فراغ الأمكنة … بعد تلفها
١
اليوم هو الأحد الموافق لتاريخ التاسع من شهر نونبر لعام ٢٠٠٨م. المكان هو مدينة الدار البيضاء، ساحة مرس السلطان بالمدينة الجديدة، وبالتحديد الباحة الخارجية لمقهى كونكورد المشرفة على الساحة، من زاوية اليمين وشارع مرس السلطان، من ناحية اليسار.
الطقس ربيع بينما نحن في منتصف الخريف. عمومًا ليس في المغرب، منذ وقت، فصول محددة، والزمن يمشي متقاسمًا بين الحر أو القر، بين الجفاف أو الغيمة الممطرة. سماء زرقاء زرقة حادة لا تحدث إلا في ازدهار فصل الربيع وأوائل الصيف، وبذا فهو طقس استثنائي. الطقس حار بعض الشيء، وهو استثناء آخر لهذا الموسم الذي يعرف دخول البرد؛ ولذا ترى السكان يحتكمون إلى خبرتهم الماضية قد ارتدوا ثيابًا صوفية أو من قبيلها اتقاءً وتحسبًا لبرد يعونَ أنه قريب منهم، وهو على كل حال يخزهم مساءً هو الذي يسمونه السَّمرة.
في الزمن الستيني للقرن العشريني مثلت ساحة مرس السلطان أحد مراكز حداثة الدار البيضاء، ومظاهرها التمدينية، وشخصت فيها مع الحي الذي تتبوأ وسطه السمات العمرانية الفريدة للمدينة، الباروكية بصفة خاصة، التي يمكن القول بأنها بصدد الانقراض اليوم، وآيلة حتمًا إلى ذلك بعد أن تغير وجه وساكنة المدينة رأسًا على عقب. في هذه اللحظة من ظهيرة الأحد، والشمس في كبد السماء، على غير عادتها هذا الموسم، تبدو الساحة متراخية، كسولة كقطة تتمطط في الحر، ولا تخاف أن تتعرض بعد للاعتداء؛ فالمغاربة يعتدون بضراوة على الحيوانات، لا يقيمون لها حسابًا قط. بضعة أفراد يملئُون كراسي المقهيَين المتقابلَين، اللذين عاشا طويلًا، وما زالا، تنافسًا صامتًا سواءٌ بين مالكيهما، الفرنسيين، وبعد انتقالهما إلى ملكية أهل سوس الذين يسيطرون على تجارة البقالة وكثير من المطاعم والحانات؛ كما بين زبائنهما يضمرون ويجهرون في آن بالعداء، مظهرين غيرة عجيبة على المكان كأنهم أصحابه. وأنت لو تأملت لوجدت أنهم محقون، لا سيما قسم منهم يقضون ربما نصف حياتهم فيه، وبه يتزوَّدون ليلًا بكميات من الخمور لمواجهة قلق غدهم، ثم بعد طول تطواف إليه يرجعون.
ليست ظهيرة الأحد هنا على هذه الدرجة من الخمول، ربما البؤس؛ فهناك دائمًا زبائن عابرون أو يتسكعون. هؤلاء اعتادوا أن يتأخروا في نومهم، ومباشرة، أي في حدود الحادية عشرة صباحًا، يغادرون بيوتهم كما لو أن النار تحرق مؤخراتهم؛ ليصلوا إلى أحد المقهيين، يزعمون أنهم في عطلة، والحقيقة أنهم يهربون من زوجاتهم ليتكالبوا بأسرع ما يمكن على احتساء عدد لا بأس به من الجعات، يرونها حتمية لإزالة ما تبقى من خمار البارحة، وفي الوقت يراهنون على سباق الخيل، بينما أحاديثهم عن أمجاد الماضي وغزواتهم في النساء وتطلعاتهم الخاسرة لا تكاد تنتهي أم ينتهي الزمان. لكنهم يضطرون في الأخير للمغادرة بوجوه شاحبة؛ ليعودوا قبيل الثانية ظهرًا إلى بيوتهم لتقاسم وجبة الغذاء مع زوجاتهم، تراهم عائدين مطأطئي الرءوس كأنهم يساقون إلى المشنقة، مفلسين وخائبين ومحبطين، ولا حول.
يوم الأحد ينتهي في الساحة قبيل العصر، فلا أحد يرتادها مساءً، ولو اتفق أن مررت بها لوجدتها قفرًا، تشبه سوقًا تفرق باعته وشراته بعد عمر يومًا كاملًا، بل تحس فيها بالوحشة، خاصة في أيام البرد والمطر، أضف إليها مناسبات الأعياد الدينية حين تضطر المقاصف للإغلاق بتعليمات من الأمن، وهو قرار حديث العهد جاء متوازيًا مع تصاعد مد الملتحين، وذا ما لا يفهمه أبناء هذا الحي وأمثاله، يضيعون البوصلة ويصابون خلالها بالاكتئاب، خاصة منهم الجيل القديم الذي لا يستسيغ أن يمتد المنع إلى كل شيء.
لو أن واحدًا من هؤلاء، من الأحياء أو الأموات، عاد ليُعاين ما أمست عليه مرس السلطان لضرب أخماسًا في أسداس. ستتداعى في ذهنه الذكريات، وما أكثرها، عن مجد مضى لزمن انقضى، وتتواتر الصور لآلئ منيرة بالليل والنهار، وبإمكانه أن يشغل الشريط في قصة متعاقبة، كما في لقطات منتقاة، في هذه الأخيرة على الأصح؛ لأن الشريط كله سيصبح جارحًا بقوة ما سيثير في النفس من حنين وتفجُّع بسبب التضارب المريع بين واقعين وزمنين لمكان واحد، في قلبهما إنسان، أناسي، يتشبث بالبقاء واحدًا، رغم قولة إنك لا تسبح في النهر مرتَين. لنقُل، مثلًا، إنه يمر بها والساعة منتصف الظهيرة، وفي القلب منها منصة دائرية يعتليها شرطي، أنيق الهندام، وسيم وفارع الطول، تدير يداه برشاقة حركة المرور؛ فيمضي على إثر كل حركة ذراع وإشارة أصبع سرب سيارات متمهلة، لا يصدر عنها زعيق زمامير، ولكأنه وهو يواصل إصدار الإشارة تلو الأخرى مايسترو لجوق سِمفوني، بلا ملل ولا كلل.
وها هم فرنسيون وسيدات أنيقات يفوح لمرورهن عطر خفيف تتنسمه جالسًا كنت أم عابرًا؛ فهي جنة فيحاء هذه لا واحدة من سوح. إنهن غاديات رائحات براحة فلا تلتهمهن العيون، وإن أدهشن الأبصار وغمرن باللهفة البصائر، يقصدن متجر الورود الكائن بتقاطع شارع مصطفى المعاني، يُعِد لهن باقات تنافس ورد الخدود، بعدها يمضين إلى ألذ حلواني يرجعن من عنده بعلب موشاة، وشهوتهن إلى الحياة مفتوحة على شهوة الرجال المستريحين في باحة المقهيَين إياهما يشربون فاتح شهية مدخلًا للغذاء؛ لينخبوا كئُوسًا عِذابًا عندما يأتي المساء.
