في تذكر من فتح لنا الطريق
لا أعرف كيف ولا بأي زمنية سأكتب عنه: بمن كان، أم بما هو كائن، أم الأفضل أن أجنح إلى تركيب يخرجه من تصنيف الوقت الفيزيائي، ليدخله في الديمومة، لا سيما وأنا، ربما لست وحدي من يفعل، ليس من عادتي أن أفكر فيمن أعز وأبجل بتوقيت حضورهم الجسدي؛ صنيع علاقتي بأمي، مثلًا، حين رفضت أن يشيحوا الغطاء عن وجهها لألقي عليها نظرة الوداع، يسمونها النظرة الأخيرة، كلا، تركتها تمضي في موتها، الموت الحتمي المعلوم بنهاية وظيفة الأعضاء، ولما وُوريت التراب كنت مصممًا على إبقائها معي، عندي، في بقعة من داخلي، ما هم سواء هي قلبي أو ذاكرتي، أو بينهما، المهم أنها حية بعنادي، وأقول إنها وأنا لا أراها رؤية العين المجردة، إنما غابت، سافرت إلى مكانٍ ما، وسيحين موعد عودتها لأراها من جديد، كأننا لم نفترق لحظة واحدة؛ لقد انتصرت على الزمن بسحر الديمومة!
لذا أكرر أني لا أعرف حقًّا كيف، ولا بأي صيغة سأكتب عنه؛ حسب الظروف القديمة، البعيدة الآن يوم أتيح لي أن أتعرف عليه، أم وفق ما صار وما بت عليه، وقد دار الزمن من نهاية الستينيات الخالية إلى نهاية عَشريتنا الحالية لهذا القرن أيما دورة، تشيب لها الولدان، تغيرت معها الأحوال، وتداخلت الأشكال، وما أكثر من وما تبدل، ولله عاقبة الأمور. لا أبحث عن جواب بقدر ما أسجل حيرة تكبلني، وقد منعتني وقتًا من الاقتراب من هذه السطور إلى أن وجدتني فيها، ولا مناص لي من المضي ما دمت بدأت، أتذكر أني بجزء من حدبه، وكثير من عنايته ورفقته، قريبة وبعيدة بدأت، ولذا عليَّ أن أواصل، والحيرة الممضة دائمًا تكبلني، خاصة إذ أتلفت، يشغلني غيابه من شدة حضوره بداخلي وبقربي، فأناديه، ألوح له، وخلافًا لعادته، لحبوره الأليف، وظله الرفيف، ومجلسه اللطيف، وقوله المهموس أحيانًا كالحفيف، لا أسمعه يلبي أو يجيب، فيشتد افتقادي، هو الذي كان خطوي وظلي، بعض صوتي وغمد سيفي، وقبل هذا وذاك جمال بداية العمر الجميل، أيام الضنك والحلم والحب والشعر وكل ذاك ما غدا الوهم المحال.
ولكن ما بالي أنتهج هذه الكتابة وكأني أدون عن نفسي، أتحدث عمن أمعن في تغييب اسمه، واسمي يبدو حاضرًا، موقَّعًا أعلاه على حساب هذا الغياب؟! أي لعبة هذه التي نسرف فيها حين ننهب حياة الآخرين، نتوسل بسيرهم، أحيانًا، ولو بحسن نية، ونبل القصد، نتخذهم ذريعة فنظهر في الأخير بصورنا ملمعة، لننساهم في الطريق مستسلمين بغباء، بخفة، لنرجسياتنا، سواء في المدائح أو المراثي، في البغضاء أو الثناء، نكون إما أعددنا ولائم لا لضيوفنا، إنما لتسمن لحومنا، ولنسمع بعدها صدى إكرامنا. وإذ نزعم أننا نريد أن نتذكر، ونسرد شيم وخصال الرجال، نمعن في النسيان، ولا نتذكر إلا ما يسعف لرسم صورتنا نحن، الذين لو كنا صادقين، أوفياء، ما وجدنا اليوم، لن يتحدث أحد عنا غدًا إلا لأن هؤلاء الرجال بالذات هم من فتحوا لنا الطريق، ووضعوا على ألسنتنا أبجدية ونبرة الكلام. وإذ يخفت صوتهم، أو يتباعد ظلهم، أو تنسحب خطوتهم إلى الوراء، نحن الذين نتوهم أن خطوتنا على الأصح في خط الأمام، تشخص لنا قاماتهم ووجوههم — ينبغي أن يحدث هذا على هذه الشاكلة، وإلا فإننا أنذال ولئام — في مرآة الغياب، تُسائلنا، تناجينا، وتمتحن فينا ذاكرة ما كان وما لا ينبغي أن يطويه النسيان، أو تمتد له، كما في هذه الأيام البيد، يد العبث والبهتان! إنما لا مناص من أن يختلط ظلك بقامات الآخرين الكبار، فالظلال هي المصائر والطرقات تتقاطع، وهي سنة الحياة، التي نرجو أن تشفع لنا طباعها، فتغضي عن الصغير في طباع البشر.
وأنا عرفت الرجل، قصدي عبد الجبار السحيمي، منذ نهايات العقد الستيني للقرن الماضي، طبعًا، الأرجح سنة ١٩٦٩م، بمدينة الرباط، وبمقر جريدة «العلم» أغلب الظن. فإني كنت سنتها قد تخرجت من كلية الآداب، وعُينت مدرسًا بالدار البيضاء، لكن بعض صحبي وزملائي عُينوا، ونحن خريجو المدرسة العليا للأساتذة، بالعاصمة، ولي معهم ألفة ومودة منذ زمن الدراسة في فاس، فصرت أنتقل إليهم إما للتسلية أو لتطارح الرأي في شئون زماننا، عديدة وقتها ومتداخلة. وبما أننا جميعًا، تقريبًا، كنا نناوش القلم، ونحلم بالكتابة بين تطلعات أخرى؛ فإن هذا الحلم أخذنا بالضرورة إلى سمائه، بل إلى مثواه وسمائه حيث يأوي ويحلق في جريدة العلم، الأولى والوحيدة آنئذٍ تنقل الصوت الوطني، السياسي والثقافي معًا، وغيرها حُكِم عليه بالاختناق (جريدتا «التحرير» و«الرأي العام» المواليتان للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب الشورى والاستقلال). صرت أطرق مقر هذه الجريدة حاملًا بيدي بعض ما أتصوره أدبًا أو إنشاء أدب، أضعه في البداية في رعاية الصحفي والأديب المحجوب الصفريوي، الذي كان — رحمه الله — يتعهده جيدًا، هو المسئول عن كتابات الناشئين. والحق أني أثناء الزيارة كنت أتلصص على من في المؤسسة، لا سيما من أسمع وأقرأ لهم من أعلامها، في مقدمهم الأستاذ عبد الكريم غلاب، ومحمد العربي المساري، وعبد المجيد بن جلون، وعبد الجبار السحيمي، صاحب الأوراق الانطباعية والمذكرات الرقيقة. كان مكتب عبد الجبار (سنسميه خلصاؤه فيما بعد عبده ألفة وتحببًا) إلى جانب مكتب الصفريوي، وأظن أنه كان معنيًّا بشئون شتى في الجريدة، من بينها ملحق قلم التحرير، والصفحة الأخيرة للمنوعات، وبعض ملحق «العلم الثقافي» الذي لم يكن يُعلى عليه، والمدرسة التي تخرج منها كل من يدب من أدباء العربية اليوم في المغرب الأقصى. أما أنا فعرفت، ولبعض الوقت، الصديق والسند، الصحفي المبرز مصطفى اليزناسني، مسئولًا عن هذا الملحق، وهو من نشر لي أول نصوصي فيه، فكان ذلك، ولا فخر، بمعيار تلك الأيام، بمثابة شهادة ميلاد كاتب.
