المحطة رقم ٢٠
كيفما كان الحال فالموت فاجعة، وإن وجدت من الناس من يحوِّل مناسبته إلى تأسٍّ مفتعل، أو استعراض أحزان ملفقة أو تعاطف مرتجل مع رموز لا يملك وإياها أي صلة حقيقية. هناك من يتخذ من الموت مناسبة لتأثيم الذات وتبرئة النفس من تُهم مصطنعة إزاء الموتى، كأنما يرغب في استدراك محبتهم التي ضاعت إلى الأبد. هناك آخرون يحترفون التشييع، أي السير في الجنازات، واللغو فيها وهم أجدر من غيرهم بالشفقة، خاصة حين يحرصون على أن تلتقط لهم التلفزة «صورًا تذكارية» إلى جانب هذا أو ذاك.
ليس من السهل أن تكتب عن الراحلين، إنما من الأفضل أن تخرس إذا كنت ستغتابهم أو تقضُّ مضجعهم في العالم الآخر، خاصة إذا كان لحمهم طريًّا تحت التراب. وإذ أجازف بكتابة شيء عن الفقيد القاصِّ والروائي الكبير محمد زفزاف (تُوفي بتاريخ ٧ يوليوز ٢٠٠١م بالدار البيضاء، إثر مرض عضال) فمن أجل التخفيف من فاجعة موته، ولمصارعة هذا الموت عنادًا، ولأن زفزاف من رفاق العمر والحياة والأدب، والدار البيضاء على الخصوص وفيها، فيا لبؤس الصغار، ويا لخسارة الكبار.
•••
-
في صيف ٢٠٠٠م وصل زفزاف إلى باريس للمرة الثالثة لإجراء فحوص طبية حول الورم الخبيث الذي أصاب فكه. في زيارته الأولى عاد بنتيجة قال عنها إنه إيجابية، وأثارت جدلًا في وقتها لأنها، حسب الصحافة، كذبت تشخيصًا سابقًا لأطباء مغاربة. لكن، في الزيارة الثانية، وبعد فحص تأكد أن الورم خبيث لا مفترض، فصدق التشخيص المغربي. لم يكن يبدي خلال زيارتي له إلى شقته الصغيرة بحي المعاريف بالدار البيضاء، وكان الداء قد استحكم، أي قلق زائد، أجده صورة على الأقل رخي البال، غير عابئ، وهو يردد لازمته بأن «هناك موت واحد» وأن «الله كبير» ويواصل حياته كما يشاء ويستطيع. أما الزيارة الثالثة (الأخيرة) فقد كانت مباغتة له وحتمية، فقد «زاد عليه الحال» بالعبارة العامية، ورغم ذلك وصل إلى باريس بثقة، تكاد تقول إنه جاء لإجراء فحوص عادية كالمترفين، أو للسياحة.
-
معلوم أن فقيد الأدب المغربي حظي برعاية ملكية، تضمن نفقات العلاج وتوابعها. هكذا، فبعد عبور قصير بالمستشفى صارت إقامته بأحد فنادق حي الأوبرا؛ حيث كان يستقبل في البهو المريح زواره ببشاشة وترحاب رصين، كعادته، وهو محتفٍ بنفسه ببساطة وتواضع، ومكتفٍ، أيضًا، بما لديه وليس عنده؛ أجل فرغم ظرفه وتبسطه في المجالس عرفته متحفظًا ومهذبًا، منصتًا أكثر منه متكلمًا، مشتعل الذكاء بهدوء، نَزاعًا إلى العزلة، والبعد، كما يقول، عن «صداع المروك» الذين صدعوه كثيرًا حقًّا بحي المعاريف، أرادوا شراء صحبته عسفًا، أو ركوب كتفيه؛ ليصبحوا كتَّابًا فيما هو يعلم جيدًا أنهم بلا مواهب، ومع ذلك كان له حدب على هؤلاء، وقدم لغير واحد قصصه أو كلامه، وما نفعهم ذلك في أن يستمروا.
لم يكن السي محمد قلقًا أكثر من اللازم خلال إقامته بالفندق، في انتظار ظهور نتائج بعض الفحوص. في مطلع الصيف، ثم والصيف يوشك أن ينتهي، سيقرر البروفيسور «سودان» الاختصاصي مسئول جناح أمراض الأنف والحنجرة والفم، بمستشفى Salpétrière-La Pitié ماذا سيفعل مع الحالة (الورم المتطور)، وهل من إمكانية لعملية جراحية، أملًا، ولأي غاية. -
بين انتظارين ذهبت إلى المغرب وعدت إلى المغرب لألتقي به في بهو الفندق، كما ألفت، الشاب الشهم، والقاص الواعد محمد المزديوي، الذي أشهد أنه بذل كثيرًا من وقته وجهده وصبره مرافقًا ومعتنيًا بوفاء بالراحل أسابيع صعبة جدًّا. ولقد دعوت الراحل، ومن معه، مساء يومه إلى جلسة خارج الفندق لأسرِّي عنه، فلم تطُل لتعب ألمَّ به. أحسست به للمرة الأولى، يكابر ويداري مخاوفه، وهو وما كان أبدًا شكاءً، بكاءً، له من دهره ما تعوَّدا، ويعلن لي معتذرًا انشغاله بأمور كتابية متفرقة ولم يكن وقتها قد ضيع القدرة على الكلام، وما عرفناه مهدارًا أو محبًّا للخوض في أي كلام؛ اقتناع سرى على عدة أمور من حياته.
-
دخل زفزاف إلى المستشفى بكيفية قطعية في نهاية سبتمبر ٢٠٠٠م، بعد أن اتُّخذ قرار إجراء العملية الجراحية بتفاؤل، كما أكد ذلك البروفيسور سودان، الذي كان يظهر قليلًا جدًّا، ويختفي كثيرًا، مثل «ثعلب» الكاتب، في قصته الشهيرة. نزل المريض في الجزء الجنوبي من المستشفى المذكور الشاسع جدًّا، في البنايات الجنوبية، الحديثة الطراز بناء ومعدات، وفي جناح الاختصاص المعلوم حجِزت له غرفة في الطابق الثالث (غ ٣٠٤)، تقع على يمين المبنى، قبالتها سطيحة واسعة يفصلها عن الغرفة نصف جدار زجاجي يسمح بدخول كثير من الضوء، إذا صحا الجو، طبعًا.
تهبط بالمصعد الآلي، لتعبر الشارع، وبعد خطوات تلِج أحد الأبواب الخلفية لمستشفى، وبعد مائتَي متر مشحونة بالقلق في نفسك قبل أن تمتطي المصعد إلى الطابق الثاني، منه تخرج لتلوي يسارًا فيسارًا؛ فتصل إلى الغرفة ٣٠٤ الموصد بابها دائمًا، على الأغلب. بحذر تضع يدك على قبضة الباب، تديرها وتدفع قامتك متلصصًا، تطل على مدخل ضيق في زاوية منه مغسلة التعقيم. في الخطوة التالية، متوازية مع رأسك إن أطل أو اشرأب جهة اليمين، يراك وهو مسجًّى على السرير، وتراه أنت ولا تراه، أي كما عرفته وعرفك. ثم تنكر وتستنكر وأنت غاضب وحزين أنه هو أيضًا، وتلك صورة من صور عديدة تحتاج إلى تفاصيل.
ستكون محظوظًا لو وجدت المزديوي؛ إذ سيخفف عنك وقع ما ترى، تسبق ابتسامته المريض لاستقبالك، وسيطمئنك في الحين أن كل شيء على ما يرام، وترى الكاتب الكبير تنحني عليه مقبِّلًا جبينه، فيمد إليك ذراعَين نحيلتين كالعود، بينا لحيته تحت وجهٍ صغُر كثيرًا.