لو أن واحدًا من الأحياء أو الأموات انطلق مساءً من متجر الحلواني آخذًا وجهة جنوب شارع مرس السلطان، يمينًا، وليكن الوقت التاسعة ليلًا، والمصابيح مضاءة ترسل نورًا نظيفًا، وأعمدتها صقيلة، ووصل إلى سينما «لانكس» ليجد نفسه في مدخلها المفرح واقتطع له تذكرة ليُمضي قسمًا من السهرة مع فيلم أمريكي أو فرنسي رفيع؛ فالأفلام العربية والهندية متروكة لقاعات المدينة القديمة والشعبية، ثم دلف رأسًا إلى البهو المنشرح، وها هي فتاة بلباس أحمر تأخذ بطاقته وتقوده تحت نور خفيف إلى مقعد وثير بقطيفة حمراء، وإذ يبدأ العرض يعم القاعة صمت كنَسي فلا همس، اللهم أن يتلامس محبون أو يتلاثمون، وقد تخطر في الجو زفرات أو تتقطع أنفاس من تأثير لقطة ذات تشويق تشدُّ الأعصاب؛ لتعود تنفرج مع إعلان استراحة ما ألطفها تدوم ربع ساعة ويتناول خلالها المشاهدون الإسكيمو البارد اللذيذ، بدونه لا تكتمل متعة المشاهدة. وحين ينتهي العرض يتفرق الجمهور بهدوء، ويسيرون في أمان قبيل منتصف الليل، لا ما يعكر هدوء الليل أو يهدد أمان العودة إلى مساكن قد مرت أمامها شاحنات جمعت نفاياتها، وأخرى غسلت أرصفتها، وفي الصباح تنعكس عليها الشمس وضاحة، بينا في الهواء تُشم نسمات كالعبير.
لو أن واحدًا من الأحياء أو الأموات اجتاز مقهى الكونكورد خطوات على يمينه شمالًا لاستوقفته مقهًى صغيرة، الوحيدة في مطلع السبعينيات جاءت لتنافس الأخريين الشهيرين، هي في الحقيقة قامت على أنقاض مطعم إيطالي ربما كان اسمه «الماما» ما ألذ اختصاصاته. لم يعطِ المالك الجديد اسمًا لمقهاه، واكتفى بتغيير تأثيثها بكراس خضراء مريحة، وطاولات دائرية محيطها الأعلى زجاجي؛ فاتخذها كاتب هذه الكلمات مجلسه النهاري، لفطور الصباح غالبًا، وقهوة العشي أغلب، وسماها «الخضراء» وبها عُرفت تدريجيًّا بين زبائنها، راحوا يتأسسون من أفراد هيئة التدريس، ومن محامين أو قضاة، وبعض سماسرة، ومن مخبرين، أيضًا، يرخون آذانهم لسماع ما يقال عن السلطة القاهرة في ذلك الزمان، إلى أن تميزت لاحقًا بمجلس كُتاب ومثقفين، يتداولون فيه شئونهم وشجونهم، ويحسب فيها المدرسون أعوام ترقيتهم المنتظرة، والأدباء مدادهم المهدور في الدفاع عن طبقة لا تحفل بالقراءة وشعب مغروس في التواكل، حتى صارت «الخضراء» مقصد زوار من كل فج عميق، وادَّعاها بعد ذلك أغراب عن الساحة لهم، حين رحل عنها من اتخذها «زاوية»، وكل هذا عفَّى عليه الزمن.
الساعة الآن تجاوزت الثانية بعد الظهر، والمطأطئون لا شك يتغذون وسيقيلون، وربما خرجوا بعد ذلك في نزهة متكلفة مع زوجاتهم إن لم ينفسوا حنقهم في مشاجرتهن، أو في الهتاف لفرق كرة القدم الأجنبية، وأنا لا أرى حولي، لا الأحياء ولا الأموات، ما أنا فيه، أمامي وحولي كتلة من الفراغ، انتبهت متأخرًا أني جلست فيه، هو مقعدي لا الكرسي، وفنجان قهوتي، هو وقتي ورفقتي وصوتي، هو أنا أو تماهينا؛ فإن باعد بيننا ماسح أحذية، شحاذ، امرأة تولى بها العمر تطلب سيجارة، أخرى تندب حظها العاثر لما قديمًا عاشت هنا، لن تلبث أن ترانا عدنا تدانينا. أنا الآن في جلستي المركزة كقهوة إكسبريس وحدي، لا شارب، لا عابر، أمسك الساحة من رأسها أولًا، لأعود أقبضها من تلابيبها وأخضها، أهزها، لأحييها كي تفيق ربما من غيبوبتها، عساها تستعيد زمانها، فلا أتحصل من كل تعنيفي سوى على هباء، إنني أمسك بقبضتي الفراغ ونثار غبار وهواء. في لحظة توقفت حواسي كلها، لا أسمع، لا أشم، لا أرى، خارجي لم يَعُد مني، داخلي فاض فوقي، بينهما إحساسي وقواي انفلتا من عقالهما وتركانني، لا أتذكر كم، جالسًا لا أقوى على النهوض، متحفزًا حد الجنون وفي آن مستسلم لكتلة الفراغ مني، أمامي، حولي، الفضاء الوحيد المتاح لي كي أعبر مني إليَّ؛ أي إلى لا أحد، ولا شيء، وشمس ربيعية تضغط بقوة على الأسفلت بينما الفصل خريف؛ أي خريف هذا؟!