الحاصل أن نظري، بين هذا وذاك، لم يتوقف عن التلصص إلى حيث يوجد عبده، ولم يكن لي وقت طويل أمضيه في تعقب خطوه ومكانه، ولا هو في زحام عمله لينتبه للمتوددين والفضوليين، على بساطة طبعه وطيبته، ودماثة رباطية متأصلة، لن أتعرف عليها إلا بعد دهر، حين ستقدر لي الإقامة زمنًا بالرباط ابتداءً من سنة ١٩٩٥م، في عودة مؤقتة من باريس.
والحق أن هناك تاريخين وثَّقا علاقتي بالرجل، ليجعلا من وجوده في الرباط، وفي موقعه الإعلامي أولًا، ثم الشخصي، الأدبي والإنساني، ثانيًا — وهما عمليًّا يتداخلان لأن عبده من قلة لحمتها وسداها ذاتٌ متآلفة بعضها مع بعض، هي نسيج وحدها — سينضاف لهما تاريخ ثالث، أحبه وأمقته في آن، قد يتأتى عرضه. أما الأول، فهو ارتباطي منذ نهاية الستينيات بجماعة «أنفاس» الإبداعية، أكرر الإبداعية، التي جمعت شعراء وكتابًا وتشكيليين، ذوي مشارب ثقافية وفنية مختلفة، ولم يكن إلا الإحساس بآصرة التحديث، والتعبير بصوت مختلف هو الهاجس أو الجامع المشترك بين أعضائها، ولا كان لها زعيم إلا من ينسق مجلتها بالاسم ذاته، وهذا كل ما في الأمر، قبل أن تغير خطها إلى منهاج سياسي، ويتفرق شملها حسب حوادث الدهر المعلومة. المهم أني طفقت ألتقي عبده وأنا أزور جماعتي الحداثية في الرباط، ومن قريب أو بعيد كان عبده فردًا بيننا، على الرغم من موقعه، أو موقع جريدته المناقض لخط جماعتنا في الظاهر، كثيرًا ما سهرنا، وتناجينا، وبالنسبة إليَّ فهو أكبر سنًّا وتجربة، وأنضج ذوقًا، وأرهف إحساسًا بالحياة وقدرة على التلقي الأدبي والفكري، فضلًا عن السياسي، وهذا شأن آخر. لذا أحب أن أعلن هنا أني لا أتحدث، بعد أن جرت مياه غزيرة تحت الجسور، كندٍّ له، وأنى لي ذلك؟ حسبي أن حظيت بالتعرف عليه مبكرًا، واكتساب صداقته، ونيل تقديره لما أكتب، ليجعل مني — على طراوة العمر وفتوة التجربة — واحدًا من أقلام العلم، الثقافي خاصة، قبل أن يصبح لقلمي منبره الذي، من أسف، سيعارض منبره، ويناقض مواقفه، وتلك صورة من تاريخنا المشترك. لكن هذا الجيل على صراعاته، واختلافه، وأحيانًا سجالاته النارية لم يعادِ بعضه، وعرف كباره، أفذاذه، منهم عبده بيننا كيف يحفظ الود ويصون عهده، يشهد الله على ما أعلم أنه ما شتم ولا تنابز في أحلك الصراعات وأعتاها بين فصائل الوطنية والمعارك الثقافية الضارية داخل منبر اتحاد كتاب المغرب، وفي صفحات العلم الغراء، التي نحتاج دائمًا إلى ترداد أنها مدرسة الوطنية الأولى والراسخة، وفيما سواه يحقد ويكيد، ظل هو يبذل الكرم والسماح والود يزيد. فلقد عرف كيف يعطي ﻟ «العلم» إهاب الجريدة الوطنية بمعناها الشامل لا بكونها لسان حزب الاستقلال، المقيد بالتزامات أو أعراف سياسية، أيديولوجية مقننة أو ظرفية، ولماذا لا أقول إنه وهو الذي التحق للعمل بها، قبل أن تتضارب اتجاهات القيادة السياسية الاستقلالية، ويحدث الانشقاق