سأحبك!
الفجأة، فجأة، تفاجئك، حين لا تتوق. هواء راكد. أرض هامدة. بنايات صماء، هو ذا المكان. كائنات منسية بين الأركان، أو مرمية كالحصى بلا أمان، فتات الدقائق ربما بلدان نامت في رفات الموتى، ربما أنا لا أعود، لم أكن، قد تجمعني، خلت ضممتني، خلسة المختلس، أووه، بعد فوات الأوان. ربما أنا الأَولى بعد آخر، ما لم تبصر ولم تتوقع، ولم يخطر على قلب بشر، سترى أني سأبقى الأثر، سترى أنك أعدت إلى رشد ضياع ضاع مني «يا قريب الدار ما وصلك مني بقريب». من أنت، بم الذي تفاجئني ملء هذا الحضور، ويحي من هذا الزمان؟!
ذا انطباعي الأول، عن حياة كفَّت عن أن تكون، حتى لم تبقَ. مع فارق ضئيل يشبه خيط ضوء تراه، من تحت باب. ليُخيل إليك أن هناك من لم يلفظ أنفاسه بعد إذا تحولتَ إلى سحلية. ستنفذ من تحت الباب. سترى ما خلفه. غير أنك — تلك عادتك — لن تجد سواك، سترفع صوتك: ها، هو، هل من أحدٍ هنا؟ ها، هو. لن يجيبك إلا صوتك. فتيقَّن عندئذٍ أنك صرت فعلًا وحيدًا كجربوع في الفلاة، ولن تلبث أن تقتات من بقاياك، لو شيء بقي، تقرر أن تمضي أبدًا، بلا ندم، ستكرُّ بلا رجعة. ستحاول أن تتأكد منك، من فضلة منسية ربما، في حاشية كتاب، أو بسمة طافية، نظرة عابرة، خشخشت في يدي لحظة، ثم اختفت، ما أجرحها التي أمس كانت دانية.
عندي ثلاثة في واحد: أنا، وأنتِ، ثم أنا كرَّة أخرى في حضرتك ذرَّة فانية. سرتُ وراءهم أتبعهم. أتولَّه في معترك الصحو والشدو أني منك أغتدي، وإلى منعطف النحر المضيء أُمسي. أبيض، ذاك البياض المعمَّم بالسحب الفرحة، فوقها اصطفَّ الكلام، غرَّد الطير من عينيها بغنَّته المرحة: ها ها، لبياضي رائحة فواحة، شميم عرار إن شئتَ أو شكل تفاحة نضِرة … انظر إلى السماء، كلما رأيت زرقتها موجًا في عينيك، أو حقلًا يخضرُّ، تجدني آتٍ أخفف من غلوائها، أي ما كان يُسمى في الزمن القديم بَلواك بحبها، بَلوتني يا أبيضي، بسحابة، أم بحرفك الخلب؛ أنا، أنتِ، أنتَ، ماذا تعني الضمائر، لا شيء، حين ربوعك خاوية!
على علو خافق كشهقة جبل في عمَّان، أو رقصة سالف من تطوان، وحبذا مهرة «تنطنط» كالأرانب بين البراري والوديان. كنتُ هنا في «رباط»، أنا الذي بلا قيد ولا شرط، مقيمًا بارتباطي في جغرافية الولع، وسكينة الدمع إذا اجتمع … أي قاب قوسين من حرقتك الفارهة، حين بسطتِ لي كفَّكِ في نظرتك الجامحة. أشهد أني لم أشهد أحدًا قبلك يلمُّ شتيتي ثم يذروني عصفًا من ذُرى حالاته الشتى … كحالي. كنتُ. لم أبقَ. لو أردتُ، كيف لي أن أبقى؟ أنا من يسأل، يجأر، أما أنتِ ﻓ «تضحكين لاهية/والمحب (أحسبه) ينتحب.»
عاد الشتاء، أنا الشتاء، حتى ينابيع الغزارة. السماء فوقي جَوعى أم أطعمها غيمَ قلبي.
سمِّه النوى، جمر الجوى، لما انطوى في لهفة نحو ما لم يمضِ، كحرِّ شوق إليك اشتاق، أوه، كم يدفئني هذا الرد، الرعد، الزمن الوغد، كم … سنُبقي على حواسنا حارة، حادة، كنصل الضد. سنبقى رغم شح العمر، هزء ما يقال في هي الفلاة، وغبن الدهر ننتظر المدد، تراك هذا المدد، وأنت الصمد؟!
أي شتاء هذا في سطوة الجبروت، طافح سادر في الهلكوت، أي شتاء؟!
كنت انتظرت وعدكِ قبل العصف المأكول، وحلول الليل البهيم، كنتُ يا ال على طرف اللسان، وما زلت باللحظ أهيم. رغم ارتطام الأوغاد على شموخ هواي، رغم اشتداد الهزيم. فأي شتاء أقسى من بعدكِ الملكوت، وأنا في بالي اللمَى المعسول، من أي طريق بعد اليوم إلى هذي الأرض سواء بين الرباط، باريس، بينهما كيف أموت، أي شتاء؟!
