بيت الصوفية
حدجني الشيخ صالح جاد الرب بنظرة متسائلة عن السبب الذي قدمت لأجله. آخر عملي في بيت الصوفية عقب صلاة المغرب. تلفت، تبدل الوقت يعكس تأثيراته في تبدل المكان. أذان العشاء يُرفع من مئذنة أبو العباس ومآذن ياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين.
البيت أشبه بوكالة ضخمة، الباب الخشبي مزين بمستطيلات المسامير النحاسية. تدلت عليه مطرقة في هيئة حدوة حصان، وقفة الشيخ جاد الرب في نهاية الطرقة المفروشة بالحصير، آخرها باب يفضي إلى قاعة واسعة تناثر فيها ما يقرب من العشرين، انصرفوا إلى التهيؤ للصلاة. النوافذ عالية، الشرفات محلاة بالنقوش والمقرنصات، وغطى النشع مساحات في الأركان. على الجانبين حجرات، مغلقة ومفتوحة. في المنتصف صينية من النحاس، فوقها إبريق خزفي، وفناجين، وسكرية، وطبق صغير عليه قطع حلوى صغيرة. افترشت الجدار سجادة عليها رسم للمسجد النبوي. تدلت من السقف العالي، المقبب، نجفة هائلة، محملة بعشرات اللمبات الصغيرة. زين أعلى الجدران والأفاريز بالنقوش وآيات القرآن والكتابات العربية. وضعت على الأرفف مجامر يتضوع منها بخور طيب الرائحة. تناثرت في المكان وسائد صغيرة، للاتكاء عليها، أو للجلوس فوقها. يعمق الصمت وشيش مراوح علقت في زاويا الجدران، وترامي ابتهالات كالأصداء من موضع قريب.
تكررت الصورة، لكن كل شيء على حاله. هو المكان نفسه، وإن تغير الوقت، الاختلاف في السحن التي تشغلها — خارج البيت — أوقات النهار.
كان يسند ظهره إلى الحائط المجاور لباب حجرة شيخ الطريقة. أصابعه تدور بحبات المسبحة، وشفتاه لا تكفان عن التمتمة بآيات القرآن والتعاويذ والأدعية.
أطلت تأمله، كأني أراه للمرة الأولى، أتفحص ملامحه وتعبيراته، شعر رأسه المفلفل المنبجس من حافة الطاقية البيضاء، عينيه اللوزيتين الصاحيتين، عليهما نظارة ذات إطار معدني، أنفه المستقيم، ذقنه المسدلة، وشاربه المحفي على السنة، إشارات يديه المعبرة عن معاني الكلمات. يضع على وجهه قناعًا من الصمت، فلا تستطيع أن تقرأ مشاعره. دائم المداعبة لشحمة أذنه. يرتدي جبة من الجوخ البني. لف حول رأسه عمامة من السكروتة، ووضع على كتفيه شالًا مزين الأطراف.
له دكان لبيع المصوغات في سوق الصاغة المتفرع من شارع الميدان، ترك لأكبر أبنائه إدارته، انقطع إلى العبادة والزهد، لازم الخدمة والمجاهدة في طاعة الله، عرف مسالك القرب. يجول في الملكوت، ينهل من البحر الإلهي، والمدد الرباني، يحضر مجالس العلم والخير، يخوض المساجلات، يستغرقه الجوع والعزلة والصمت والسهر والمثابرة والبذل والتضحية والفناء والزهد والعطاء، لا يشغله إلا الطريقة، هي محور تفكيره وتصرفاته وكلماته. صار من الأبدال، يعرف فضل الأوتاد الأربعة، الإمامين، فالقطب. قربه شيخ الوقت سالم غيث بالوصل في مقامه الرفيع. أدناه منه، وخصَّه بأسراره.
