لخاطر الوقت المضيء١
١
فلو أن الأرض التفتت إلى جهة من أمس، لفسحت لك مكانًا خارج جغرافيا المكان، واستسلمت طوعًا إلى ناحية الظل بعد أن طال الهجير، تجذبها مرآة ناصعة تتجاذبها بدورها انعكاسات الأعمار وأقاصي الديار، ومنها فيك تتراءى صور ما مضى، مرجعة كالصدى، خارقة بينهما سمع الدهر، مهفهفة الضياء، طليقة كوجهك السمح، لك كل هذا المدى.
٢
فلو أنها استجمعت نفَس الأجيال، شهقت بما عشناه، من كل ما فات، وما نحن فيه من هذا المحال، لعادت تراك كما كنت، وفوق ما صرت، أدنى من فاكهة القطاف، وأسمى من أن تُطال، بينا مواقيت الرجال، على عهدها صاعدة كما هوادج الجبال، أما بقاياهم، أووف، فسدًى وسدًى! لو عادت تفتح عينيها لرأتك، أنت منذ الآن في عينيها، وها نحن وإياك نزهو بجيلنا، لم نبِع ولم نشرِ، ولا شرونا ببخس ولا ثمين، أيُّ بؤس! حتى ولو حاولنا ملكًا لا نبكي على طلل محيل، نخبك صاحِ فكأس الزمان لنا ملأى الجمام، ومن حقنا دومًا أن نختال!
٣
خذوا الصورة الآن قبل فوات الأوان، هو ذا فتى شب عن الطوق قبل الأوان، باكورة «تنقوب» (بلدة ميلاده) الأخماسية سرت لذة ومددًا إلى فاس الإدريسية، أيقظتها من سبات، وهَّجتها بالعنفوان. خذ الصورة هو ذا، كما لو أنني لحظتها أشد على جمرة الزمن الفاسي، لأراها كرة ثلج تدحرجت من أعالي الجبال، يمتطيها الولد الأبيض قادمًا غلالة طيف، ورعشة ضيف، وباقة من أقحوان. لم تحط بأرض، كلا، وشهد، أجل، لكن من علو أتت، ونحو أعلى عليين سمت؛ أوليس أبناء هي من عشب «ظهر المهراز» سنام الزمان؟!
٤
عمر الكرة الآن تمام هذي الأرض، بين استواء وهضاب، البطاح فيها ماء، لغة أينعت بين الشعاب، زادها، وقدتُها، طوفان ما كان، ما صنعناه زين الشباب، وخدود وقدود، وتجاعيد.
مكنونة بين وشم ديار سكنناها وطي كتاب، في القلب ضنناهها، على الجلد اندبغت، هل أريكم جلدي (؟!)، لم نخنها يومًا ولا للبيع عرضناها، ولا سامت خسفًا، كما هي أحوال هذي الأرض، آه، في ذهاب وإياب؛ كرة الثلج، لمن لا يعلم، صارت جبلًا، أعلى من «تنقوب» ومن …
٥
فلو أن «ظهر المهراز» يوم كانت المغنى والمعنى، جاءت تحدثنا لقالت، وروت، وبكل ما حوت من أبهاء القول وأبهة الكلام، فبديع البيان، إلى أن يعيا ولن يعيا اللسان، أنها عرفت فتيانًا هم النجب، ذوى عود العدا، هم الأعلون الشهب، عندي أنك جلهم، فذهم، سواء بالبوح، أم بالجهر، وأجمله كل هذا العيان.
٦
في الصباح الباكر يستيقظ عبد الحميد، يتذكر أن ديك أمه يلاحقه ليوقظ نباهته كي يستبق الطريق، أيامها كان وحده، يقطن جلبابه، لم يحفل به بعد أي رفيق، ولا همه، أيضًا، ذاك السعال الأبحَّ، إحم/إحم، أن الرفيق قبل الطريق …
٧
متورد الوجنتين أراه، طافحًا بالبشر، واثقًا كألف يقين، بسيطًا كالهواء، خفيفًا كلحظة عابرة أو كما الظل يأوي إلى زهرة الكستناء، يتدرج من طابق ذاك الحي المهترئ اليوم صعودًا، والدرج نزول، لا يبغي صعودًا زائفًا إلى طابقهم الثالث، أولئك المردة، قبل أن يمسخوا إلى قردة! وهو لا يبغي إلا ماءً حارًّا من الكفتيريا يملأ به إبريقه لبرد كفور، وسيشرب شايًا، ويسوغه بكعكة من درة، ليمضي بعدها إلى درسه، فسيحًا كالسماء!
٨
هذا الجبلي القادم من عرين النسور، وللنسور كالأسود عرين، لم يكن قد رآه أحد، طبعًا غير الواحد الصمد، إذ حييًّا، مختلج النظرة كاليد، يذهب إلى درسه الصباحي أو المسائي، يغرف من هنا وهنا، من الضوء إلى النجم بلا سؤال أو أنين، لا يكف يطلب المدد؛ فإن خانه سعيه أو انتظاره، لم لا حدسه، نحن الذين توهمنا وقتها أنَّا جئنا إلى حضرة الأبد، طوى الصمت إلى الكلام، بلا عتاب أو ملام، وعاد إلى صلاة زهده، قد نام على الطوى أو الهوى بلا كمد.
٩
هذا الفقيه ابن عبد الله، جبار النحو والعربية، وابن تاويت بالعلم والظرف يغيث، والطرابلسي حظ النقد العربي، والسرغيني مع المجاطي، وحدهما جبلة الشعراء، وغيرهما هباء، هكذا يسير عبد الحميد يطوف بالكلية متعبدًا كأنها الكعبة تارة، وأخرى ينأى بنفسه عن أوثان صغيرة كل زادها من العلم خاطرة، أو تتعثر في بضاعة بائرة، بالنفس حرقة تذكو على جمر السؤال، وصمته فيها كأنه لوثة بين قوم، كنتُ فيهم، لست منهم، ديدنهم قيل وقال!
١٠
غادرت فاس قد تعددت في وجهي الأطياف؛ قائد وسيد وخل وأشباح وأسرار من أمام وخلاف. أنت مكمنها، حيرتني، حيرتني، وما اهتديت إلى يقين إلا بعد أن تفادح فينا الغم، واستفحل الضيم، أنت تعلمها تلك الأعوام العجاف. بين جنبَي حنين إليها رغم كل الحيف، فجناها سُلاف. من بعيد إلى حيث رحلت، لا هروبًا بل شبوبًا، جاءني صوتك وقادًا، وانبرى للملمات ساعدًا ومدادًا، كل من قال من الفتى أجابه الدهر، رويدك، منذ دهر والحب له إيلاف!
١١
أيها الرئيس الجسور، يا أخًا لي لم تلده القوافي والبحور، قد لقيناك أمس بين بارقة من أمل وضائقة من ثبور، وها أنت اليوم تعود سيدًا ومسيَّدًا، ملء السمع، ملء البصر، في القلب لآلئ من أحبة، وعلى الثغر برهان سعد وحبور، ويا أيها الأعزة، أيها الأوفياء في زمن البلاهة والجبناء، لو أن لي شدو الطيور لغردت مثل الفرزدق يوم ناكفه جرير، منشدًا «أولئك أصحابي، فجئني بمثلهم» ووالله قد جمعتنا حول حبك المجامع أيها الرئيس الجسور …