كيف أعوم وأنا لا أحسن السباحة؟
لا أعرف الوقت الذي استغرقني فيه النوم، لكنني صحوت على تحديقي في السائل الأبيض، زعمت ضرة المرأة أنه مني في مضاجعتها لغريب. سكب الإمام على السائل — أمامي — ماءً ساخنًا، تكشف بياض البيضة. هللت مع الواقفين لبراءة الزوجة المسكينة. غالبت القيظ وأنا أرافق موكب الجارية الحسناء، خشيت سيدتها أن يستهوي جمالها الزوج، أمرت فأحاطت بها نساء البيت، افتضضن بكارتها، ورمتها الزوجة بالفجور. انتهى الموكب إلى مجلس الإمام، قضى — بعد أن اكتشف المكيدة — بإقامة الحد على المرأة، لقذفها الجارية. ذهلت لصياح المرأة في الإمام: تريد أن تزوجني من ولدي؟ هذا الولد ولدي! ادعت المرأة أنها بخاتم ربها، لم تتزوج ولا أنجبت، عرض الإمام تزويجها من الولد الذي أنكرت بنوته.
بدا لي الإمام في هيئة كنت أتخيلها، تشكلت من مواقفه، وأقواله، والمعارك التي خاضها: ربعة، عريض اللحية والمنكبين، قوي العضلات، إلى حد أنه جعل من باب بيت درعا يصد سيوف الكفار، فلما ترك الباب عجز عن حمله ثلاثة رجال. ينم وجهه عن العافية، وبشرته متوردة، وملامحه منحوتة، واضحة، يسيل شعره على منكبيه، تتوسط جبهته علامة السجود، تظلل عينيه الواسعتين، اللامعتين، حواجب كثيفة، لعينيه بريق، يربك من يرنو إليه بنظراته. ينظر في عينَي الشخص، يواجهه بمؤاخذاته، صوته هادئ، يدعو إلى الثقة، وإن امتلك قدرة واضحة على الملاحظة، وشخصية قوية، مسيطرة.
تلفت حولي بتصور أن ما شاهدته مجرد حلم غيبه الصحو. اختلطت المشاهد مما قرأته في كتاب «قضاء أمير المؤمنين»، تشابكت، واضحة فكدت ألامسها، أو كالأطياف التي غابت ملامحها. لم يتبدل العالم الذي أعيشه، بيت الصوفية بناسه وقراءاته وشعائره وأذكاره وعظات شيخ الوقت. أضاف الكتاب بما يصعب نسيانه، هو في ذاكرتي: الوقائع والأسماء والتبرئة والإدانات والأحكام التي استدعتها حيل ذكية.
تناسيت أيام انشغالي بالكتاب، عزلني عن الدنيا كلها، داخلني شعور بأن شيئًا ما سيحدث، لا أعرف طبيعته، لكنني أتوقع حدوثه. همست: اللهم اجعله خيرًا.
تمنيت أن يكون كذلك.
ما ألفته ومضات تثبت قليلًا، أو تمضي كأنها لم تكن.
اختلف الأمر هذه المرة، اخترقني خوف لم أعهده في نفسي من قبل. تقاربت الحوائط، تقاصر السقف، لم يعد جسدي المضغوط يقوى على الحركة، ولا استطعت التقاط أنفاسي.
ربما ضللت طريقي الشوارع الملتوية والحواري والأزقة. تحولت إلى متاهات، تذكرني بما كنت أحاول اختراقه — بالقلم — في مجلة «قطر الندي» — أيام طفولتي — عبر انحناءات وتقاطعات وتعرجات، حتى أبلغ النهاية. متاهات الشوارع بلا نهاية.
التقطت صيحة محذرة من سقوطي في بركة آسنة. قفزت — بالكاد — من فوقها. لوحت بيدي، وواصلت السير.
يقصد الناس مقام سيدي العدوي أول شارع صفر باشا، طلبًا لوساطته، كي يعيد الغائبين والمفقودين.
هل ألجأ إليه لاستعادة نفسي الضائعة؟ عبرت طريق الكورنيش في اتجاه الشاطئ المواجه لسراي رأس التين، الحقيبة الصغيرة على كتفي، أضع فيها بنطلونين، وقميصين، وبلوفرًا، وغيارات داخلية. خطواتي، تتعثر في سيرها على الأرض الرملية، لا لأنها تسوخ في الرمال، بل للخوف من النظرات المحدقة، وردود الأفعال المتوقعة.
خلوت إلى نفسي في كابين بلا نافذة، ليست «كابين» بالتحديد، لكنها كشك صغير من الخشب والصفيح، وشى الإهمال والأوساخ أمامه، وفي داخله، أنه مهجور من فترة بعيدة. تساند على كابين لها العديد من الأبواب والنوافذ. نسيت — في احتمائي به — خوفي من الظلمة.
نظرت من انفراجة طولية، لا شيء استوقفني، لا أحد ولا قوارب ولا أضواء، الظلمة الشديدة تحول دون رؤيتي لما في الخارج، ولن يستطيعوا رؤيتي. الليل يصحبني حتى الشروق، فأبتعد.
الاختفاء هو الوسيلة التي تعميهم، يعجزون عن مطاردتي. تختلف الأماكن، فلا أبقى في مكان واحد.
عشت — بالخيال — في جزيرة داخل البحر، أتحرك على أرضها الرملية، أو الصخرية، أستبدل بالفرار من المطاردة، مواضع خالية أعرف أطرافها.
حين رأيت عينَي عسكري السواحل تلمعان في الظلمة من ثقب الباب، تحاولان رؤية ما بالداخل، قهرني الخوف، الضغط الذي أواجهه لا سبيل إلى مقاومته، لا أستطيع أن أتحمل أكثر مما تحملته، لم أعد أقوى حتى أن أبرئ نفسي. أواجه العقاب، لا لأفعال ارتكبتها، وإنما لأفعال يدبرها الآخرون. عندما يقسو الضغط أعترف بما لم أفعله.
أزمعت ترك البحر، والعودة إلى المدينة، بعيدًا عن بحري، ذلك أقسى ما يمكن فعله.
فاضلت بين البيوت التي يمكن أن تستضيفني، شوش الارتباك كل ما يأتي إلى ذهني، حتى القوارب في مرسى المينا الشرقية، فكرت في أن أستقل أحدها، يمضي بي إلى الموانئ البعيدة.
فضلت — في النهاية — أن أنام ليلي داخل قارب مقلوب في القزق، لا أتركه حتى تبدأ حركة ما بعد الفجر.