هو ملجأ لمن تضيق به الأمور، يلجأ المريدون إليه في كل أمور حياتهم، يقضي بالصواب. يؤمن بمحاسبة النفس قبل تربية المريدين، يرعى المريدين المحتاجين، وإن عمت صلاته وهداياه سائر الفرق، يخص برعايته فقراء الطريقة، يرتب لهم موارد رزق سخية ودائمة، ينفق من منح الوجهاء والأعيان وتجار الحي. رويت له كل شيء. ما يفد إلى خاطري، أو أتذكره. أصمت لألتقط أنفاسي، يحدق في عينيَّ، يستحثني على مواصلة الكلام. استعدت مألوف أيامي، واصلت سيري، أخترق شوارع وميادين وحارات، أجلس على مقاهٍ أصادفها، أجتر القلق والألم وما يصعب احتماله، شيء ما يسيطر على تفكيري، يملي عليَّ ما لا أستطيع مغالبته. ما فعلوه بدل حياتي تمامًا، اختلطت الأمور حد الفقد. أجد في أي مكان ملاذًا أقضي داخله أيامًا، أو ساعات. حتى أصدقائي، أبتعد عمن لا أطمئن إلى نظراتهم، ولا إلى كلماتهم. كل ما يدعو إلى الريبة أبتعد عنه. من حولي أشباح تترصدني. أتلفت حولي، أتبين من يخيفني. يذوي كل ما أعيشه، لا موالد، لا تطوحات أذكار، لا إنشاد، لا مطاردة أو أسئلة.
أقسى اللحظات حين تنتظر الخطر، لا تعرف صورته، ولا كيف تواجهه.
حدجني بنظرة متشككة: ما لا يعرفه أحد: هل تحتفظ بالسر؟ ألم تخبر أحدًا بالفعل؟ ظللت صامتًا، أحسست أني فقدت القدرة على استيعاب ما جرى. بدا كأنه يريد أن يقول شيئًا، لكنه يتردد في الإفصاح عنه. ثم غطى وجهه براحتيه، وهز رأسه: أنت مسئوليتي، سأظل إلى جانبك حتى ينتهي الأمر.
وربت كتفي: هل تخاف أن يقتلوك؟
أومأت بالموافقة على المعنى.
دعهم يبحثوا عنك. سيحاولون ابتزازك. قتلك ليس في صالحهم.
وزايلت الابتسامة شفتيه: إنهم لا يريدون قتلك، إنما يريدون تخويفك حتى تدلهم على موضع الملف.
وأطلق تنهيدة مفعمة بالاستياء: حياتك تفيدهم وليس موتك!
لم أعد أذهب إلى بيتي.
أنهيت قراءة صفحات من كتاب «قضاء أمير المؤمنين». في طريقي إلى السرير، أزحت طرف ستارة البلكونة. المرئيات ثابتة، عدا طيفًا لم أتبين ملامحه، في انحناءة الطريق إلى الحجاري. ترامى صوت غاب مصدره، كأنه يناديني باسمي. تلفت حولي في حيرة.
هل امتدت الملاحقة إلى أوقات الليل؟
في لهجة مهوِّنة: إنهم لا يملكون إلا التهديد.
وأودع نظرته تأثرًا: إذا لم تنزع الخوف من نفسك فسيواصلون مضايقتك.
وداعب شحمة أذنه: يحزنني من يسعى إلى المكانة دون أن يعي مسئولياتها.
ورشف من كوب الشاي بصوت مسموع: المرء قد يكون شجاعًا أو جبانًا أو متآمرًا، لكنه يظل — في كل الأحوال — بشرًا.
وعدل عباءته، وتنهد: أفعال الأشعل تخطت أفعال البشر.
لم يكن ثمة ما أستطيع أن أقوله، حركت شفتي بكلمات هامسة، مدغمة، وسكت.
قال: عندما يضربني العسكري فأنا لا أكرهه، إنما أكره من أمره بضربي.
أطال التفكير، ارتخت شفته السفلى: الدافع إلى ذلك محسن الأشعل … محسوب على مولانا الشيخ سالم غيث … لكنه يختلف معه.
وأنا أغالب الدهشة: ذقنه تبلغ صدره!