ما تزال مسدلة. لقد أجريت العملية قبل أيام، وهو لم يعُد قادرًا على الكلام بسبب إحدى تبعاتها؛ لذا يدعوك بإشارة إلى الجلوس إما على كرسي إلى جانبه، أو على حافة السرير. تراه يتحامل على نفسه ليقيم ظهره، وتشرع أنت في إغداق الإعجاب والدعاء بالعافية المسترجعة قريبًا إن شاء الله، وفي نقل تحياتٍ من المغرب لم يرسلها أحد، وتدخل الممرضة لشأن طبي؛ فتنصرف واعدًا أنك لن تتأخر في زيارة، ستأتي غدًا، وبعد غد، و…
ربما عشية أعياد الميلاد، وباريس متبرجة بزينتها واحتفالاتها، أو عقب ذلك؛ لكني متأكد أن علاقتي بالخط رقم ٦، والمحطة ٢٠ فيه، وصلت عندئذٍ إلى ذروة توترها. أصل من مطار أورلي، وقبل التفرغ لأي شأن أقصده الأول محملًا قبل ذلك بطمأنة سمعتها من أصحاب وطيبين مقيمين هنا؛ لكني حين ولجت غرفته في التاريخ المذكور كدت أتراجع، لولا أن نظراته تتشبث بي للبقاء، يدعوني للاقتراب منه. إنك لا تتمنى الموت لعزيز، ولكني دعوت أن يلطف الله به وأنا أراه ينزف الدم، وغيره، من كل أطراف جسمه، ومن فيه، وثقب في حنجرته خاصة، وعيناه تبدوان كالمنقلبتين أو الناعستين فيما هما مشدودتان باستماتة لا يحيط بهما، أي بفضاء الغرفة، أظن ببصمة ضوء طبعتها شمس تحاول أن تتنفس بصعوبة من بين السحب الكثيفة لتعكس سريعًا على أرضية السطيحة المقابلة للغرفة ثم ما تلبث أن تختفي، بينا يداه مطبقتان على المصحف عونه وملاذه، يشير بإحدى سبابتَيه إلى بقعة الضوء، يحاول أن يقول شيئًا بابتسامة تتشكل بعسرٍ على تقاسيم وجه صغير وشاحب، على جسد ضؤُل.
قلت إن دهشتي كانت كبيرة، ستزداد كبرًا بعد زيارات لاحقة، وأنا أرى فيها زفزاف يصارع قدره يومًا بيوم؛ فما رأيت أقوى ولا أشجع، في تلك الأيام الطويلة والأسابيع الشتوية الباريسية الموحشة، بالورم الخبيث يتأكله، والغرفة الواحدة لا تتبدل، والممرضات يتنقلن كالآلات، ولا طعام ولا شراب غير كيس اصطناعي يمتد منه أنبوب بلاستيكي رفيع موصول إلى مِعًى ينقل تغذية سائلة أسابيع مديدة، وغير زيارات متقطعة لأفراد دائمًا من العابرين، والمتعجلين، الخائفين من الموت مثلي وأكثر، وعلى شاشة التلفاز تتعاقب مسلسلات بلهاء وركيكة، ومن الصعب أن تقنع حبكاتها الملفقة والمملة قاصًّا بارعًا من عيار زفزاف، والصحف تتراكم في زاوية، وأي مزاج ليقرأها، ولأي مستقبل، ومن أين القدرة على القراءة، ثم إن من بين عباد الله من هو قليل الذوق، أو ثقيل الظل. وهذا ما فهمته منه حين عدت بعد جلستنا في المقصف أرافقه إلى غرفته. وقد أصر أن أدخل من جديد؛ فأزاح أمامي كومة جرائد وسحب كتابًا أو كتابين، واحد منهما وضع على غلافه عنوان فرعي: «شعر». ثم إنه أخذ يقلب وأخيرًا طلب مني أن أبعد عنه هذا اﻟ «…»؛ فقلت له إن لديه ما يكفي من الهموم؛ ليترك لنا نحن مثل هذه «الهموم الجديدة»، التي هي من غرائب هذا الزمان!
