هذا ليس خادم المصباح
بدا — عقب الصلاة — في موضعه، كأنه لم يغادره. أصابعه تكر حبات المسبحة، ونظراته تشرد فيما لا أتبينه.
ظللت بالقرب منه حتى غادر آخر المصلين، لم يعد إلا الصمت، يعمقه — عبر الباب المفتوح — ترامي أصوات الطريق، وتضوع شذا البخور النفاذ، والحصر المفروشة والسجاجيد المعلقة على الجدران، وأزيز المراوح في أركان القاعة. ظل البنايات العالية — قبالة البيت — غطى الشارع برمادية شاحبة، هبَّات الهواء الساخن، المحملة بالرطوبة، تأتي من ناحية البحر.
قال: استأذنت مولانا الشيخ سالم غيث فيما سأحدثك عنه. لا نرضى أن تنفق عمرك فيما لا طائل من ورائه.
أفرغ ما تبقى من كوب الشاي في فمه دفعة واحدة: لا تقاطعني بأسئلة. ربما تجد الإجابة قبل أن تسأل.
وزادت حركة أصابعه في حبات المسبحة: هذه الأوراق لا يقوى على الإحاطة بما فيها إلا من خصَّته السماء بما يغيب عن معارف الآخرين وأفهامهم. في الأسرار الإلهية ما يظل مخبوءًا، لا ينكشف إلا للأنبياء والرسل، والمختارين من أهل الأديان السماوية؛ من يمتلكون الإيحاءات، فيض العاطفة، وشطحات الجذب، والإلهامات العلوية.
ما يشغل الشيخ محسن الأشعل مكانة شيخ الوقت، الذي تخضع الطريقة لتعاليمه وأوامره، تدبيراته تقف عن ذلك التمني، لا تجاوزه، لا يتصور الخطوات التالية، ولا يعد لها نفسه، هو الأولى بالمشيخة، دون أن يتبين حقيقة نفسه. هو مثل الغيم الجاف، لا يحمل مطرًا.
من يسلك طريق الصوفية عليه — بداية — أن يتخلص من الشوائب وآفات نفسه: الأهواء والشهوات والحقد والحسد والطمع والأثرة والغل والحظوظ. إذا عرفت الله فسيعرفك، يجيبك إلى ما تطلبه. لم يبلغ الأئمة الكبار، أقطاب الصوفية، مكانتهم، إلا لأنهم عرفوا الله تعالى، فعرفهم، وفاض عليهم بالرؤى والمكاشفات.
أعد نفسه بالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والرياضات والمجاهدات، أقبلوا على الله تعالى، انشغلوا به، وأعرضوا عما سواه. من يعرف الله يأته الفضل الإلهي بغير حساب.
أقسى الأمور أن يتخذ المريد شيخه سلمًا لارتقاء الدرجات الصوفية. المراتب ليست وظائف تصعد فيها — دون تقيد بالوسيلة — من درجة إلى أخرى.
تصور ما في الملف أجوبة عن أسئلة، لو أنه عرفها فسيسبق الصوفية، وكل السلف الصالح والأولياء والأئمة والأقطاب والأبدال والنقباء والأوتاد والأنجاب والمريدين. لو أنه سبق الشيخ سالم غيث لتيسَّرت مشيخة الطريقة.
تصور الأشعل أنه سيحصل من مشيخة الطريقة على ما تطمح إليه نفسه، يدلك الخاتم السحري، يأمر الخادم بما يشغله تحقيقه، فلينظر إلى شيخ الطريقة الحالي (وأشار ناحية الحجرة المغلقة) ومن سبقوه، هل أفادتهم الطريقة، أو أفادوا منها؟
دخل الطريقة على طمع، حاول أن يجعل منها، ومن الطريق الصوفي كله، مغنمًا، يعمر دنياه، ويلغي آخرته. ترك السعي في طريق الصوفية إلى بذل الجهد في مجاوزة قواعد الترقي، وطلب الرئاسة، دون أن يعدَّ نفسه بقمع شهواتها، ونزوعها إلى فعل الشر. يبتعد عن رحاب السماء، ويسقط في حبائل الشيطان. كره للشيخ سالم غيث مكانته، وكثرة مريديه. شغله التعرف إلى المنازل التي يجب أن يقطعها حتى يصل إلى المشيخة، جعل همه الكشف عما تصور أن الطريقة تحويه من الخفايا والأسرار والبواطن. يسأل لا ليفهم، وإنما ليتصيد الأخطاء، أو يختلقها. تجسس على شيخ الطريقة، واغتابه، وسعى إلى تأليب المريدين عليه، والخروج عن أوامره ونواهيه.
شردت في لقائي المرأة …
لن يعود الأشعل إلى ابتزازي بحادثة الأنفوشي. باحت المرأة بدورها في المكيدة، ألقت نفسها داخل شبكةٍ غزَلها الأشعل، حتى أكشف موضع الملف.
لا سر أخفيه.
إن أشار بإصبعه ناحيتي، فستعود أصابع يده الأربعة إليه.