اغتصب ابتسامة: إطلاق اللحية ليس شرطًا للإقناع.
– الاختلاف لا يعني الخصومة، نختلف ولكن يظل الحوار قائمًا.
هز رأسه بإيماءة موافقة: مولانا لا يرفض الرأي المخالف، بل يرفض الفعل المخالف.
وشابت نبرته حدة: يجب أن تخلو الطريقة لأبنائها، نخلص الوردة من الأشواك!
أضاف لنظرتي المتسائلة: الأشعل مريد في الطريقة، لكنه مثل الجرح في الجسد، تقيحاته تؤذي بما ينبغي علاجه.
سكت، استحثثته بإيماءة على مواصلة الكلام: هو مريد في الطريقة، لكنه يريد الملف لنفسه.
– لماذا؟
– يريد أن يحتفظ به، يستأثر بما يحويه.
– إنها مجرد طلاسم.
شابت صوته رنة تحذير: هي أكبر من أفهامنا.
اطمأن إلى استناد ظهره على الجدار. أخذه الاسترسال، وأنا أسند ذقني إلى أصابعي المتكورة، والنظرة المستحثة تومئ بمواصلة الكلام: نحن لا نعرف عن محسن الأشعل شيئًا، لا أصله ولا فصله، ولا الظروف التي قدمت به إلى بحري. أراد التسلق بواسطة الطريقة، ادعى الانتماء، وأخذ العهد، لكنه خالف قواعد الطريقة وآدابها.
التصوف ليس صرخة، ولا هو أداة للكسب. لم يبايع الأشعل تقديرًا للشيخ، ولا لأن الشيخ في حاجة إليه. إنما له أهدافه التي سعى إليها بانتمائه للطريقة.
الصلاة صلة بين الله وعبيده، والعهد التزام بين الشيخ ومريديه. يمر المريد بمراحل من الإعداد، قبل أن يتهيأ للمثول بين يدي الشيخ، وأخذ العهد. العهد بيعة، من يبايع شيخه فإنه يلتزم بالطاعة والتوقير وعدم الخروج عن التعاليم. الملائكة هم شهود العهد، يقرونه، لأنه أُقر من الله ورسوله، يراقبون التزام المريد بما عليه من واجبات. يخلع المريد ما كان عليه من بالي الثياب، والثياب المادية، الحسية، يرتدي ثيابًا جديدة، متطهرة من الذنوب. نكث الأشعل — بما فعل — عهد الطريقة، وأبقى على ثيابه البالية.
النفس حجاب بين العبد وربه، لا تهب النسائم المنعشة، ولا الروائح الزكية، ما لم يشفَّ هذا الحجاب. اعتقد الشيخ محسن الأشعل في نفسه التميز عن بقية المريدين. رفض أن يساويه شيخ آخر في المكانة والمعرفة. له قدرة مذهلة على خداع نفسه، يحكي الكذبة، يوشيها بالأضواء والظلال، ويحورها، يصدق ما يرويه وهو يخترعه. تتملكه شهوة الكلام، فلا يتوقف، يتجاوز حتى من يقاطعونه بالمعارضة أو السؤال. ادعى تأليف الوعظ والحديث والتفسير والفقه واللغة والتصوف والنظم. نسب إلى نفسه الجمع بين علمَي الشريعة والحقيقة. زال ما كان في قلبه من الورع. غرق في ظلمة نفسه. جاوز المعارضة إلى تسخيف الآراء التي تخالفه، والبحث عما يدينها. يفتش في كل من يعرفه، حتى أصدقائه المقربين، على ما يأخذه عليه، ما يحتفظ به في ذاكرته، فيخرجه في الوقت المناسب، فعل سيئ، علاقة مشبوهة، بيئة تجاوزها. إن وجد في الآخر نقطة ضعف، حرص أن ينفذ منها بكل السبل، لا يمنعه حتى الاعتداء البدني، أو القتل.