٢
اقتنعت أخيرًا بأن الإحساس بالفراغ جزء من أوهامي المتراكمة، ومن واجبي على نفسي أن أزحزح ثبات الأشياء، وألا أتوقف خاصة في منتصف طريق أنشد فيها أكثر إلى ما مضى وانقضى، وأعترف بأن فكرة كهذه زاحمتها عشرات الأفكار والخواطر التي يبدو أنني لا أتحكم في مسارها ونموها الصاعق كوَرم كاسح، وهذا ما يجعل أقوالي خاضعة لنسبية قصوى، وليلتزم القارئ معي أكبر قدر من الصبر والحذر؛ لأنني هكذا لا أكف أذهب وأجيء.
الآن، لا مناص من الذهاب أو سيحدث شيء في عقلي لا أتوقعه، والحل أن أنهض. نسيت أن أذكر بأني نسيت جوعي، أجَّلت غذائي وفي معدتي فراغ شاسع، وفجأة قررت أن أتوجه إلى حي المعاريف، رغم أن عقرب الساعة ذاهب نحو الثالثة. هذا حي أوروبي سابقًا، بمعنى أن ساكنته تكوَّنت من الإسبان والبرتغال، وبعض الطليان، والتحق بهم المغاربة تباعًا ثم اجتاحوه ليُلحقوا به بداوة ماحقة. بناياته الأصلية فيلَّات صغيرة تسوِّرها سياجات نباتات، قرنفل وزنابق وياسمين، مع عمارات محدودة بطابقَين، حسنة التبييض، ذات شرفات مزينة بأصص. في المعاريف كنيسة، وقاعة سينما، ومطاعم وحانات لهذه الجالية التي عرفت كيف تتآلف وتعيش ببساطة الفقراء وبهجة السعداء، أيضًا. وقد تعايش معها المسلمون بيسر؛ لأنها لم تستعمرهم، ولا شروط حياتها المادية أعلى منهم بكثير، اللهم ما تختص به من ذوق في معيش وسلوك، فيما الأوروبيون الأثرياء والمتميزون أقاموا في أحياء مختلفة انفردوا بها تقريبًا. لذا سهل على المغاربة أن يقدِّموا لهذا الحي الجميل والهادئ ويسكنوا فيه واجدين، وقد بدأ أهله الأُول يعودون إلى ديارهم الأصلية، شققًا تئويهم بأثمنة مناسبة، أحيانًا زهيدة.
