حجاب المحجوب١
أمر أمام مقبرة الشهداء.
في رباط الفتح، كانت أمس. لا بشر حول شاهدتك. لا طير يا محجوب يحوم. لا شعر، لا نثر كنت سيده، وها هو يقتات اليوم في «السويقة» من طنين الكلام، أو سلعة يتداولها بلا خفر ولا استحياء قطيع لئام. نظرتُ إلى البحر على امتداد رشقتك المزبدة، أبدًا من غضب: كيف نمضي ويبقى بعدنا كل أولئك النذلة؟! كيف لا تتوجع الأرض بعد إذ غادرها الرجال المردة، كيف؟!
تعودت حين يفرغ جوفي أن أحيط يدي بخاصرة الرباط، كآخر غانية ستراقصني في حلبة الوهم الأخير، قبل أن نشرب كأس المنون. أناجيها وتناغيني، تسعفني بالوصل في غربة العمر، بالظل في حر الهجير. أمس طوفت البلاد أبحث عنها طولًا فعرضًا، زحفت إليها كالأسير. بعد سير. بعد لأيٍ أخبرني الغداة والشراة أن لم يبقَ من رباطي غير خط سراب، يلوح المحجوب فيه على طرف السحاب، ممتطيًا صهوة حب كان لنا في زمن العباب، ويحي، أوَبت في الحد الأخير!
لم يتألم. لم يتظلم، لم ينبس ببنت أنَّة. رأى الوقت يمضي مثل مجرى نهر ضرير، أو كنوم قرير، فتابع الخطو لا يلوي على شيء، بلى ليلوي إلى بيت هو آخر ما في الضفاف، فيه قليل قوت، وبضع حروف يكتبها لنقرأها بلذة التوت، وفي آخر المد والأرض خلاء، وكل مكر الزمن الهباء، يعود ليمضي وحده نحو تلك الشغاف.
لم أكن أعرف قبله أن المدن يغطيها وشاح، حتى الضوء يعميه فيه انفساح، وما الأحزان والأفراح؟ أوَليست غير جوقة للعويل، وصدًى في مهب الرياح؟!
لم أكن أحسب أن الهواء خافت تحت وطء السماء، والنظرة هي القصوى عنده دائمًا الأحفل بالمعنى، أطرب بالمغنى، أطيب في المجنى، من شفيف الضياء.
لم نعلم إلا منه أن أقوى ما في المرء، أبلغ ما للقول، وأبهى ما للسحر، الخفاء. وقارٌ ما لا يدركه إلا الفضلاء. إن نظرت إليه وهو يذكو برقيق السلام، ارتدت إليك حياء من حياء. حينًا آخر تلمحه عابرًا، تحسبه مقبلًا أو مدبرًا، إنما هو لصق الجدار. واثق الخطوة، طبعًا، شأن كل الكبار. مفسحًا للصغار الطريق، أوه، إلى مجدهم والخيلاء!
لذا كان يمشي في الممرات الخفية، وحدها تسعفه بالقرب من الله، وابتغاء عطاء الأبدية. لذلك لم يتبدل، ما غيَّر الجلد ولا خلع كسوة «العلم». حتى بعد انفضاض العشرة وهجر الإخوة، ثم قلة ذات اليد، وأفول آمال في مغيب البدد، وحتى بعد أن حنت الناس سرًّا وجهرًا ﺑ «أقسم بهذا البلد» ظل هو غريدًا على فنن الحرية.
أمس وصلت إليك، أي قبل أربعين خلت، غريب الوجه واللسان، ففتحت الثغر لي. باب جريدة «العلم» يسبقك: «حللت أهلًا، ونزلت سهلًا في دار الوطنية.» وتركتني، من غير أن تسهو، بالكلمات ألهو. ولما رأيت بعض العود يشتد، والقامة مني تمتد. أشرت امضِ الآن في دربك. إنما، حذار أن تزهو، وتذكر أن الحرف مداد وجهاد، وتدرك طبعًا أنه نخوتنا العربية.
واليوم تمضي عني، لأبقى بعدك أغرب. أي درب سيدلني على الطريق المحجوب. لا سماء تضيء. لا هواء في الرئتين. لا شفيع. لا دليل في أرض الضلال. لا حب. لا شعر، لا نثر لوجه الله. لا خل، ولا ظل، ولا طل؛ كل شيء بمقابل، أو كان أمس وصار إلى عدم. فأرسلت الطرف إلى آخر الدرب، قررت باكرًا سأرحل، فهذا أفضل. عدت همست ما هذا الأ … رى، ما كل هذا الم … حال؟!
يا صديقي الصدوق. يا معلم. قلت عين المقال، ولذا أعرني حجابك، علني أغدو أطول سماءك. كفى، تكاثر فيَّ الموت، فإلى أين المآل؟!