الترقي في مراحل السلوك
أول تنبهي إلى اللحظات التي نسيتها، عندما اختار رجب البحة — المريد في الطريقة، وتاجر الأقمشة — كرسيًّا، وجاور طاولتي في قهوة أنح.
يرتدي سترة صيفية رمادية من الكتان. عمره بين الكهولة والشيخوخة. أبرز ما في ملامحه أهداب متآكلة، وجبهة عريضة منداة بالعرق، سحبت شعر رأسه إلى الوراء، تغلب الصفرة على بياض عينيه، يكثر من توسيع فتحتي أنفه، ويستنشق الهواء بعصبية.
لم أستطع أن أقرأ في عينيه شيئًا، لا حزنًا، ولا رضًا، ولا عنفًا، ولا أي شيء.
حدست أنه تابعني بعينيه، وأنا أتجه ناحية شارع السيالة في طريقي إلى قهوة الصيادين.
أذان الظهر يرفع من مئذنة أبو العباس، الميدان يعاني قلة الحركة. الشمس متوهجة في منتصف السماء، تخالط أشعتها سحب بيضاء، صغيرة، متناثرة، الهواء الساخن مشبع بالرطوبة. وهو يهوِّي على وجهه بجريدة مطوية.
– على أيامنا، كنا نجد صحتنا في شم يود البحر … الآن، الزبالة هي ما نشمه!
انحنى على النارجيلة، يقلب جمرات الفحم بالماشة، يتأكد من تأثيرها، يجذبه بسرعة من مبسمها.
– التمباك الحقيقي تجده في قهوة أنح.
ودس مبسم النرجيلة بين شفتيه: إذا كانت الصلاة تعبيرًا عن المساواة، فإن المعنى نفسه نجده في شرب الشاي.
حدست من تلفته أنه يخشى أن يرانا أحد. أغمض عينيه، فتحهما في هيئة من يريد أن يخصَّني بسرٍّ يكتمه عن الآخرين. تنحنح، ودنا بوجهه ناحيتي. بدا أنه على وشك أن يفصح عما غمض عني، لكنه استعاد هيئته، وظل صامتًا. جذب من الشيشة نفسًا طويلًا، حبسه في صدره لفترة، ثم نفثه من فتحتَي أنفه.
تمنيت لو أتسلل إلى باطنه، أعرف ما يضمره في نفسه، ماذا يخفي. تراجعت — بتلقائية — حين مال ناحيتي. أحسست أنفاسه تتردد بالقرب من أذني.
روى حكايات لم أفهمها، وقائع غير مترابطة، مفرداتها شيخ الطريقة، والمريدون، وأخطاء نسبها إليهم.
واجهني بنظرة مقتحمة: هل تحتفظ بملف بيت الصوفية؟
حذرني شيخ الطريقة، شيخ الوقت سالم غيث، من أن أحدث نفسي بما جرى، أنسى الأوراق التي لم أستطع قراءتها.
– أي ملف؟
– أعرف أن مولانا سالم غيث أخفاه، بعيدًا عن الأعين.
ظلت صامتًا، خشيت أن يفضح صوتي ما أعانيه.
فيما يشبه الصفير من أنفه: الموضوع أخطر من أن تنكره.
حملقت فيه بنظرة مستغربة: أي موضوع؟
– تلاعبني؟
– تكلمني فيما لا أعرفه.
زفر: أخشى أنك لا تدرك خطورة الأمر.
أردف دون أن يدير رأسه: إذا أرشدتنا إلى موضع الملف فلا شأن لك بالأمر كله.
– تتحدث عن شيء لا أعرفه.
ثنى الجريدة، دسها بين ذراعه وصدره: قد يودي بنا العناد إلى الموت!
هل أتناسى تحذير شيخ الوقت، فأتكلم عما نهاني عنه؟
واتتني جرأة لم أعرفها في نفسي: هذا سري الخاص. يصعب أن أبوح به.
لما زاد الرجل ضغط يده على يدي، أدركت أنه لا يقصد مجرد المصافحة.
رمقته بنظرة مستاءة. أضاف إلى استيائي ابتسامة لزجة، علقت بشفتيه.