قال في صوت متلكئ النبرة، ربما ليستعيد انتباهي: الأشعل يلقي بذوره في مياه البحر.
لو أنه أحسن التأمل، فسيلحظ عدم تأهل قدراته لما يطمح إليه. يعجز عن الأخذ بالأسباب، والقيام بالشروط والواجبات، أخذًا بأحوال القلوب، وصفاء الباطن. تعددت مؤاخذاته على أولياء الله تعالى، وعلى الأبدال والأقطاب والنقباء والأنجاب.
وجد في علم الشيخ سالم غيث ما يبتعد عن القرآن وصحيح السنة. أخذ عليه تصرفات تخالف صحيح الدين. المعارضة جزء من أفعاله. ربما اعترض على الرأي، أو رفضه، قبل أن يكمل محدثه عبارته، تختلج ملامحه، تشي تعبيرات يديه بمعنى الرفض. لا يملك إلا غيرة عاجزة، تحثه على فعل الشر، يجادل فيما لا يعرف، يذم ما يجهل، يدَّعي ما لا يحسن، يجحد ما لا طاقة له ببلوغه، يشوه الحقائق، يخلط بين الآراء لعجزه عن فهمها، وعن إسنادها إلى المصدر الصحيح.
شغله الهدف عن وسائل بلوغه.
زوَّر على شيخ الطريقة مسائل كثيرة، عمد إلى الرمز والغمز والتورية بما يشي بعدائه للشيخ سالم، وللطريقة. نسب إلى نفسه رفع التكليف، وهو معنًى خاطئ أحزن شيخ الطريقة سماعه، خصص عظة لتوضيح الخطأ، نسب الأشعل إلى نفسه، أو أن أتباعه نسبوا إليه، رفع التكليف. المعنى الصادم أنه لا يؤدي فرائض الدين، لا يصلي ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يسعى إلى الحج. المعنى الحقيقي هو أداء الفرائض، بحب، وبلا تكليف. أوهم مريديه أنهم أفضل مريدي الطريقة، وأفضل الصوفية، آخرتهم — وحدهم — هي الجنة. قصور معلقة في السماء، تطل على الكون الفسيح، الشمس الدافئة التي لا تغيب، الحدائق، الروابي الخضر، الثمار دانية القطوف، الحور العين بحضورهن الزكي، الخدم الصغار يطوفون بالطعام والشراب والحلوى، يغيب ما يطرأ على حياتهم من الجوع والظمأ.
لو أن الشيخ الأشعل استسلم لضعف نفسه فسيواصل الاندفاع في المنزلق.
قوام الصوفية تهذيب القلوب، تصفيتها من الشوائب، تحليتها بالفضائل، فتتهيأ لتلقي فيوض الإلهامات والمكاشفات والمحبة والرجاء والفرحة والشكر والذكر والمراقبة والمشاهدة والأنس بالله.
ظاهر الدين الصلاة والصوم والحج والعمرة وصلاة الجماعة. الصوفية عمل الباطن الذي يرفض الظهور والرياء بالعبادة، ويرجو الله. الطريقة هي الإيمان، والعمل بالكتاب والسنة، وأداء الفرائض والطاعات، والأحكام التكليفية المشروعة، التوبة والتوكل والخوف والرجاء، والإحسان، وشغل الوقت بطاعة الله، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة، وتلبية الأمر والنهي، والزهد، والورع، ومحاسبة النفس، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات الأولياء والصالحين، وأهل الكشف والاختصاص.
كيف يعرف الناس حقائق أنفسهم؟
كيف يبصرون ما يغيب عن أفهامهم؟
ليس كل ما تراه أعيننا، أو تتوصل إليه اجتهاداتنا، يهبنا فهمه دون عناء. قد نعبر الحياة دون أن نفهمها.
رحلة الإنسان — منذ الميلاد إلى ما بعد الموت — سجلت في اللوح المحفوظ، سر إلهي يعجز البشر عن بلوغه. الملف صنع البشر، كتابة البشر، لا قيمة لما يضمه أمام الإرادة الإلهية التي تملك — وحدها — حق الحياة والموت، وما يتخللهما، وما بعدهما من مصير الإنسان، والأرض، والكون، والأكوان.
لا يكفي تواكلية السؤال: لماذا نحاسب إن كانت أفعالنا مكتوبة في اللوح المحفوظ؟!
لا أحد يعرف ما في اللوح المحفوظ الذي يحدد مصير كل إنسان.
حتى الأنبياء والأولياء لا يعرفون ما في اللوح المحفوظ.
ماذا نعرف عن القلم الأعلى، والحجر الأسود، وجبل ق؟
الله هو صاحب المدد، صاحب الغوث، وصاحب النجاة.
إن لم نتيقن من أن الروحانيات تعلو الأمور الطبيعية، فنحن نمضي في طريق مسدودة.
أخشى أن الأشعل يكرر مشكلة الزوج الذي أراد أن يعاقب زوجته، فخصى نفسه.
متى يئوب الرجل إلى رشده، ويظهر ندمه على ما فات؟