محمد زفزاف: ناسك من الدار البيضاء
حين نشر محمد زفزاف (١٩٤٦–٢٠٠١م) قصته القصيرة الفريدة «الغيلم» كان قد غدا طويل الباع في كتابة الإبداع السردي قصة قصيرة ورواية، وفي الأولى خاصة، واحدًا من أعلامها الكبار في العالم العربي، فهو الذي أنشأ نصوصه السردية منذ منتصف الستينيات، واحتفلت مجلة «شعر» البيروتية وبإشراف يوسف الخال على إصدار روايته الرائدة «المرأة والوردة» (١٩٧١م) التي أبرزت بطريقة متميزة إشكالية العلاقة بين العرب والغرب وطموح التفتح لدى جيل جديد. ومضى زفزاف على امتداد أربعة عقود يسهم مع أعلام كبار في ترسيخ البنيان القصصي لأدبنا الحديث، يصور واقع مجتمعه، ويبرز بؤر التوتر والتطلع والحلم لدى أفراد طبقة منهكة وتنحني في الحياة كالديدان؛ كل ذلك بطرائق وتقنية فنية عالية.
أقول قصة «الغيلم» التي أثارت لدى نشرها في نهاية الثمانينيات اهتمامي، بعد أن علمت خبرها من المؤلف نفسه، الذي كان أحد أصدقاء حياتي منذ جاء من القنيطرة، مسقط رأسه، والرباط حيث درس، ليتسلم وظيفته التعليمية في إحدى ثانويات الدار البيضاء، ويقضي بها عمره كله، حي المعاريف الإسباني البرتغالي بالذات، إلى أن وافاه الأجل المحتوم بسبب مرض خبيث. بعد تجربة زواج لم تطُل عاش السي محمد وحيدًا، منصرفًا بالمرة إلى عمله الوظيفي، وكتابته، تتخللهما علاقات وصداقات محدودة جدًّا، أما حركته الخارجية فإلى أحياء محسوبة، وإلى مدينة طنجة الدولية في فصل الصيف، وكفى. لكنه وجد على طريقته كيف يتواصل بهدوء وسلام، وهو ما كشفته حين طرقت باب شقته المتواضعة ذات صبيحة شتوية؛ فأدخلني إلى غرفة الاستقبال البسيطة والباردة، وتلفع بغطاء، تاركًا يده تعبث بورقة كرنب بعد أن دعاني إلى الجلوس. كان في بيته ضيف سابق، بل شريك مقيم هو الغيلم، ورأيته يتحرك حرًّا، يخرج رأسه ليقضم قليلًا من الورقة ويعود يخبئه أو يتنقل بسلحفائيته المعهودة في جنبات الغرفة؛ حيث يبدو أن له أماكن وعادات، وزفزاف ينقل بصره بيني وبينه وسيجارة يرسل دخانها رخيًّا في الهواء.
كان زفزاف ككاتب وإنسان يعيش حياة يمكن للمجتمع المحافظ أن يصفها بالبوهيمية، أي العيش باختلاف عن المجتمع، وهذا في الوقت الذي دشن في الأدب السردي، قبل محمد شكري، الكتابة عن حياة الهامش والمهمشين، انطلاقًا من رؤية اجتماعية وجودية ومأساوية.
ويمكن لمن يرغب في دراسة وفهم المجتمع المغربي في مرحلته أن يعود إلى السرد الزفزافي ليجد فيه كثيرًا مما يضيئه، ويعري تناقضاته. هذا القاصُّ ذاته، وبالرغم من الحكم المسبق الصادر عليه عاش حياة رضيَّة، وبدا في وجوه عديدة من سلوكه وعيشه متساكنًا ومتآلفا مع بني جلدته، وجيران حيه بصفة خاصة، إلى حد أن أصبح يمشي في زقاقه حد أن أصبح يمشي في زقاقه بحي المعاريف تتبعه كالشيخ شلة أطفال وهو يعبث برءوسهم الشعثاء، ويوزع عليهم الحلوى بسخاء، تظنه حين تراه درويشًا، وقد أصبح كذلك على مر الأيام، ولذلك، أيضًا، قصة تستحق أن تُروى.
