ما أصيلة بلا سيدي الطيب؟!
يحدث أن الصيف يأتي مسربلًا بموجه الشفيف، كقدٍّ أهيف خفيف، صيف تعلنه النوارس تحلق من حيث لا تعلم وهي تغنج بالرفيف. زبَده لاهث يلثم الضفاف، والشوق لعودته ذاع سرُّه، تسمعه الهتاف. هي ضفاف البلدة المستريحة على كتف المحيط، منذ كم من السنين، تسمو بالفرح البسيط ولا يهزمها الأنين. تذهب وتجيء حاملة وِزر الأيام، مهدهَدة بين الفصول، وحنينها للشمس، لكرمة الأحبة، لنخوة التاريخ أبدًا يصول. إذا مررت بها شتاءً وجدتها منكفئة على حزن أليف، أو هي تكرع من مواجدها صامتة، وفي الصيف تنضو عنها ظلال الكمد، عارضة أسوارها لشمسها اللافحة تحت سماء قريبة، تمسح جبهتها بالأبواب والشبابيك والعتبات تلوِّنها تارة بالأزرق، أخرى بالأبيض، والنجوم أبدًا قبلات تُقطف من الخدود، والصبايا كالقطا يخطُرن، ومن السطوح يُطل ورد، تُلوح أيد ترشق بالقدود. هي أصيلة المغربية البهية، البلدة الأبية، كأنها لم تكن إلا بقعة في الجغرافيا، وإذ بها تزهو اليوم علامة في التاريخ، تُمسي صنو الأبدية.
لأصيلة منذ ثلاثين حولًا موعد مع نفسها كل صيف، مع عيدها الذي أقرَّه له ابنها البار الفنان والدبلوماسي محمد بن عيسى بتشريع قلبي؛ فدخل في حبه الآلاف منذئذٍ وعادت محجًّا للقاصي والداني، وصار الفنانون والمفكرون والأدباء ورجال الرياسة والسياسة يتدافعون إليها بالمناكب، من كل فج عميق يفِدون، تراهم يتنافسون، كل بما آتته فطرته أو واتته صنعته، وكلهم بحبها يهذون، وحول سيدها ابن الهادي بن عيسى يقيمون حضرة الصفاء والوفاء، أوَلم يعثر على أفضل شفاء لأوجاع القلب وشقاء العقل في هذا العصر: تحقيق النهضة والتقدم للإنسان بالفكر والفن، وجلب المنفعة بقوس قزح وخيوط الشمس الذهبية؛ فأيُّ عبقرية!
كان الروائي العربي الكبير الشيخ الطيب صالح نفعنا الله بشامخ أدبه ورفيع خلقه، من أوائل الملتحقين المؤسسين لمهرجان أصيلة الذي ستسير بذكره الركبان؛ وذلك في زمن بداياته الصعبة والمربكة، لم يكن قد تحقق له بعدُ الإجماع ولا الإشعاع الدولي الذي حازهما في الحاضر، فارتاد الموكب، ومشى فيه بهامة عالية، بلا تردد ولا وجَل، وفق اقتناعاته لم تتبدل، ونِعم الرجل. كنت عرفت سيدي الطيب، كما يسميه خِله محمد بن عيسى، قبل الوقت الأصيلي بزمنٍ يعود إلى نهاية الستينيات، أتذكر وقد عثرت على عدد من مجلة «حوار» حيث نشرت للمرة الأولى روايته الفريدة «موسم الهجرة إلى الشمال»، وقدمت عنها للتو عرضًا لسنة الإجازة في الآداب، ومنذئذٍ اقتفيت أثر ما يكتب، إلى أن يسَّرت لنا الأيام فرصة التعارف، وربطت بيننا أسباب الود ما رسَخ — ولله الحمد — وامتد.