أوَكان ينقصه هم؟! فقد استطاع أن يصمد في وجهه ويتحداه طويلًا؛ لأنه كان مصرًّا على العيش، وهو صاحب القصة الفريدة «محاولة عيش». كان الموت عنده هناك وهو هنا في الحياة، أقلها، رغم أنه يرى نفسه، أو لا يراها، يجدف في بحر الرحيل. ثم إن الأطباء في فرنسا خاصة، في مثل هذه الظروف، يضعون بين المرضى ومصابهم حجابًا بل حُجبًا، فهم يباعدون بينهم ومصيرهم المحتوم، واهبين المريض (الميت أحيانًا مع وقف التنفيذ) كل حقوق الأمل حتى وصاحبه أوهَى من بيت العنكبوت. بالنسبة للبروفيسور سودان كان المهم هو إجراء العملية، وبعدها المريض أصبح تحت المراقبة، وبالتعبير الطبي تبقى حالته مستقرة، تعتريها هزات. أما زفزاف فوحده كان أعرف بحاله في تطورات المرض المتوالية، وما سماه قبيل انطفاء شمعته ﺑ «عام من العذاب». وما كان لأحد أن يفتي في هذه الحالة خاصة أولئك الذين يبتزون حتى من هم قاب قوسين من الموت. كنت في زيارته مرة فاقتحم خلوتنا زائر من المتنطعين، وبعد عبارات سمجة من المواساة الركيكة، كأننا في مأتم، فتح حقيبة محمولة على كتفه، وأخرج منها آلة تصوير. قفزت من جلستي أسأله خطبه فرد غير عابئ أنه يريد أن يأخذ صورة تذكارية له ومعه ولنا، والرجل على ما وصفت من حالة جسدية مزرية؛ فما كان إلا أن طردته شر طردة، وبدت علامات الارتياح على زفزاف. من أسف لم أكن حاضرًا لأتصرف بالمثل وأنكى مع كاتبة عراقية تروِّج لأدبها البائر في باريس جاءت تطلب منه محاورته حول الموت، هو الذي لم يفقد الأمل في الحياة قط، وهي التي لم يكن يعنيها غير تحقيق سبق صحفي بإبرام صفقة مع كاتب يموت؛ لتبيعها إلى جريدة سعودية كانت تقتات من مراسلاتها لها، زيادة على ابتزازها للمساعدة الفرنسية للمحتاجين، فأي خزي!
عجبًا عاد زفزاف من المستشفى الباريسي، إلى «مصحة المنبع» بالدار البيضاء، الكائنة بزنقة جنيف، خلف ساحة أوروبا، شارع الزرقطوني، أي بالضبط في الزنقة نفسها التي يوجد بها بيت عائلتي، بيت المرحوم والدي مولاي علي، وكان من أصحاب زفزاف وقرائه، وبيت المرحومة والدتي خديجة التي وافتها المنية عشية القرن الجديد، وعاد ليقضي وقتًا وجيزًا في المصحة، وفي الدار البيضاء، رغم شساعة أحلامه، وعظم آماله، فضلًا عن قوة إرادته وشجاعته في مواجهة المرض العضال الذي انتزعه منا عنوة في السابع من شهر تموز من عام ٢٠٠١م، أظن في الطابق السادس من المصحة، بالغرفة رقم ٦٢. أذكر أننا في اللحظات الأخيرة جربنا الضحك، وتذكرنا مرقص الباهية في شاطئ عين الدياب نهاية الستينيات؛ حيث أردفته خلفي بالدراجة النارية من نوع سوليكس، وتذكرنا، أيضًا، طراوة الأهداف، وكيف أردنا أن نصوغ أنفسنا ونجدد مجتمعنا بالأدب، وكان هو سباقًا، وموهوبًا، نسيجًا وحده. ما أنا متأكد منه، وأنا أرى جثمانه يوارى الثرى، في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، ما أحسست به هو أن جزءًا مني يرحل معه، وأني بذا صرت حيًّا نصف ميت، فلعمري أي جزء هذا الذي بقي مني، بأي جزء كتبت حقًّا هذه الكلمات، نصفيًّا صاح، في هذا الفوات.