الاتحادي الشهير نهاية ١٩٥٩م، حرص من موقعه، وعمل فيما بعد بأسلوبه لأن يجذب لمنبره كل الحساسيات، ويحوله إلى مرجل ومختبر لتيارات التحديث والتجديد، من كل لون، وليس إلا في العلم ظهرت نصوص التجديد الأدبي شعرًا وقصًّا ونقدًا، إضافة إلى ألوان التشكيل المتطور، وحساسيات اليسار المتياسر، أيضًا، ما يحتاج إلى توثيق وإعادة اعتراف، أقواه الاعتراف بأن عبد الجبار السحيمي هو رجل وموهبة ومسار تدفق هذه الروافد كلها، وفي مجرى جهوده، أيضًا، كان المغرب والمشرق يلتقيان في تحابٍّ عميق، وتعاون وثيق؛ إذ كل من يقصد مغربنا يدق بابه/باب العلَم، كم من الأعلام سأذكر لو أردت، استطعت، ولا أستطيع. في الداخل والخارج، وفي أتون الصراعات لا دلال وكسل وهراء الكلمات، عرف جيل كيف يوجد، ويمضي قدمًا وهو يؤسس، ويشيد، ويجدد، ويتعارك أيضًا، لكن بما لا يفسد للود قضية، هذا غيض من فيض ما تعلمناه من عبده، ولذلك يصح أن يُعَد من المعلمين الأوائل والجديرين لهذا الجيل، جيلي، أبقاه الله.
التاريخ الثاني متعالق بالأول، قرين بالكتابة وموقف الكتَّاب من دورهم في المجتمع والوضع السياسي لبلادهم، ضمن مؤسستهم اتحاد كتَّاب المغرب التي خاضت سنة ١٩٧٣م معركة من أشرس ما عرفته في تاريخها، ونجمت عنها مواقف حاسمة، عقب المؤتمر الشهير لمدارس محمد الخامس بالرباط، ذاك الذي تواجهت فيه مختلف فصائل الكتاب الوطنيين والتقدميين — هذه تسمية المرحلة — مع من سميناهم الجناح الرجعي، الموالي للسلطة، الذي كان جله يتحرك في فلك وبدعم من القصر الملكي. وقد أسفرت هذه المواجهة عن انتصار الفئة الأولى، وانتُخب الأستاذ عبد الكريم غلاب رئيسًا للاتحاد خلفًا للمرحوم محمد عزيز لحبابي، وتشكل مكتب مركزي من بين أعضائه عبد الجبار السحيمي، وكاتب هذه السطور. وطيلة أربع سنوات من عمر هذا المكتب توثقت صلتي بالرجل، وكان المغرب يجتاز ظروفًا سياسية صعبة، وصفُّ المعارضة التقدمية يتلقى الضربات من قمع وإسكات حرية، والجامعة في غليان، وليس للأدباء غير العلم تقريبًا منبرًا، ﻓ «المحرر» الأسبوعي ما كان ليشفي الغليل، ولا بعض الدوريات المتقطعة. لم نكن في اتحاد الكتاب، بالتبعية، قادرين على فعل هام لأسباب يطول شرحها، إنما بقينا نتواصل، وعبده الكاتب العام للجمعية، يحاول أن يمسك العصا من الوسط إزاء أعضاء متشنجين مثل الراحل أحمد المجاطي، محمد بنيس، وأنا أيضًا. بينما هو هادئ الطبع دائمًا، يغضي حياءً من مهابة الرئيس غلاب، ومديره في «العلم» وإذا غضب أضمر، حرص دائمًا على ألا يختلط عنده الموقف السياسي، أو الثقافي السياسي، مع العلاقة الشخصية، أعني الصداقة، ولا صلة النشر في الجريدة، فهو عرف كيف يدبر بميزانٍ هذه الصلات، لذلك كسب احترام وود الصادقين، ولم يغتر بتكالب الانتهازيين وعديمي الموهبة، بين منبرَي الاتحاد والجريدة، فصار له خصوم ولكن أبدًا بلا أعداء.
