شهرزاد تبوح لجمال الدين بن الشيخ … في باريس
كأن اليوم أمس، وقاعة الدرس المستطيلة تمتد أمامي، أنا أحد جلسائها، بين نخبة من باحثين جامعيين، وطلبة مرشحين للدكتوراه. كنا في نهايات الثمانينيات، واللقاء امتد سنوات.
بالكوليج دي فرانس، هذه أهم مؤسسة أكاديمية وأرقاها علميًّا في فرنسا، لا يحظى بكرسي التدريس فيها إلا فطاحل الأساتذة وكبار العلماء، ميزتها أنها تعطي العلم لكن بدون شهادات. من هؤلاء أستاذي وصديقي المرحوم جمال الدين بن الشيخ (١٩٣٠–٢٠٠٥م) الذي كان إلى جانب شغله كرسي الأدب العربي في جامعة السربون، يدير حلقة دراسية في الكوليج يحضرها، ويشارك في تسيير حلقاتها أساتذة وباحثون مختصون.
حضر بن الشيخ إلى فرنسا من بلده الأصلي الجزائر؛ حيث كان مدرسًا بكلية الآداب، وكان مجيئه بمثابة احتجاج على السياسة المتبعة من طرف الرئيس بومدين، فانخرط مباشرة في سلك البحث العلمي باريس، ثم أستاذًا في جامعة فانسين، وبعدها في السوربون إلى تقاعده فوفاته رحمه الله. كان أستاذي بن الشيخ، وهو واحد من بين من أعددت أطروحتي لدكتوراه الدولة في السربون على يدهم، وهو العميق الدراية بالثقافة الفرنسية، موسوعة أدبية لها؛ عربيًّا قحًّا، وذا غيرة على بلاده وأمته لم أعهدها إلا في قلة ممن عرفت أحياءً وأمواتًا من الأكاديميين والأدباء المقيمين في الديار الغربية، وخارجها، أيضًا. نال الراحل شهادة التدريس، ثم الدكتوراه عن جملة أبحاث دقيقة عن الأدب العربي في العصر الوسيط، هي التي تضمنها كتابه المرجعي «الشعرية العربية: بحث في خطاب نقدي»، وهو من أبدع مفهوم الشعرية العربية ليصبح عنوانًا على الدراسات التي تختص بتقعيد تراثنا الأدبي ومفهمته وتخصيص جمالياته. وقد ساعده باعه الشخصي كشاعر مُجيد بالفرنسية على تذوق النصوص، والتغلغل إلى مجراها العميق، فبزَّ المستشرقين (بلاشير، وجاك بيرك وغيرهما) باعتبار أن الرجل كان يتحرك في حقل ثقافته الأم، وينشد تمجيدها في مواجهة ثقافة الآخر؛ إنها مسألة هوية.
لم يقتصر بن الشيخ على سبر الهوية العربية بفحص مكونها الشعري الجمالي المعرفي، بل ذهب إلى صميم جوهرها الحلمي، إلى فضاء التحليق بالخيال، بواسطة أجنحة الحكاية، فقدم بهذه المقاربة إغناء لأحد أكبر مصنفات المخيلة الإنسانية، الحافل بالتجليات العربية، نعني كتاب «ألف ليلة وليلة». على امتداد سنوات ونحن نتحلق حول جمال الدين بن الشيخ في «الكوليج دي فرانس» وهو يعيد قراءة النص الألف ليلي، قد حرره، أولًا، من ترجمة المستشرق الفرنسي أنطوان جالان (١٧٠٤م)، التي لحقت بها ترجمة الدكتور جوزيف شارل ماردروس، منطلقًا من طبعة بولاق القاهرية، ومحققًا كثيرًا من الحكايات المصطنعة أو المنحولة يعود بها إلى بيئاتها الأصلية، ويغربل أصولها، فارسية أو عربية، وما أضافته إما مخيلة المترجمين، أو رواة الليالي المتعاقبين. بيدَ أن الأهم، بعد هذا وذاك، في هذه المعالجة هو الاختصاص بالعنصرين التاليين: توكيد الرؤية الحلمية، والعناية بالحكاية، وهي شفوية باعتبارها مكونًا ثقافيًّا للشعوب، هي المحسوبة في عداد الثقافة غير العالمة، (الخاصة غالبًا للعامة) في وجه نقيضتها الثقافة العالمة ذات التفوق والهيمنة والحظوة في المجالس والدواوين المؤهلة للتدوين.
كانت حكايات ألف ليلة وليلة عند أستاذنا تخرج من ثناياها المجعدة ينقلها إلينا متشحة في غلالات ملونة، قد اكتست بهاء الأرض وسحر الخفاء الذي ينقلك من أرض الواقع الغربي الصلد بماديته الماحقة إلى آفاق الخيال المتوقد تسبح فيه الشخصيات والمغامرات، وتتناسل معه الحكايات تباعًا راسمة جغرافيا من خطوط طول الأرض، وخطوط عرض قارات الحلم والاستيهامات، لكن بينهما دائمًا قلق العالم الذي شاغله القبض على الحقيقة الهاربة، ومحاولة تصنيف حوافز ومولدات الخيال والتخييل البشريَّين، مع شيخنا بن الشيخ وحوله انبثقت في باريس الثمانينيات حلقة الباحثين الحالمين الشغوفين بتراثهم بوصفه إضافة حلمية إنسانية استطاعت أن تعبر القرون، وتحبل بأجمل ما في الإنسان. حلقة كانت متمكنة من أجدِّ مناهج البحث العلمي للعلوم الإنسانية في الجامعة الفرنسية يومئذٍ، وهي تُخضع النصوص لقراءات وتأويلات شتى تنتج المعرفة بقدر ما تُغذي فضولًا مستمرًّا يجعل من الأسرار وسحر الخفايا وتوالي المغامرات يقود هذا كله عنصر التشويق، الذي أنقذ شهرزاد من سيف شهريار، قد جعلت من رواية الأخبار مجزأة، والبوح مقطعًا، والغواية مركبًا، والحكاية برمتها مناط تعبير ترقى فيه الرؤية الشعبية إلى صعيد الرؤيا؛ حيث الخيال هو قطب الجاذبية بوصفه أقوى ما لدى الإنسان، لا مصدر ضلال أو هوى، وباختصار يصح في قلب الثقافة الإنسانية.
حين انتهت محاضراتنا في الكوليج، وتفرق أعضاء حلقتنا، أذكر الأعلام عبد الفتاح كليطو، الشيخ موسى، إبراهيم النجار، عبد السلام الشدادي، مع جامعيين فرنسيين مرموقين، ومضى كل إلى غايته، وغادر شيخنا الجامعة بسبب التقاعد إنما ليقع نهائيًّا في غرام شهرزاد ويغدو أسيرها، هي التي كرس لها كتابًا سابقًا بعنوان «ألف ليلة وليلة، أو القول الأسير» (غاليمار، ١٩٨٨م) ثم كتابه باشتراك مع أندري ميكل، وكلود بريمون «ألف حكاية وحكاية» (غاليمار، ١٩٩١م)، فقد عكف منذئذٍ، برفقة زميله البروفيسور أندري ميكل المتخصص في الآداب العربية وأستاذها في الكوليج الذي كان مديرًا له، على إعداد أول ترجمة منقحة وأمينة وموثقة لليالي، وأهم من هذا مصوغة بفرنسية فخمة وحده بن الشيخ يجيدها بين أقرانه، وهو الشاعر المفحم في لغة بودلير، الحداثي الأصيل، وهي التي صدرت تباعًا عن منشورات غاليمار الباريسية، في سلسلة «لابلياد» التي تُعد أرقى سلسلة أدبية في فرنسا تخصص لنشر أعمال الخالدين، وبهذه الترجمة الضخمة والرصينة تجدد الاعتراف ﺑ «ألف ليلة وليلة» كقطعة نفيسة في تراث الحكي الإنساني، وجمال الدين بن الشيخ كعربي وشاعر ومثقف رهن حياته لتسمو الحكاية ويبقى الخيال والدهشة سيدا العالم أبدًا.