أي شتاء انعقدت فيه الأنواء. ليل يتلو ليلًا، قتل يعقب قتلًا، والنفس معي الأمارة بالأهواء. وأناك أمامي مولعة بالصمت، حتى وهي موجَعة حد اللهفة، تصبح وتمسي شاقها النظر إلى الخارج، لكنها تبقى حيث هي، من فرط شوق هائج، تتمنع على النداء. يغزر في فمها الكلام، يكاد على ضفة البوح يفيض، ثم تعود تلجمه، تقوم الليل فتحرسه، وفي النهار تغسله بضوء النهار، أناها قبلي بعدي وأمامي يقول لي وهمي إنها ستدثرني، أنا هذا المقروص كل شتاء!
قلتُ له هذه ورطتك، أنت تحب أن تذهب عادة إلى ما بعد هلاكك. كأن ما في الأرض لا يكفيك من فناء. كأن التفجع لغة أخرى تصلح اليوم كأمس صوت غناء. أم لعلك تحسب برد المسافات، اتَّشحتَ به عمرًا، سينقلب الآن، بعد كل هذا اللايُسمى … وعدًا ورجاءً. حقًّا إنها ورطتك. استكان إلى كلماته تلك أيضًا، دُربَته وأسلس القيد على مضض إلى كأسٍ في يد الدهر، وبقلب خافق كفتًى مد أخرى، يلتقط حروف ما سيقال، عساه يُنال، ثق لا شفاء إلا هلاكك!
الشتاء ليس مصيرًا، يا هذا اصطبر، هو حرفتك، ربما مثل أخرى، فهذا بالأحرى خير لك، للعمر الفاني، للمدن الغواني، للوقت المدلهم وما لا يستعاد، إلا بمر الذكرى وشح الأماني. قلق متضور ينهش كل ما في الطريق، خارج من أحشاء النسيان، شاخص كهشيم استعصى على الحريق، لا واقف، لا هو يمضي، لا باريس تسلوه، لا الرباط تجفوه، بينهما، على قلق، كأن الريح تحته، ثم فجأة هو ذا منذور للهيجان، كاسح وجبار يطويني كعصف ماكول!
الشتاء قماط، جُبة لبستها تحت سماء مدلهمة، أعارتنيها أعرافُ خيل جامحة، أرخت سدولها، وأبقَتني خارج الصهيل، بعد أن راودتني بدمي، أغوتني، احتميتُ بها، صرت فيها، أنا وإياها، وحدنا ماء منها، وهذا البدد الهائل اختفى لما اصطفاها، ارتفعت فوق الأرض طباقًا، لا أخاف هول الغواية، ولكن شتاء يدفع خيل وجيبها في طريقي، ووجهًا صاعقًا في الفضاء، صار حريقي، ينذرني بأن هول العمر يسير، ولهبي غدًا مشتعل من تلاهب نيرانها.
والآن نحن بِتنا في الربيع؛ أقصد نسبح في زغرودة صوتكَ، نشطح في غرَّة الوجه الحسن، حاجبك الهلال، اللمَى طفل يحبو، ما فيكَ من مُجتنى، بين كناية واستعارة وغضارة و… بديع.
الآن نحن بين أشواقك كالضراعة، قدَم إلى الأرض وقلب في السحاب، كان سيبقى أحمد المنذور إليك، بين ذهاب وإياب. يقول ما فات شيء، يعيد، سيستعيد، ويناور الأفلاك، قل أنت، في القريب كما البعيد، يتحطم القدر المنيع؛ أتريد برهانًا؟ انظر كم حولكَ من صريع؟!
«أنا مبصر وأظن أني نائم» هل أنا حقًّا مبصر؟ أم لعلي عميت من وقع النظر؟ «من كان يحلم بالإله فأحلما.» أنت المتنبي، وما أنا إلا غِر في حياض شعرك، من أكون أنا كي أقول أنا، من؟! «كبر العيان عليَّ حتى إنه/صار اليقين من العيان توهما». كبر العيان يا جدي، وأنت يا ودي، أين أحمل ما فاض من حنق الدهر، غصص العمر، لهفة ما لي عندك من نجوى بعد، إذ بتَّ مثواي، صرت بعضي. كبر العيان كما ترى، تشاسع في رداك، ويك أو أنت مبصر؟!
لعل الفصل يتداوى من جرحي، سيدفأ بحطب عظام تهن، تحرس صاحبه كلمات لا تخون، وبينهما، أنا وهو سر مكنون، يشرب من فمي أو يغرق في حممي؛ إذ يغدق عليَّ حتى الموت الزؤام، «أبنت الدهر عندي كل بنت/فكيف خرجت لي أنت من الزحام!» سيان أو لا بأس، وليكن إن شاء يشاء. معه يهون، حتى الجنون. لعل فصلًا آخر الآن خطَر، هو باللحظ أصاب، لما نظر في مقتل، «قُتلَت قُتلتَ» فها … ما كان قبل اليوم قيد الكمون، أضحى على علَّات جسم آفل، زمن وغد، ما في الوقت من مجون، هوًى ومهوًى؛ فأين المفر؟!