لم نكن على وفاق في اتحاد كتاب المغرب، واتسعت الشُّقة عندما انطلقت جريدة «المحرر» — وهذا هو التاريخ الثالث، المعكر، عقب المؤتمر الاستثنائي الذي أنجب حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بالدار البيضاء سنة ١٩٧٥م، وكنت من أعضاء هيئة التحرير الأولى التي شكلها المرحومان عمر بن جلون ومصطفى القرشاوي. أذكر هذا لأن الصحيفة الاتحادية «المحرر» وحزبها، طبعًا، سيتصادمان مع الإخوة في حزب الاستقلال، و«الملحق الثقافي» الذي كنت أشرف عليه مع صفحات أخرى، سيتحول إلى حلبة عراك فكري أيديولوجي بين المفكرين والأدباء «التقدميين» الاتحاديين، وأضرابهم الاستقلاليين «اليمينيين» (محمد زنيبر في مواجهة عبد الكريم غلاب، وأحمد المجاطي (كبور لمطاعي) ضد حسن الطريبق، على سبيل المثال فقط) نار حرب توقد بين الدار البيضاء والرباط، فيما عبده، رغم أنه يجلب الحطب، يبتعد بأصدقائه عن لفح النار، وفي الأيام يدعوهم إلى فيء القلب، وخوان في البيت ممدود أبدًا للإخوان، فلم يتعكر صفو علاقتنا يومًا رغم الهجير، ولا أحسست بأحد قريب مني في الرباط — وإن تباعدنا — مثله، ولا فكرت في اللجوء إلى غيره وقت الشدة. حسبي أن أذكر حادثة واحدة، ونحن معًا أعضاء ذلك المكتب المركزي؛ إذ في سنة ١٩٧٤م، وعقب موجة اعتقالات حصدت مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالبيضاء خاصة، وجدتني، ولم أكن سياسيًّا محترفًا، مساقًا معصوب العينين إلى زنازين الرباط حيث قضيت وقتًا نسيته، ثم أخلي سبيلي في شارعٍ ما من العاصمة وأنا على حال لا مثيل لها من الجوع والبهدلة، ومن حسن الحظ حافظت على ذاكرتي فيما تشوشت ذاكرة آخرين، فاهتديت مباشرة إلى شارع علال بن عبد الله، إلى عبده في «العلم» الذي أطعمني وكساني وهداني إلى السبيل.
والحق أنه معلمة الرباط، ومنارتها بالنسبة للأدباء وكتاب المغرب من كل الأصقاع، بل للعرب جميعًا. أحسب أن حظوته تأتت بعد لطيف شمائله من كونه لم يغالِ يومًا في انتماء، ولا تحصن أو تحجر في موقع، حتى وهو صلب، ثابت العقيدة. لقد كان من السهل، حد النزق، وما يزال، تصنيف الناس إلى انتماءات وولاءات شتى، ومن ثم التعامل معهم وبينهم على هذا الأساس، قبولهم أو نبذهم بحكم مسبق لا دخل للصفة الإنسانية فيه. ولعله من بين نادرين أفلت من هذا الشطط، استطاع رغم حضوره المستمر في جريدة حزب الاستقلال، وفي أروقة هذا الحزب، أن يحافظ لنفسه على مسافة من الموقعين، ويبني شخصية مستقلة، لنقُل متميزة قادرة على الوجود بهذين الوضعين وبدونهما، كوَّنها بعصاميته، وصداقاته الكثيرة المتنوعة، وبمزاج الأديب الفنان، عدا أهوائه الخاصة، من شرود، وحميمية صوفية، وحب لصيد السمك مع عشق خلوة البحر، تجتمع كلها في ذروة حب جارف للحياة بعواطف جياشة لكم صدح بها من حنجرة العندليب الأسمر، وهو يقلده، يحترق بجوى أغانيه، نحس به، بين الصمت والإنشاد، يغني هوانا وحرقاتنا جميعًا، نحن الذين وُلدنا حالمين في ذلك الزمن الكمد.
