نزار قباني … في فاس
ما أجمل هذا الوقت الذي لا يشبه إلا وقته، قد اخترق المكان والزمان، وتسامى بموهبة الإنسان، وأكاد أراه، رغم بعده القصي يتدلى لي الآن كفاكهة، ما ألذها، دانية القطاف، رغم كل ما قد تثير في النفس من هوًى وشجن.
في مطلع العقد الستيني، وأنا زمنها غض الإهاب، المترحل المترجل من الدار البيضاء إلى فاس، من ضجيج الصناعة وعقل المال إلى دار العلم والتقى وبديع الجمال، جئت طالبًا، وما كنت أحسب أن روحي ستبقى العمر كله أسيرة، حتى بعد أن غادرت عاصمة المولى إدريس الثاني، معلقة إلى آذان الصوامع وفاتن الألحاظ وشقشقة الماء ينبع من عيون وشغاف الكلمات. ولم تكن أي كلمات، بل سلاف اللفظ، ومعين البلاغة، ورقصة الصور والإشارات، من شاعر كان وقتها يخطر بين القلوب والقوافي، ويمشي مختالًا تتجاذبه الفتنة والآهات. هو لا غيره، نزار قباني، وها هو دفعة واحدة يحل بالمغرب، وبعد عبور بعاصمته الرباط يشد الرحال إلى حيث أريج فاطمة الفهرية ما يزال فواحًا في جامعة القرويين بعد جامعها. لا أعرف كيف خطر للشاعر البهي زيارة المغرب، وإن كنت أذكر جيدًا أنه حل ضيفًا على اتحاد كتَّاب المغرب، الذي كان يرأسه يومئذٍ الفيلسوف والكاتب محمد عزيز لحبابي. وقد نظم الاتحاد لشاعر الحب العربي الحديث لقاء مع الجمهور الثقافي للمدينة في «دار الفكر» مقر هذه المنظمة العتيدة يومئذٍ، حضرته نخبة ثقافية وجرى توثيقه في مجلة «آفاق» بالتعليق والصور.
من الرباط نقل الدكتور لحبابي، وهو شاعر، أيضًا، الضيف المشرقي الكبير إلى فاس، وهو ما كان طبيعيًّا وضروريًّا أن يحدث، فهو عميد كلية الآداب فيها، أو فرعها التابع لجامعة محمد الخامس، والعاصمة العلمية، تسميتها القديمة، عنده أجدر مكان لإقامة الشعراء وساكنتها أذوق وأكثر استعذابًا لكل ما هو حسن وطروب؛ أوَليسوا أندلسيين، ومنهم خيرة الأدباء، وفي بيوتهم، كما في الشام، يطرب الحجر! كنا في فصل الربيع، إن لم تخني الذاكرة، وما يمكن أن أسترجعه يشبه طيفًا جميلًا أحاول لملمة خيوطه الملونة، أو رؤيا أكاد لا أصدق أنني جلست في حضرتها، وتهادت فيها الأنغام والأشكال، ووجوه المليحات زدن المكان نورًا وبهاء. نظم أستاذنا لحبابي لنزار قباني الجلسة الشعرية الفاسية في أعرق مؤسسة تعليمية عصرية بالمدينة هي ثانوية «ليسي» «مولاي إدريس»، من هنا تخرجت النخبة الجديدة الأولى والتحقت بالجامعات والمدارس العليا الفرنسية بأسلاكها المختلفة، وعادت لتتسلم مقاليد الأمور في مغرب الاستقلال بدءًا من سنة ١٩٥٦م، فيما نحن الآن جلوس في مدرج الثانوية في ربيع سنة ١٩٦٦م «والأفق طلق، ووجه الأرض قد راق».
ما زالت صورة المدرج ماثلة في عيني، بمساحته الصغيرة، ومنصته العميقة العالية، هناك جلس قباني، إلى جواره عزيز لحبابي، ومدير الليسي، ونحن الجمهور قبالتهم كلنا آذان وعيون، وأعناق مشرئبة، وأنفاس متلاحقة. المكان غاص بأساتذة اللغة العربية أولًا، وبوجوه بدت متآلفة، متعارفة فيما بينها، وبسيدات لا شك من بيوت علم ومحتد عريق، وهن قبل هذا يجملن في تقاسيمهن وقوامهن ما هو معلوم عن نساء العاصمة الإدريسية من حسن خلقة وإشراق طلعة. بينهن ممن كنت أعرف عن بعد الأديبة خناتة بنونة التي سيصبح لها حضور لافت في الفضاء الأدبي لمدينتها، مع سيدات أخريات يمثلن فعلًا طليعة مثقفة ومتفتحة في مغرب كانت المرأة تشق فيه طريق نهضتها وتحررها في مجتمع موسوم عمومًا بالمحافظة.
فجأة ران صمت رهيب؛ فإذا الآذان صارت تنافس الأبصار في البصر، تتشرب الكلمات الأولى وملامح الشاعر في آن، وغنيٌّ عن الذكر أنه كان حسن الوجه والسمت، وهن يغرفن من عينيه الخضراوين قدر ما استطعن، والكل حقًّا متوله تظنه وهو يستمع إلى الشعر أنه حضر أكثر من فرط هواه بالشاعر، ولا غرو فالرجل كانت شهرته قد طبقت الآفاق مبكرًا. أحسب أنه هو بدوره لم يكن مصدقًا درجة لهفة الجمهور لسماعه وتذوقه الأصيل لشعره، جالسًا، منصتًا في رهبة وخشوع لا تشوبهما، إن شابت، إلا بضع آهات وزفرات تسري كنسيم له اعتلال في أواخره، يقرأ نزار، يهمس، لكلماته جميع أصوات الأرض ولغات الكواكب والرغاب، يغني للحب، وأمامه قلوب فطرها الشغف والوله، لذلك قرأ وأجاد، وزاد، مستجيبًا لرعشات أنامل خلتها تتحسس وجهه، وعيون تغرق في مرج عينيه، وبقينا على ذلك وقتًا كأنه ليس من الزمن، وهو الزمن كله، لم نفطن إلا وقد خرجنا من المدرج لنتلفع بمعطف مساء فاس قرب باب أبي الجنود، وأذان صلاة المغرب يعانق لحظتها قرص المغيب، وخطوة، خطوة لمحت شاعر الجمال يغيب، أخذته عني أحضان وحفاوة فاسية، وأسرار لا يحس بها إلا غريب أو حبيب موله بغياب حبيب.
بَيدَ أن أخطر سر في زيارة نزار قباني لفاس لم يكشف عنه النقاب أبدًا هو كون اللقاء به تم خارج حرم الجامعة، وكان حريًّا أن يلتقي بطلبة الآداب، وعلمتُ أنه رغب في ذلك، وهناك من عاتب العميد لحبابي على استئثار الصفوة الفاسية بالشاعر الكبير وإبعاده عن طلاب كانوا يعرفون مسيرته الشعرية جيدًا، وبينهم موهوبون، يدرسهم كذلك شعراء نابغون. واليوم أستطيع أن أقول، وقد طُوي زمن كامل، أن السبب إلى الوضع الطلابي المحتقن آنذاك، وانشغالنا نحن طلبة كلية الآداب، بأمور النضال (كذا) وهو ما ظنه البعض، من أسف، يتعارض مع الحب والغزل مما فُطر عليه الإنسان فوق كل الأيديولوجيات، ومن الطريف حقًّا أن تلك الفترة شهدت صدور ديوان لأحد طلبتنا النابهين والرومانسيين، محمد عنيبة الحمري، بعنوان: «الحب مهزلة القرون»!