صيد يقاوم الشباك
استيقظت متنبهًا على صوت من داخل الشقة.
قمت بأعلى الصدر، أرهفت السمع أتبيَّن مصدر الصوت، لكن السكون ظل سادرًا، فكرت في أن أتجه ناحية الصوت، ثم فضَّلت البقاء في السرير.
تركت الحجرات مغلقة، فغاب وقت النهار، عدا ضوءًا شحيحًا من نافذة المطبخ.
الضوء المتسرب من تحت باب الشقة يختفي، ويعود، أفسِّر ما يحدث بظلال مَن يقفون أمام الشقة، يقتربون، يلامسون الباب، ثم يغيبون، ويعودون ثانية. أتهيأ للنهوض بتوالي تسرُّب الضوء وانحساره، يتكرر الفعل، ويتكرر تهيُّئي لرد فعل تغيب ملامحه، اتسعت في نفسي دوائر القلق، تشدني الأصوات الهامسة والزاعقة، أتوقع من يترصد لي بالأذى، أُرهف السمع لوقع أقدام في الطرقة الموصلة إلى المطبخ.
هل تركت نافذة المنور مفتوحة؟
الجيرة القديمة بين السكان وأسرتي تلغي الحذر، حتى الجيران الذين أقاموا في شقة السنباطي، بعد خلوها، بدوا في حالهم.
ورث أبي البيت عن أبيه، إيجار شقتَي الطابق الأرضي يضيف إلى دخلي الشهري، فأواجه العيش.
وأنا أغادر الشقة، ألتقط من الثياب ما يسهل ارتداؤه، ونزعه، عند عودتي — متعبًا — إلى البيت. ربما أغلقت باب الشقة ورائي، دون أن أنظف أسناني، أو أغسل وجهي، أو أمشط شعري، حتى الوضوء أرجئه لتوجهي إلى بيت الصوفية.
شقة الطابق الأرضي المواجهة لباب البيت من ناحية اليمين، اعتدت إغلاقها منذ جعلها الحاج فرغلي الدش — تاجر أدوات الصيد بوكالة الليمون — مخزنًا لبضاعته، إلى اليسار، شقة السكان الذين خلَفوا أسرة حنفي السنباطي بعد رحيلها.
حرصت أن أجاوز الطابق الأرضي دون التفات، أرقى السلالم إلى الطابق الأول، أفتح الباب، وأدخل باطمئنان لا يدفعني إلى مغالبة الحذر. ربما صادفت من يبادرني — أو أبادره — بالتحية، وأواصل الصعود، أتنبه على شعور يراودني بأن الفراغ من حولي ليس كذلك، أعاني خوفًا غامضًا من شيء أجهله.
أتجه إلى النافذة المطلة على شارع سليم البشري. ربما يطل منها ما أتوقع، لثبات رؤية ما في الشارع، اعتدت السَّير جوار أبوابه، ومجاوزتها: على الناصية قهوة لها بابان على تقاطع الشارعين، يلاصقها دكان لبيع المكرونة والأرز باللبن، علاف، سمكري، تاجر مانيفاتورة، في الناحية المواجهة دكان لبيع الفول والطعمية، صالون حلاقة، دكان فراشة، معرض لبيع الأدوات المنزلية، أمضي في شارع سيدي داود الخالي من المحالِّ، حتى نهايته في المسافرخانة، أتجه — على اليمين — إلى الحجاري، أو — على اليسار — إلى صفر باشا، ومنه إلى رأس التين.
أتحول — بنظراتي — إلى السقف والجدران والأثاث والمساحات الخالية.
تعروني ارتعاشة لسماع أي صوت، رنين جرس الباب، أو التليفون، ترامي نداء مفاجئ من الطريق، عشرات الأعين والآذان تلتقط الكلمات والتصرفات. أعاني الارتباك لتصور أن الشقة خضعت للمراقبة، السماعات والعدسات وأجهزة التنصت مبثوثة في الأسقف والزوايا وخلف النوافذ والأبواب، حتى دورة المياه أخشى عدسة في زاوية سقفها، حتى الجدران، أشعر أنها تحولت إلى آذان تنقل ما تسمعه إلى ماورائها، أعيد النظر إلى وجه عابر، أتبين العداء في ملامحه. ربما اختلطوا برواد قهوة أنَّح، أو اندسوا في المترددين على جامع سيدي نصر الدين، تظاهروا بالفرجة على صيد الجرافة، ضمن الواقفين على الكورنيش، وقف أحدهم خلف ستارة النافذة، تهتز دون أن يتحرك الهواء.
لم أكن نائمًا.
تنبهت إلى انفراج ستارة النافذة، تخللت اللحظة الوامضة التقاط السحنة شاحبة الملامح، وإن تركت في نفسي تأثيرًا قاسيًا، كتمت رغبتي في مواجهة الخطر. ربما يملك من القوة ما لا أعرفه.