التحقت بموسم أصيلة الصيفي متأخرًا عن كثير، وإن صرت متقدمًا في الالتئام بجمعه والالتزام بشروطه على كثير، وأظن أني فضلًا عن فرصة تبادل الحوار والمعرفة، والانفتاح على آفاق أوسع، كسبت من هذا المهرجان معرفة رجال أخيار، بعضهم يوزن بميزان الذهب، وإن كان لي بعد سيد ذلك المقام أن أنتقي بينهم؛ فليس عن سيدي الطيب عندي بديل في الاختيار. فإن سائر الزوار حين يحلُّون، تراهم يتلفتون ذات اليمين، ويسألون ذات اليسار، أحضرَ الرجل أم هو في الطريق، أما غيابه فحذار، فما إن يروه، وأنا منهم، إلا وطفح البِشر على الوجوه، وغمرنا بوجوده السرور، وترى الحياء في محياه، يتنافس صوته وسناه لتقديم السلام أو الرد بأحلى كلام، قد التفَّت حوله الأطياف، وتجاذبته الأحضان والألطاف، وما بقي قريب في مجلس أصيلة أو بعيد زكي الأعطاف، إلا لوصله اشتاق، وبحضرته طاف، والله وحده يهب لخلقه هذه الجاذبية وييسر لعبده المومن وأديبه الموقن ما يزكِّيه لدى العباد من شمائل لِطاف. والحق أن بلاد السودان بفضله غدت شريكًا قلبيًّا وأدبيًّا في موسم أصيلة، انعقدت أخوة بنيها مع الأهالي الزيلاشيين؛ فأمست لديهم حجًّا سنويًّا، يقبلون عليها يؤجرون البيوت، وينتدون ويولمون ويصخبون، وما هم في الحقيقة إلا من أجله يقبلون، وحول غرته وطباعه السمحاء ينيخون، إذا تكلم الطيب صالح أسرعوا ينصتون كأنهم سيُرحمون، وهو بكل مجلس حل، وبأي ممر عبر، تراه يُغضي حياءً ويُغضَى من مهابته، والقوم أبدًا، كبارًا وصغارًا، بذكره يلهجون، من سيدي محمد بن عيسى إلى مريده طلحة جبريل، إلى من ترقرقت أحداقهن، قلن أسكننه باكرًا في السويداء، ويحمينه بسواد العيون.
ومن عامين خلَيا تباعد الطيف البهي، وما حل سيدي الطيب بأصيلة، روحه فيها دائمًا لكنه هو جسدًا ليس فيها، إذا دخلت فندق زيليس حيث يحب أن يقيم، يفضله على إقامات تلك «النجوم»، أحسست حقًّا بالغياب. عادة حول مائدة الفطور نلتم حوله، نستيقظ باكرًا نحن الذين نكاد لا ننام نخاف أن يفوتنا عذبه، أو لا نجني رطَبه، وبين قاعة الندوات الحسنية وباحتها الداخلية، ومحافل السيد بن عيسى الحاتمية، يظل أكثر من واحد ينقل البصر بين المنصة والمدخل متفقدًا؛ فلا يرى من اعتاد يجلس مستريحًا داخل عباءته الفضفاضة، تُجلي وجهه جبَّته البيضاء، ملامحه رخية، وجسده مكتمل فيه وكأنه ليس منه، لا يبدي قلقًا ولا توجسًا إن تحرك، يحتاج إلى حنجرته فقط ليصمت كل متكلم، وينتبه أي ساهٍ، يفحم كل ناطق بأي حجة جاء؛ فلسانه البليغ مرآة ظنه وقلبه، وبالطيب والطيبوبة ورجحان العقل وذلاقة اللسان ينطق سيدي الطيب، مذ عرفته ووددته في أصيلة وإلى أن غاب عن موسمَيها الأخيرَين تمنعه صحته عافاه الله، فلكأنها وهي العامرة، وبوجود واستمرار رائد نمائها محمد بن عيسى زاهرة، تبدو للعيان قاعًا صفصفًا أو تكاد، وهذه مبالغة في القول، والهوى يشط بصاحبه فلا ملامة، إنما الأرض كانت دائمًا بأهلها، والمكان والزمان لا معنى لهما بدون الإنسان، الذي يألف ويؤلف، ويقيم سكناه في قرارة الفؤاد، أما أصيلة فباقية بقاء رجالها الأفذاذ، وتلك الأيام تُداوَل بين الناس من عهد عاد.