الطاعة واجبة على من يبايع الشيخ، ويتتلمذ على يديه، يسلم له في كل أمور حياته. يتقيد بعدم المجادلة، أو الاعتراض على أفعال الشيخ، حتى لو بدت غامضة، والالتزام بالورد اليومي للطريقة والذكر، ما دام شيخه مستقيمًا على طريق الحق. يكون تحت تصرفه، وطوع إرادته. لا يتيسر الطريق والفيوضات إلا على يد شيخ الطريقة، عرف الاهتداء إلى الله، وصلاح النفس، وتزكيتها.
الندم لا يجدي إن أصم المريد أذنيه عن سماع كلمات شيخ الطريقة. هو غير جدير بأن يفرق بين الصواب والخطأ، الحلال والحرام، ما يحسب لشيخ الطريقة، وما يحسب عليه. تشابكت الخيوط في ذهنه، لا يشغله — في أسئلته — تلقي الإجابة الصحيحة. يستهدف إرباك شيخ الطريقة، يتعمد أن يعلو صوته على صوت الشيخ، بما يدفع الشيخ إلى إعادة كلماته، ويضايق المريدين.
وجد في كلمات شيخ الطريقة ما يثير الضجر والملل. غضب من نصحه وإرشاده. أخذ عليه استبداده بتدبير الأمور. ألم يكن رسول الله يشاور أصحابه في الكثير من الأمور؟
دلس عليه، فنسب إليه ما لم يقل، وعرض أفكاره في صورة شوهاء، وعلا صوته بالسؤال: هل يُحل الله لشيخ الطريقة ما لا يحل لغيره؟
يرى أنه أحق بالمشيخة من الشيخ سالم غيث. يعرف ما لا يعرفه أحد من أحوال الموت والبعث والقيامة والصراط والجنة والنار. يعرف من علوم الشريعة أكثر مما يعلمه شيخ الطريقة، عاب على جلسائه أنهم لا يُعملون العقل في تعليمات الشيخ سالم غيث وأوامره. صارحهم بأن عظات الشيخ لا تنفذ إلى روحه، ينساها — بعد انفضاض الحضرة — كأنها لم تكن.
اتبع هواه، ومال إلى الضلال. قرب إلى نفسه مريدين يستثقلون الطاعات، ويستحلُّون الآثام. أوهمهم أنه لا يخطئ، فقلدوه في الزيغ والبعد عن الجادة. اقتصر عالمه على المخالطة والتآمر وأفعال الشر. تواكل مريدي الأشعل يسَّر له السيطرة عليهم، وامتلاك الحل والعقد. تملكه أسوأ ما في النفس من كبر وغضب وحقد ورياء وغرور، وحب للجاه والرئاسة والمنزلة. وسوَّغ لنفسه الشهوات. تخطى آداب الطريق، فلا نملك له إلا الدعاء بالهداية.
أمر الأشعل مريدين، استمالتهم كلماته، أن يسجلوا ما يحدث في حجرة شيخ الطريقة وخارجها، حتى ما تعبره النظرات، أو يبدو عفويًّا، قد يكون المفتاح لأسرار غائبة.
ألف — بالابتداع — أذكارًا تختلف عما تؤديه الطريقة، أوهم أتباعه أنه أخذ تلك الأذكار من الحضرة الإلهية، ومن حضرة الرسول، ومن الخضر. هي غير مشابهة لأذكار الطريقة الكناسية الأحمدية، والطرق الأخرى، وأورادها.
جعل لأتباعه امتيازات لم يحصلوا عليها من قبل. شوشروا على الناس، حتى ضجوا من أفعالهم.
هل يحل الله لوليه — إن تصور في نفسه الولاية — ما لا يحل لغيره؟
قال الشيخ صالح جاد الرب: يتصور الأشعل أن الملف هو المفتاح الذي يفتح كل الأبواب.
وأطلق تنهيدة مفعمة بالاستياء: يريد أن يبتلع ما هو أكبر من قدرته على الهضم؟!
أضاف في استيائه: الشجرة اليابسة لا تثمر.
ثم وهو يكور قبضته: عافية الشجرة تأتي بتقليمها.