في هذا الخريف، ربما خريف سابق
في هذا الصباح، بعد أن جاهدتُ جسدي كي يصمت فيه فحيح جسده، عدت إلى البيت، وكما يحدث لي عادة تهيبت أمام باب مكتبي قبل أن أدخله. جلست إلى الطاولة استرخيت قليلًا على الكرسي الجلدي. كنت في حاجة لاسترجاع أنفاسي ولاستجماع الأبجدية بزعم إضافة حرف جديد. حديقة البيت خلفي. يكفي أن ألتفت لأراها من زجاج النافذة وهي وراء ظهري، إخالها أحيانًا هي من يرقبني، مستنكرة كيف أسلوها وأنكبُّ على أوراق باردة كضرَّتها، فأقفز بالبصر بعدها حيث يجري نهر السين قربي في دورته الأبدية.
رتبت مكتبي بكيفية تجعلني أدير الظهر للحديقة، وللخارج مجتمعًا. أخشى من الضوء الجامح، من العتمة الملغزة، أو الأشجار السامقة على قدر أحلامي وأوهامي أن تشغلني عن نفسي، فيما أحاول الهروب قدر المستحيل من نفسي. هناك عالم كامل ينبغي أن أكتبه، لغة لتتفتق من شهيقي، وأساطير باهرة قابلة للخلق فوق جلد اليوم المتبالي، وهناك … أخشى أن أزيد أنتِ.
ملت قليلًا، يمينًا، أظن لأسحب كتابًا من الرف، وعندئذٍ انتبهت إلى فضاء الخارج. سمعت ما يشبه الحز، أو آلة تنشر خشبًا … الآن، وقد احتد الصوت أملتُ جسمي كاملًا إلى جهة الحديقة التي بدت سمحاء بعد أن جاء البستاني البارحة وهذب عشبها، ورتب شجيرات وردها. لكن أوراق الخريف المتساقطة من شجرة علياء تبعثرت فوق العشب يابسة، حنائية، في انتظار أن يبللها مطر المساء، وتذروها الريح مثلما تذروني أعوام الغربة من فصل إلى فصل …
ثم ماذا؟ إني أراهم هم. قتلة الأشجار. عند ضفة النهر تمتد الأشجار بفروعها متمايلة في ارتفاعها مثل أيدي متضرعين، أو شمعدان مشتعل لطقس مهدًى إلى آلهة غامضة. غصونها خصبة الأوراق وريح خفيفة تناوشها لإسقاطها بينما الأصفر والأخضر يلتمعان تحت شمس موردة بعكار فاسي، وهي في منحدر الغروب. لكن سلالم عالية صاعدة من ماكينات تنينية الرءوس حاصرت الأشجار، يعلوها رجال ضئيلو الأجسام يتسلحون بمناشير كهربائية يعملون بها قَطعًا للفروع وفي حسابهم أنهم يشذبونها كي تعود في أعوام قادمة أشد عودًا، وها هي الأشجار صلعاء، أصلع من مغنية يونسكو، وهم يقهقهون بين تشابكاتها بغباء، والطيور التي تأوي إليها عادة راحلة في هذا الموسم وأنا باقٍ هنا أشهد المجزرة، وكنت أكثر قدرة على البقاء لو أن فصلنا الذي تحدينا به الطبيعة وشرائع التوافق الرتيب، أنا وأنتِ، لم يكن قد نشر أجنحته لنحلق فوق السحاب مخترقين سدف الغياب، مشتعلين في حريق، من يسعفني فأقول اسم ناره، اسم إلهه وعباده.
لماذا أحكي عن الأشجار محزوزة الرأس وفي جنبَي يرتعش البرد المبكر للفصل القادم، وفصلي الجديد معي، هو نار وبرد، حمى ورفيف، الليل مسكون به، هو سكينته، والليل منه في ذهول، لماذا؟!
الحكاية ليست سرد خبر، فما أكثر الأخبار، إلا هذا السر الضميم لا يشاع إلا في صوفية بَوحه، في سريرة اغتدائه بهمسه: «وقد أغتدي والطير في وكناتها/بمنجرد قيد الأوابد هيكل» الحكاية مجاز، ومن معانيه العبور. طريق نعبرها نحو …
هكذا، أنا وهي، نوجد في المجاز، وهذه المرة بمعناه البلاغي، فلِكي أقول الشيء يأتيني قول آخر، أكني عنه، التماس الوصول إليه. انظري كيف أن اللغات واللهجات كلها بحكمها، وأصواتها، نكاتها، خرافاتها، أزجالها، وبالشعر … كيف أن هذا القول ينشئه المجاز ويعمره، وبدونه يصبح من ضرب الكلام المسطح، لا يؤسس، لا ثقافة، ولا إبداعًا، ولا يشمخ بالإنسان حيث ينبغي له إلى ذراه، آه، في تلك الأعالي!
هكذا، أقف أمام الكلمة، الكلمات، نختلس النظر لبعضينا، يدمدم فينا الوجيب، مرة وأبدًا للوجه الرغيب. هي آتية، وأنا ذاهب، وثمة مرج بيننا راعف بالنظر مثلما يعتلي الموج البحر ويكون بحره، لو قالها اختفى الموج، ستقال، ستتبدد، نمسي لا كائنة وتكون. أقف تحت شرفة حلمها وأنا أطل منها لا يدري بصري أين يذهب سوى لسماع انهمارها حين يأتي. أتلقف كل ما ينحدر منها، وأعود أصعد بها نحو كل ما يعلو … في أعاليها، أنا الذي يعجز عن قولها؛ لأني إن فهت مت، وإن مت من سيقول بعدي: كيف الحياة بدونها؟!
وتقول تتمة الحكاية أنهم بعد أن فتكوا بأشجار الشارع كلها يا … بقينا نتراءى منها، عاريين، نرتعش في هذا الخريف، وغدًا شتاء، أستخرج جمرة القلب لندفأ قليلًا قبل أن يأتيني الصوت شاهرًا سوطه على جسد ليس لصاحبه أن يقول أبلغ من أبي بكر الصنوبري: