيدًا، لا يستحقون هوى الأوطان.
٤
ما يجري الآن، هو كدمنا ظل يجري، صار ماء وظلت بقية من نطفة دم ما تنفك تجري.
والقتلة وجوههم بيضاء كالشمع، ناصعة كالثلج، لا حياء، لا ريبة، بدم بارد في الشرايين يجري.
من كثرة ما ساح هذا القاني ما عدنا نعرف أمن غيم يجري هو أم من ضيم، أم من ضروع سماء كم تطلعت إليها الأكف، كم تضرعت إليها من ثكلى ومن أيم، فتوجعت وتفجعت، ولم تعد أين تسأل تولي وجهها، ولا سحبها المدرار تمطر إلا بهذا المهراق حولنا أبدًا يجري.
٥
لا نحتاج إلى مناسبة كي نغزل دمنا المستباح ونصبه في وادي البوار؛ هي غزة مثلًا، أو طعنة عبرت إلى صدر عمر بن جلون صارت عند قوم نخب ليال ملاح. وما غزة إلا من غُزية تستفيق إذا هاجت بالكبرياء، لن يبيدها طوفان قصف ولا سمسرة الأوصياء. غزة من بدء الخليقة قربة دم وقربان. قربان لوطن مغصوب يتوارثه الشهداء، ولا هي تحتاج إلى كلماتي، إنما ما حيلتي وقد عاث البغاة، صدئ النصل في الغمد، وعز كل سلاح!
٦
لذا لن نتجمع اليوم، كأمس حول جثتنا، نتشممها تتعفن بعد إذ تفسخنا زمنًا، وغدت أوطاننا دمَنًا، تكالب عليها النعيب، تداولنا النديب، يشيخ أطفالنا قبل أن يولدوا، أو ليسوا في الأرحام يوءدون، والآباء إثرهم يصلبون، أما الموت فلا ينسى إلا التعساء، أما غزة فهي تكرع من دمها الرقراق، صبوحها وغبوقها موت إلى يوم يبعثون، وربها واحد قادر على بعث الشهداء.
٧
هو وأنا، معًا سمعنا الحيزبون اليهودية تقيء ملء شدقيها: «لن تقر لي عين حتى تقتلوا كل العرب!» تخاطب جند اليهود، والجندي العربي في كمد، هي كانت تعنينا لا السادة الجرب، وطبعًا هذا القتل لا يعني إلا العرب، من العربي فيكم أيها الساسة، أيها الدهاة، أيها الشعراء والكتَّاب والكذبة؟ أم العربي اليوم فقط، مجرد وجهة نظر! اللاهثون وراء سادة الريع، عبيد الطلب، أنا أعرف عدوي جيدًا، وحق الله لن أسلم له، وحقي سيبقى هو المراد وهو الأرب.