أعدت النظر إلى ما رأيت، تأملت: أرنب الغابة في لوحة الكانفاه المعلقة على الجدار، تحرك في موضعه، كأنه يتهيأ لمغادرة الإطار، لا أعرف من دبر المؤامرة، ومن شارك فيها، تشابكت الخيوط حولي، لم أتبين طرفها، لا أعرفهم فأتصدى لهم.
ما الجريمة التي ارتكبتها، فأستحق عليها العقاب؟
اتُّهمت بأني ضُبطت أعانق المرأة على رمال الشاطئ، أخذني الهياج، فتناسيت الأعين الراصدة.
لم يحدث، لكن الاتهام انتشر، وغذاه آخرون، انتقلت الحكاية بين طاولات القهاوي، والقعدات أمام البيوت، والحضرات في الزوايا وقبالة المساجد، لم أفعل إلا أن أنقذتها من الغرق، خيال مَن لا أعرفه نسج ما لا يمكن تصديقه.
قيل إني حاولت أن أقبلها … حتى الشيطان نفسه يرفض ذلك.
أحزنني قول الشيخ أنور أبو مندور — واعظ مسجد سيدي نصر الدين — إني غير قادر على صون نفسي من غواية امرأة، تحولت سمعتي إلى مضغة، يلوكونها بالتشفي، أعاني المراقبة والمتابعة والمطاردة، وحصار النظرات والتلميحات والإيماءات والكلمات التي تتعثر فوق الشفاه، ثم تتلاشى.
ما حدث هو مجرد رغبة في تحطيمي.
قيل إني إذا تحركت غريزتي، نزلت الطريق أبحث عن امرأة أطفئ في جسدها نيراني، أسير في الشوارع، أترك لعيني اختيار امرأة تشتهيها، أحاول أن أنشئ معها علاقة.
قهرني الشعور بأني غير قادر على حماية نفسي من المؤامرات التي لا تنتهي، تداهمني بالعجز والخوف والمطاردة والقهر والخطر، كأن العالم يتداعى من حولي.
الأمر أقسى مما أحتمل، يفوقون قدرتي على التنبه، وعلى الفعل، يحيط بي ما لا حصر له من الشياطين والجان والمردة والعفاريت، يعتمل في داخلي الإحساس بالعجز عن الفعل فيما لا قبل لي بمواجهته.
بدت الدنيا في عيني مظلمة، كريهة، لا تحتمل.
لا أعرف أين أتجه بخطواتي، عيناي تتفحصان كل ما حولي، تتلمسان الملامح والوجوه والتعبيرات، النظرات المستريبة، والمتسائلة، والمتشككة، أحدق، ألتقط التفاصيل التي ربما لا تلفت الانتباه.
تبدو لي كل الأشياء مختلفة عن رؤيتي لها من قبل. ربما تغيرت النظرة بإحساس الخطر، صنعه القلق والتوجس والخوف وفقدان التركيز وكثرة التلفت.
في داخلي توقع شيء ما، لا أعرف طبيعته، أستريب فيما أراه، أو أسمعه، يشغلني الفرار من كل ما يحيط بي، أستدير خلفي، أرى إن كان يتتبعني أحد.
الأرصاد المبثوثون في المفارق والأركان، يلتقطون ما أقوله، وما أفعله، يلاحقون خطواتي، أتفرس الوجوه والأفعال والأشياء، يشغلني البحث عن شخص، لا أعرف من هو، ولا أين ألتقيه، يستبد بي عجز لا أقوى على مغالبته، تختلط مشاعري، وإن جمدت قدرتي على الحركة، على الفعل.
أتمنى أن أمضي في شارع سليم البشري، أدخل الشقة، هي المكان الذي لا أتصور حياتي بعيدة عنه، أخلِّف كل شيء ورائي، تزول عني قيود ترددي وارتباكي، أتنهد، أستعيد نفسي، ألوذ بنوم هادئ في سريري.
أراجع نفسي، أفكاري، وما اتخذته من مواقف، أتساءل عن قيمة ما حدث وجدواه، أجدني في موضع المدافع عن ذنب لم أرتكبه.
لم تعد الكلمات التي أريد التعبير بها تسعفني، يأخذني التلعثم والارتباك، تتباعد الحروف، وتختلط، تعوزني القدرة على التوضيح، أو أتصور نفسي كذلك.
أسرع في خطواتي، لا أنظر إلى أحد، لا أتلفت.
لو أنهم أفلحوا في إدانتي، هل أعاني ما قرأته، واستمعت إليه، وشاهدته، من القسوة التي تضعني على حافة الموت، أو تقتلني.
أنا لم أرتكب شيئًا يخضعني للمساءلة.
لماذا أفر من المواجهة؟!