مع مطلع التسعينيات بدا لرفقة محمد زفزاف أنه يتغير، ويوثر العزلة، وإن جالسته اختلط حديثه بآيات وأحاديث نبوية، ويحبذ النطق بالعربية الفصحى، وعمومًا صار لخطابه مضمون تقوى. عزز هذا تحول مثير في هندامه. فقد عرفناه دائمًا متقشفًا في عيشه وملبسه، يقظًا، لا مسرفًا ولا مفرطًا، مع إقبال نهم على الحياة وإيمان بالجديد ومناصرة له منطقًا وإبداعًا، وها هو ذا دفعة واحدة يرسل لحيته مثل أي واحد من فقهاء المغرب، هو الذي كان في شبابه الأول ذا رأس من فصيلة «الهيبي» تقريبًا، كما كان بعض جيله، ويحيط عنقه بكوفية حمراء أو رمادية فلسطينية، وأحيانًا يدير في يده سبحة، ويمشي الهوينى في زقاقه، من بيته إلى الأماكن الحميمية التي كان يُقبل فيها بانتظام وانسجام على ملذات حياته، ومنها يئوب إلى البيت الذي كأنه لناسك أو برج عاجي.
وقد اتفق لي أن زرته يومًا، وهو في هذه «الطريقة» فوجدت بابه نصف موارب، وهو جالس على حصير، ملتفًّا بعباءة وحوله، وهذا الأهم، امرأتان جالستان القرفصاء، تستمعان إليه بهيبة وخشوع، فيما الشيخ زفزاف يبدو كمن يتلو أورادًا، ويرسل تعازيم، أو شيئًا من هذا. وقد مضى وقت قبلن يده وانصرفن، وكأنه حدَس استغرابي فبادر يبدد الغموض، وربما ما قرأه مني استنكارًا أو تعجبًا، قائلًا ما معناه، وهو للمناسبة موجز في الكلام، مثل قصصه، دالٌّ، وموحٍ، قال رحمه الله: «أحب أن تعلم أني مورَّط في هذا الوضع، وسكان هذا الحي استنكروا عليَّ في أول عيشي معهم سلوكًا، ثم ما لبثوا مع طول العشرة أن عدَّلوه، ورأوا فيَّ فقيهًا، ويعترفون لي بخاصية الكتابة، وبما أني كاتب بشهادة الصحف التي تنشر صورتي، والتلفزيون الذي جاء ليسجل معي هنا، قالت نسوة الحي لم لا أكتب لهن تعاويذ لأغراض شتى، ثم إنهن يستظرفنني، ويشفقن على وحدتي، ومنهن من يرسل لي طبيخًا طيبًا بعلم الأزواج، وأنا، كما ترى، أتجاوب مع أحزانهن وأحلامهن، أليس هذا في النهاية هو عالمي في الكتابة؟!»
مضى عهد وإذ بي ألتقي بمحمد زفزاف في إقامتي الباريسية، وتشاء الأقدار أن أزوره في المستشفى بالدائرة ١٣، وهو يعاني من الورم الخبيث، وكله أمل في مواصلة حياة باتت آفلة، لكني رأيته وسمعته يتوجه بثقة وحرارة إلى المولى عز وجل أن يرأف به، ويعيده إلى وطنه معافًى. وإن الأديب المغربي الشاب محمد المزديوي ليذكر وهو الذي أظهر كل النبل في مرافقته لهذا الكاتب الكبير (وهكذا كنا نلقبه، نكاية بشكري الذي أحب أن يتسمَّى الكاتب العالمي!) وهو في أقصى معاناته مع المرض. وحين عاد في الرحلة الأخيرة إلى الدار البيضاء، كان الناقد والباحث الورع الدكتور إدريس الناقوري، يقضي معه جل الوقت في العيادة حيث أسلم الروح، وهو يتلو معه القرآن الكريم، ويخبرني صديقي السي إدريس بأن ما لاحظ فيه من ابتهال لا يعدله إلا قوته الأدبية، ومجده القصصي الذي لا يُعوض حقًّا؛ وتلك الأيام نداولها بين الناس!