وفي الكلمات، وبها، عاش المساحة الوسيعة والوافرة من عمره. كتب، كما عاش وتكوَّن ومارس السياسة والصحافة والحياة على هواه. لم يكتب كثيرًا، لكن غزيرًا بالأحاسيس والمعاني، وخاصة باللغة التي هي لغته، والأسلوب الذي هو أسلوبه، ونبرة هي صنوه، وذا هو الكاتب. كل من يعمد إلى دراسة النثر الحديث في أدب المغرب لن يجدَ بدًّا من الوقوف عند مذكراته في الصفحة الأخيرة في «العلم» وضع لها عناوين عديدة، أشهرها «خواطر طائرة»، لنقُل إنه أستاذ هذه الكتابة اللمحة، واللقطة السانحة، واللفتة النابهة، والشحنة الدافقة، والنفثة الدافئة؛ هو أستاذها في نثرنا بامتياز. جاور المرحوم عبد المجيد بن جلون في كتابة المذكرات، ذاك يطيل ويعقلن، وهو يوجز ويلمح ويرسم مثل أحد معبوديه، نزار قباني، بالكلمات. وانضم إليه المرحوم محمد زفزاف، يطل من قراءات فرنسية، ويصدر عن رؤية وجودية نوعًا ما، رافقه إدريس الخوري ﺑ «مذكرات تحت الشمس» يعرض أطراف جسده وأجساد الآخرين في الدار البيضاء، وهو يبحث عن لغة تقول كلام الناس لا الأدب، عبد الجبار كان قد جمع هذا الحمل كله، وبعده، ولم يقبل لا أن يتفلسف، ولا أن ينشئ كتابة قدوة، هي في الحقيقة تستعصي على التقليد، وإنما تعبيرًا على السجية، يقول الذات بملء فيه وإحساسه، وهذه خاصية أساس ما أخطرها في بيئة أدبية كثيرًا ما اختزلت الأنا في سطوة المجموع، ولم يحفل القول الأدبي لديها بالفرد إلا إن هو جاء لسان حال الكم الغفل، باسم الواقعية والالتزام ودور الكاتب في المجتمع، وما ينبغي وينبغي، ومثله من إرغام وإسفاف. على امتداد ما يقرب من خمسة عقود تقريبًا، أي منذ مطلع الستينيات، وإلى زمن قريب جدًّا، لم يبرح الرجل قول ذاته، ونثرها بالأسماء والصفات، بالآهات والشطحات، بالكم المجتمع مثلما بالشذرات، بين المحجوب والمرغوب السافر، ودومًا بوقار، كذا بغُنج تلك الكلمات الغانيات، تقول ذاتنا الجريحة بسهام لم يحس بها إلا من نفذت فيه، سهام حقيقية لا هلامية، مدعاة كما يتهيأ لأولاد الأدب هذه الأيام، يغذيها بمشاعر وتباريح العمر الشخصي والوطني والإنساني العام، من غير ادعاء ولا نبوءة، يتنفس من شغافها عشق مبرح، رومانسي، وشهواني، وصوفي، لا يأبه صاحبه أنه ينشره في منبر ذي سُنن محكمة، فهو من ظل يعارك لتجديد هذه السنن، ولأن أحد الأعمدة الراسخة لهذا المنبر إن لم يكن أرسخها، الزعيم الكبير علال الفاسي، معشوقه المعلَّى، كان أديبًا ومربيًا وقائدًا، وصوفيًّا عاشقًا أيضًا.