من بينهم صديقاي الحميمان الراحلان: الشاعر الرومانسي الثوري أحمد الجوماري، والقاصُّ الروائي محمد زفزاف الشهير بيننا بالكاتب الكبير. جاء الأول في نهاية الستينيات من مسقط رأسه بالحي المحمدي فسكن المعاريف، وقريبًا منه كان يعلِّم في مدرسة إعدادية، والثاني مثله في وقت قريب، قدِم من الرباط بعد أن تم تعيينه للتدريس بالإعدادي، فما وجد أفضل من هذا الحي لسكناه، حيث أقاما كلاهما العمر كله. هل لي أن أنسى القاصَّ البيضاوي العريق إدريس الخوري، الشهير بسيدي حبيبي، نزيل زنقة فوريز، منه إلى السماء، في غرفة احتفلت بالحداثة والطلائعية قبل أن تبتذل جزافًا «عند كل من هب ودب»، كان قبلهما، هو والبشير جمكار، يظللهم جميعًا بجناحيه النسر، متعدد المواهب، أحمد صبري ليبسط عنوة سلطة درب غلف على أحياء كازا قاطبة. قلت لو أني أقصد المعاريف الآن، أبدأ بالجوماري لوجدته في الجولة ما قبل الأخيرة في مقصف البرطقيزي «أريناس»، وسيستقبلني منشرحًا، عيناه تبسمان خلف نظارتيه الخضراوين، وخصلة من شعره تتهدل على جبينه العريض، وسيتعجب كالعادة حين يراني مقبلًا؛ لينتقل إلى الترحيب، فما يلبث أن يشرد تاركًا أصابعه تدندن بموشحه الأندلسي: «فيك كل ما أرى حسن …»، وفي الباحة شمس مرحة، تتقطع عليها ظلال بقية برتغاليين في النفس قبل الأخير. وأقصد بعده زفزاف، يفضل في هذه الساعة أن يجلس في تيراس مقهى الزيادي، يضع جسده النحيل على كرسي ويطلب كوكاكولا؛ فهو ينبذ القهوة، ويسترسل في تمسيد لحيته المرسلة تحت أشعة دافئة، يتمنى ألا يزعجه الغرباء، منهم معلمون كثر، ومتطفلون من صغار الكتبة؛ فإن ألحوا رفع عينيه إلى السماء، مرددًا لازمته الشهيرة كوَلي صالح: «الله كبير». أما ابا ادريس، فسأجده مادًّا رجليه الطويلتين في تيراس مقهى «لبريس» ينفخ سجائر كازا سبور تباعًا، وهو ينظر إلى «المروك» عابرين، ويوجه جمكار إلى أقصر السبل لكتابة القصة القصيرة، فيما أصوات المراهنين ومدمني «الأبرتيف» تتعالى من الداخل، والنادل مبارك تتخاطفه الطلبات، وصبري ما يفتأ يرسم المخططات الاستراتيجية لنهضة الكرة المغربية.
أجمع وقفتي بحماس؛ فها أنا أقرر أخيرًا التخلص من عجزي، ووقف الغرق في لجة الفراغ ودوائره، أخشى أن تتسع أمامي فتفلت من تحكمي؛ أوه، هذه مكابرة، فهل أتحكم في شيء بعدُ اللهم أن أتوهم أني أفعل. دليلي يحضر كبداهة، يتحداني هو والساحة المقفرة إلا من جدثي الطافي فوق أديمها المترجرج في كتلة الفراغ الصماء، أنا فيها وخارجها وقاب قوسين من الزوال. دليلي يخرج لي لسانه ضاحكًا عليَّ، ساخرًا من مشاريعي، مستخفًّا بكل اسم وذكرى بين زمان ومكان، وينطق اللسان، يصرخ في سمعي العيي: أوَأنت مصرٌّ على حلم اليقظة؟ أوَلا تستفيق لحقيقة ما جرى ويجري وتنبذ حديث الحنين؟ كفى، عن أي جوماري تتحدث، لمَ تنبش قبره وهو الذي رحل عن عالمك منذ سنة ١٩٩٥م؛ ولذا انقطع غناء الموشح في المعاريف ورحل عنها كل طير بعد اجتثات آخر شجرة. وزفزاف، ألم تكن إلى جواره في المستشفى الباريسي وهو ييأس من آخر «محاولة عيش» ليلفظ أنفاسه في «مصحة المنبع» البيضاوية، وعلى رأسه الناقد الورع إدريس الناقوري يتلو: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي؛ ولذا فأطفال زنقة «المون بلون» صاروا يتامى ونساؤها ثكالى يا ولدي، ولا أحد بعده يهب المهابة في الحي، والشرفات كالحات بواكي. أما الخوري، أيها العصي على الموت، الشقي بقوة التذكر، أفِق، فهو رحل إلى الرباط منذ دهر ليكسب رزقه بين الكلمات، وبين «العلم» و«الأوسيون» يصطاد بعض الحكايات، ثمل بها، يشربها في قدح الأيام، فاسأل بعده أين الليالي اللواتي …
لا بأس، قررت أن أمضي إلى زنقة الأمير عبد القادر، سأنشغل هناك إلى مقدم المساء بكتابة مقال أو قصة للعدد القادم من جريدة «المحرر»، سيفرح بها مصطفى القرشاوي، وعبد الله بوهلال سيتقن إخراجها، والشيخي يَعُد رصاص حروفها، و… وإذ أعزم على مناداة تاكسي لينقلني إلى حي «الباطوار» الشهير ينبت كأنما من تحت الأرض أمامي الصحفي النِّحرير عمي حسن العلوي فأعجب منه، أولًا، وأطلب منه، ثانيًا، أن يرافقني إلى الجريدة وشرحت له غرضي؛ فارتدت منه نظرة هلوع، وقبل أن يولِّي الأدبار يطلب لي الستر؛ هزني من ذراعيَّ و«جعر» في مسمعي: كفَّ عن أحلام اليقظة، ماذا؟ القرشاوي؟! بوهلال؟! «المحرر»؟! واطلب بن بركة أيضًا! فشكرته أن نبهني وقلت لا بأس، اترك هؤلاء سأذهب لأعود عمر بن جلون فهو من أسبوع لم يحضر إلى الجريدة، والنضال والافتتاحية بدونه لا جمر لها، ازداد عمي حسن بُهوتًا فيما زدت إصرارًا على الذهاب إلى شارع «كاميل دي مولان» ولم يعنني في شيء أن البيت صار عمارة، ودم عمر الذي ظنناه تكبد إلى الأبد فوق أرض محطة البنزين حيث اغتاله الجبناء زال، فرُحت من خطو إلى خطوة أقتفي ككلب أثره.
قبل أن أنفذ مشروعي وقف عليَّ رجل خلته بلا ملامح، كأنما سحنته قناع. مدَّ لي ورقة عليها خطوط؛ فصرفته عددته متسولًا، ربما أصبح نصف البلاد يتسول علنًا وسرًّا؛ لكنه أصر يقرب مني ورقته بوجه جهم ووقفة صلبة، اقتربت وقرأت الآتي: «السيد أ.م، بلا سلام، ننبهك إلى ضرورة التزام السلم الاجتماعي، والكف عن النبش في القبور، ونحيطك علمًا أن لجنة الإنصاف والإنصات والمصالحة المسلحة قامت بواجبها أحسن قيام، واشترت من مناضليك تاريخهم، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، وهم اليوم من الحامدين الشاكرين؛ فلم لا تقتدي بهذا السلف الصالح وتريح نفسك والعالمين من هذا الوسواس القهري؛ ألا اعلم أنه آخر تنبيه، أو نتخذ اللازم الذي لا تعرف، ومن أعذر فقد أنذر، حرر في الرباط …»
اختفى عديم الملامح ودست على ورقته بقرف وأنا أقوم من جديد لأقصد حي بورغون؛ حيث سيكون أحمد المجاطي قد أنهى مشية الظهيرة وأتبعها بما تيسر من الرحيق، قبل أن يتغذى بشهية نادرة في انتظار أشهى الليالي وأجمل الشعر، وكالمهلوس صرت أهذي: الشعر، الشعر، أين الشعر؟ رباه أين الشعر؟ صدفة، وفي غير وقته، مر صديقي الأستاذ محمد القماص، هو من قيدومي الساحة، وكان قد سكنته وقتًا لوثة الشعر؛ فقلت له جابك الله، تعال رافقني إلى صاحبي المجاطي، إنني وحيد جدًّا في يوم الأحد هذا أخاي. رغم عجلته وضع يده على جبيني وواساني في الحين، أخاي أنت محموم، خصك ترتاح، وزاد وهو يتباعد، اسمع غدًا سأذهب إلى الرباط ونيابة عنك سأزور قبر صديقك المرحوم المجاطي، أنت الذي سرت في جنازته منتصف شهر أكتوبر ١٩٩٥م، وبالأمارة تهيَّب كل الشعراء دونه أن يؤبِّنوه ففعلت!