لا أدري إن كان عبده مقتنعًا بالقيمة الخصوصية لخاطرته، ومزيتها بين الفنون الأدبية، أرجع الأمر إلى اختلاف صامت بيني وبينه حول رأيه فيما كتبت عن قصصه، المضمومة في مجموعة «الممكن من المستحيل». فإني كنت تناولت بعض هذه القصص في سياق بحث لي لدبلوم الدراسات العليا في الآداب، في موضوع «فن القصة القصيرة بالمغرب؛ في النشأة والتطور والاتجاهات» (دار العودة، بيروت، ١٩٨٢م). أذكر أني ملت إلى اعتبار تلك القصص نصوصًا انطباعية، في شكل لوحات ونفثات تعبيرًا عفو الخاطر، جميلة في ذاتها، وإن افتقدت مقومات البناء القصصي، وما يحتاج إليه هذا الفن عمومًا، مما هو معلوم به ومشتهر عنه. وقد تطيَّر صاحبي من تقويمي معتبرًا إياه تجنيًا، لم يكتب شيئًا من هذا، وإنما وجد الصدى فيما تناقله أكثر من واحد، إما مرجعيًّا أو ليحمي الوطيس. وأنا ما زلت إلى اليوم عند رأيي النقدي، ما أحسب الرجل إلا معي رغم المتزلفين إليه؛ فهو كأنما استنكف عن مواصلة طريق القصة القصيرة إلا قليلًا جدًّا، أحسبه لا يجد وطره فيها، بينما واصل يتحفنا بسانح القول الجميل مما يحتاج إلى تصنيف منظم هو غنًى للمكتبة الأدبية العربية بالمغرب بلا جدال، وسجل حافل بذكريات وومضات عن الزمن المغربي والعربي على امتداد عقود مشحونة. وهو بهذه الكتابات، مثل عديد المواقف الوطنية والثقافية المشهودة له، المنبثقة أصلًا من حميا شخصيته الإنسانية معدنًا، الشاعرية منبعًا، المذوتة بروحية مولعة وعشق بلا حدود، وبحياة مرت كلها في مرافقة الإخلاص، لا قسمة فيه بين الأنا والوطن، بين المغرب وأمة العرب، بين الحي والشهيد، ففيه بعض الشهيد في الحياة، وبمكابدة التفاني والعفة والغنى عن إسراف الدنيا وتهتك وتفسخ ما شهده خلالها من تكاثر القوم وتساقطهم تباعًا؛ إلا الغني عن رب العالمين. إن واحدًا من هذه الطينة، وبهذه الخصال، والسجايا، بالسلوك اليومي له بين عمله وهو يأكل الطعام ويمشي كسائر الناس في الأسواق، خفيف الظل، واثق الخطوة، قليل الجسم، كبير النفس، بوداعة الفجر ونعومة المساء، بكل هذا وما لا تحده كلمات مستعارة من رطب جناه، لمن الأمثلة النادرة والمبجلة لشرف المثقف والصحفي والكاتب والفاعل السياسي في مغربنا الحديث نرى فيه ملامح من صورتنا الكلية، وإن اختلفنا معه في هذا الخط أو ذاك، فلأنه عاش من أجل أن يحفظ للآخرين حقهم في الاختلاف، جاهرًا برفضه للطغيان والاستبداد ودعاة الصوت واللون الواحد، رافضًا أن يكون بوق أحد، أو أن ينزل من السفينة ليتركها تغرق، أو يقاضي ربانها على عمر التجديف وهو يقود أمامنا حلم الوصول إلى بر الأمان، أحسب في الأخير وليس الآخر، أن ما روَّعه هو ما يجمعه قول سيد الشعراء جدنا أحمد أبي الطيب المتنبي في بيته المأثور: