الطريق إلى مقام أطلبه
بدأت الظلال في التمدد.
خلفت السيالة ورائي، أسلمت قدميَّ للميدان الفسيح.
الشمس ملأت الميدان، غطت جدران البنايات. الحرارة لاهبة، الهواء يترامي من البحر مشبعًا برائحة الرطوبة واليود والأعشاب والطحالب. أنظر إلى الناحية المقابلة، البيوت والنخيل وأعمدة النور والتند المسدلة فوق الدكاكين والقهاوي. لم يعد لي مكان أذهب إليه. حتى شقة مختار رزق حذفتها من التوقعات بالورقة التي تركها لي على الطاولة الصغيرة «عرفوا باستضافتي لك».
كرمشت الورقة، وأدرت فوقها السيفون.
عرفت أني لن أرى هذا المكان ثانية.
أزمعت زيارته في دكان الأوسطى سباتة الترزي. الباب ذي الضلفتين، الأقمشة وماكينة الخياطة سنجر القديمة والمازورة والسوست وحُق الأزرار والإبر والدبابيس وبكرات الخيط والشماعة الخالية من الملابس.
الشارع صغير يصل بين محمد كريم والكورنيش. وأنا أميل من ناحية البحر، خشيت أن تصدمه زيارتي، أعرف أن الأوسطى سباتة يضيق بزوال الوقت في قراءة الكتب، والشخبطة على الورق، ولقاء الأصدقاء. يتحدث مختار عنه كرجل طيب، يحسن فهم ظروفه، ويهمل الملاحظات. إذا تغيَّر مزاجه، تحول إلى برق ورعد وأمطار سوداء. يظل مختار في صمته حتى تزول العاصفة. تعود العلاقة بينهما إلى ما كانت عليه.
واصلت السيرة طريق الكورنيش.
السماء زرقاء، تناثرت فيها سحب بيضاء خفيفة. النهار مغمور في ضوء الشمس. اختفت ظلال الأشجار المصطفة على جانبَي الطريق. ظلي تحت قدمي، والناس يسيرون لصق الجدران، أو احتموا بالتندات الشمسية، والبواكي أسفل الطوابق الأولى في شارع محمد كريم.
النسائم القادمة من البحر تتراجع أمام الحرارة اللاهبة، أو أنها تمتصها. تعمق الرطوبة من إحساسي بصعوبة التنفس.
دارت بي الميادين والشوارع والحواري والأزقة، عبرت المفارق والتقاطعات والنواصي، عيناي ترنوان إلى البنايات والدكاكين والقهاوي، تتابعان — في شرود — حركة الطريق: المارة والقعود على الأرصفة وزحام عربات النقل والأجرة والكارو. اختلاط أبواق السيارات واحتكاك الإطارات بالأسفلت والزعيق والصراخ. تترامى روائح التقلية والشواء والبخور والتمباك.
بدا مختار — حين التقيته — سندًا أنتظره فيما أواجهه، لم يعد معي إلا نفسي.
يؤلمني الشعور بالوحدة، وأني ضعيف، الوحدة ليست في العيش بمفردي داخل الشقة، أعيش فيها منذ مولدي. الوحدة تواجهني بما لا أعرفه، تعزلني عما حولي، يؤلمني العجز عن فعل أي شيء. أعرف ما أعانيه، لكنني أعجز عن التفكير ما يجب فعله، فقدت الرغبة في الكلام، يسكت فمي عن قول كلمة واحدة، في الأخذ والرد، إلقاء الأسئلة وإظهار الدهشة. عجزي عن إبداء رأيي يداخلني بمشاعر غريبة. عيناي تتفحصان كل الاتجاهات من حولي، لا أعرف حتى الاتجاه الذي ينبغي أن أسير فيه. حقائق كثيرة طالعتني من قبل، ومضت، دون أن ألحظها، دون أن ألتفت ناحيتها.
الطريق صعب المرتقى، وعر المسالك.
أنا مثل الذي عاش عمره على شاطئ البحر، واقفًا، قاعدًا، ماشيًا، يقتصر فعله على النظر إلى الأفق، وتأمل السفن، والطيور المحلقة في امتداد الساحل، لكنني — بما لم أتصوره، ولا أعددت له نفسي — وجدتني في قلب البحر، أصارع أمواجه، وأتمنى الخلاص.
التخويف إذن ما يحاولونه، فأخبرهم بموضع الملف.
ما الذي يجب أن أبوح به؟
لا شيء!
الملف الذي توهمه الأشعل غاية مقصده، تتبدل بما يتضمنه أمور كثيرة، كان سرابًا في صحراء. لم ينفض اقتناعه بأن الملف يحوي أسرارًا خطيرة، ولم يشر إلى الجهة التي دلته على ما خفي، عدد الصفحات — كما حدده — سبع، يتوسطها متن، هوامشه شروح وتعليقات. اتجهت أفكاره وأقواله وتصرفاته إلى المعنى الذي تصوره.
هل هناك ملف آخر، في موضع آخر، يضم ما يغيب عن الصوفية، ما غمض عن الأذهان من الأسرار الروحية والأنوار الإلهية والقضاء والبسط والفقد والوجد والولاء والهيام والمحبة والتوكل والورع والإجلال والعبادات والأوراد والأذكار والعواطف الحارة والأشواق النبيلة والأسئلة الكبيرة عن معنى الوجود، وما بعد الحياة.
أرهقني التوقع والقلق والخوف. تمنيت أن أغمض عيني، أفتحهما، فلا أرى شيئًا، السكون السادر في بيت الصوفية، تعمقه القراءات والأدعية، تتخلله تطوحات الأذكار، يغيب عن الذاكرة صالح جاد الرب، ومختار رزق، ومحسن الأشعل، وتوقعات التلفت.
لم يعد يجذبني ما حولي، شيء واحد شغلني، وتمنيته، أترك ما أعيشه، ألوذ بالطمأنينة والأمان.
ناوشتني الهواجس القاسية. تمنيت الموت، هو النهاية المناسبة لما أعانيه.
لو أني أمحو من ذاكرتي ما عشته في تلك الأيام القاسية؟!
أعرف عجزي عن السير في الطريق بمفردي، وأني في حاجة إلى من تسبقني خطواته، أتبعه، يطالعني من لا أعرفه، لكنني أتوق إلى لقائه، أروي ما أعانيه، أبوح، أفضفض، أعري ما بداخلي، يهبني إنصاتًا، يزيل — بالنصيحة — ما أعانيه، أطيع نصائحه وعظاته، يرشدني إلى طريق الوصول إلى الله، فأسلكه.
ما قاله لي شيخ الطريقة سر ينبغي الحفاظ عليه. حذرني من البوح بحكاية الملف، أخاف أن ينكشف السر في لحظة ما، لا أتوقعها.
لم يعد يجذبني ما حولي، شيء واحد شغلني، وتمنيت تحقيقه، أسبق المفاجآت، فلا تنتظرني. يصعب استمرار الترقب. بدأ في لحظة سقوط الملف. غالبت ارتباكي، وقلقي، والتوقعات المحيرة. هذه هي اللحظات التي أنتظرها، تعرية السر، الرد على توالي الأسئلة، الإبانة عن التوقعات والاحتمالات والقسمات الغائبة. تملكتني الحيرة: هل ألوذ ببيت الصوفية؟ هل أعود إلى بيت سليم البشري؟
المطاردات تشي بخطورة ما يحمله الملف من أوراق. تستغرقني الأسئلة: لماذا أكتم ما أعرفه؟ هل يستحق الملاحقات التي لا تنتهي؟
لو أنهم عرفوا ما بالملف من حروف متناثرة، ومتشابكة، وأسماء ورسوم وإشارات ورموز، وما يشبه الطلاسم الغامضة، هي مجرد أوراق بلا معنى أفهمه.
تفحصت ملامحه — مدفوعًا بكلمات الشيخ جاد الرب — في تردده على بيت الصوفية: لحيته المخضبة بحناء شديدة الحمرة، تكاد تغطي عنقه، وجهه المسطح الخالي من التعبير، وإن أطلت من عينيه نظرة حذرة، الطاقية فوق رأسه يتسق لونها مع لون الجلباب. ربما استبدل بها عمامة، يجيد تدويرها، في يده منشة ليف، يهش بها الذباب.
حدثني الشيخ صالح جاد الرب عن باع الشيخ سالم غيث في فهم الإشارات والرموز والحكم والتعبيرات الصوفية، يستطيع — ببصيرته النافذة — أن يجلو ما كان محجوبًا، يبين ما حواه الملف من أسرار. ظاهره مرآة لباطنه. يغمره نور الرضا الرباني، يمتلك القدرة على كشف المستور، ونزع الحجب، ومعرفة الغيب، وتعرية الأسرار.
تتوالى أمواج الهمة في بحر العطايا.
أذكر قول الشيخ صالح جاد الرب: يتوهم محسن الأشعل أنه يعرف كل شيء، لكنه سيتبين غياب أشياء كثيرة.
وهو يداعب شحمة أذنه: إذا اعترف الأشعل بخطئه لمولانا، فإنه سيطلب المغفرة له من الله.
ظللت صامتًا، خشيت — إذا تكلمت — أن تبين مشاعري.
قال: الله — سبحانه وتعالى — يأذن بالشفاعة لمن يرتضيه من الأولياء والصالحين.
وربت كتفي بأصابع مترفقة: ما دمت تشعر أنك على صواب فلا تخشَ شيئًا.
هل الملف هو الذي كان بالفعل؟ هل هو ما أودعه الشيخ سالم غيث موضعه في مكتبة بيت الصوفية، أو أن يدًا استبدلت بالأوراق الحقيقية كلمات لا معنى لها؟
لا شيء يدل على أن أحدًا يعرف ما في الملف، ولا حتى شيخ الوقت نفسه، فلماذا أجر على نفسي — بالصمت — ما يصعب احتماله؟ توقع ضربات لا أملك ردها، ولا أستطيع الفرار منها؟
إن تكلمت، هل يواصلون ملاحقتي؟ إلصاق التهم بي، فأعترف بما لا أعرفه؟!
أتحسس وقع الأقدام ورائي. ثمة من يقتفي خطواتي، يلاحقها. أكتم رغبتي في الجري إلى مكان لا أعرفه، يخلو من الأعين الراصدة، ووقع الأقدام المتابعة، والتوقع والخوف، ما لا أتبينه يحيط بي، يدفعني إلى حيث لا أعرف، لا أملك ما أفعله لرد المجهول.
في بالي ملاحظة الشيخ صالح جاد الرب عن ضعف إيماني، وعدم امتثالي لقضاء الله. قال الشيخ: عليك بترويض جسدك ونفسك حتى تستقيم إلى طريق الله. إذا كان الشيخ جاد الرب قد حذرني من التحدث عن الملف، فلأنه يثق من اكتمال أوراقه. ما الذي أنقصه؟ من بدَّله إلى هذه الأوراق المتناثرة، المتشابكة الكلمات، بلا معنى؟
هل أقاتل الظلال والأشباح؟
أشعر بأني قريب من البيت، فأميل إلى شارع يمضي بي إلى شوارع أخرى، وأحياء أخرى، لا مقصد أتجه إليه، مجرد أن أفر مما أعانيه. أغمضت عيني، فلا تبدو كل الطرق مسدودة. إن لم تكشف الأسرار عن ملامحها فإني ألجأ إلى الخيال، أتصور ما كان، وما ينبغي فعله.
أعيش ما ألِفته: أتحرك في الشقة، أقلب في الكتب، أشاهد التليفزيون، أنصت إلى جلبة الطريق، وإلى مواء القطط من نافذة المنور، أطل من البلكونة على شارع سليم البشري، أتأمل شروق الشمس، وانسحابها، من واجهات البيوت المقابلة.
تلاحقت في رأسي ومضات متشابكة: مدخل البيت الضيق، البسطة على جانبيها شقتا الطابق الأرضي، السلالم الحجرية المنحولة، النافذة المطلة على شارع سوق السمك القديم، رفع الأذان من مئذنة جامع تربانة، النسوة يطفن بمقام ولي الله كظمان، يكنسن أرضيته، يخضبن مقدمته، باعة المصاحف والبخور على نواصي ميدان الأئمة، مولد المرسي، سوق العيد، نداء الشحاذ الضرير في شارع فرنسا: قصدت باب الكريم، جنازة تخترق شارع الميدان، نداءات الفريشة أمام حلقة السمك، ضوء الفنار الخاطف تهتدي به السفن قبل عبورها البوغاز، إيقاع خطوات بحارة السفن الأجنبية على الأرصفة، طيور النورس تحلق في دوائر، ثم تنقض على الأسماك السابحة على سطح الموج، ولد اقتعد الكورنيش الحجري، ودلى ساقيه في الفراغ، يلتذ برذاذ الأمواج، فأر يطل من داخل صخور المالح دون أن يترك موضعه، قطة تختطف سمكة في فمها، تختبئ تحت طاولة القهوة، أولاد يكتبون بالطباشير على الجدران، صياد أغفى في انتظار جذبة السنارة، حصان يمد خطمه في العلف وذيله يهتز لطرد الذباب، عربة صندوق على ناصية الشارع، تكوم فوقها هرم من حبات البرتقال. قول مختار رزق، وعيناه تتجهان إلى أفق البحر: الحياة وجدت لنحياها، لنستمتع بها.
أعرف الطريق الذي أسير فيه. أخلف ميدان أبو العباس إلى شارع الموازيني، ومنه إلى شارع حافظ باشا، أخطو ناحية سليم البشري، دون أن أتلفت، أفتح باب الشقة، تحتويني ألفة المكان، أستعيد — بالنظر ناحية شباك المنور — مواء القطط في الطابق الأرضي، أطل من النافذة المطلة على الشارع، يجسد عامود النور ما يتحرك — في ضبابية الطريق — من أطياف.
الرحلة طويلة، والطريق شاقة، يحفزني الشوق إلى المعنى. حتى يبلغ الصوفي غاية الطريق، فإن عليه أن يعد نفسه بالرياضات والمجاهدات، يسلك الأصول التي تفرغ قلبه عن كل ما سوى الله. أمضى في الشوارع المتوازية، المتقاطعة، المؤدية إلى البحر. الأسوار الحديدية في نهايات الأرصفة، والإعلانات الملونة، ولافتات المحال والشرفات والنوافذ. أتوقع ما تغيب ملامحه، أنتظر قدومه. في بالي قول الشيخ صالح جاد الرب: يحاولون الحصول في حياتك على ما لا يملكه أحد، ولا يحصلون بموتك على أي شيء.
ما قاله جاد الرب دفعني للتقدمي طريق كنت أخاف السير فيها. انطلق — من ناحية الأرض الخلاء — طائر — لم أتبينه — حلق في دائرة، ثم اتجه — بسرعة — نحو الأمواج الساكنة، صعد بسمكة تنتفض بين منقاره.
أزمعت المواجهة، أتحرك — بلا خوف — أمامهم، أجاوز ما أعيشه، أتصور الآتي، لا ملامح ولا قسمات، إنما هي حياة أخرى، أتمناها، لا يوقفني شيء عن مقصدي.
صوت في داخلي يدفع خطواتي، يوجهني، ليس صوت شيخ الطريقة، ولا صوت الشيخ جاد الرب، ولا حتى صوت مختار رزق، هو صوت لم آلفه، ولا استمعت إليه من قبل.
أشعر أني خلفت — أو هذا ما يجب أن أفعله — أشياء كثيرة ورائي. أترك ما فات من حياتي خلف ظهري، لا أدير رأسي ناحيته. أعرف الطريق الذي يجب أن تتخذه خطواتي، لا أحيد — قدر الإمكان — عنه، وأبتعد عن طرق أخرى، خاطئة.
الشعور بالطمأنينة يداخلني بما يشبه الومضة، ثم يختفي. في بالي أن أجاوز التوقع إلى الفعل، أتقي المفاجأة، لا أنتظر حدوث الشيء فأفكر في رده، إنما أحاول التعرف إلى ما تحت الرماد، فأطفئه.
قال الشيخ جاد الرب: إنهم لا يريدون قتلك، إنما يريدون تخويفك حتى تدلهم على موضع الملف.
ومض السؤال: ماذا كان يحوي الملف قبل أن يخلو إلا من هذه الجمل المتناثرة والطلاسم؟
أعرف أنه يضم أوراقًا عجز شيخ الطريقة عن حل ألغازها، وإن دفع التوهم الشيخ محسن الأشعل إلى تدبيرات تفضي إلى طريق مسدود. اطمأننت إلى معرفتي أين أمضي في الاتجاه الذي سرت ناحيته. أتوقع، أتمنى، أن يتغير كل شيء، يعود إلى ما كان عليه. لن أمضي العمر سائرًا كطيف، كشبح، يحرص ألا يراه أحد. أعود إلى حياتي القديمة، أرى العالم في صورته التي كانت، ما عشته قبل أن يسقط الملف من رف الكتب. لا يشغلني الملف، وما يحويه، قدر انشغالي بأن أسترد نفسي.
لا أسرار يعوزني الاحتفاظ بها. تهفو النفس للتغلب على وعثاء الطريق، أسلك إلى مقام أطلبه، يتحقق الأنس بذكر الله، والهتاف باسمه، والعروج إلى سماء الحقيقة، والعيش بالقرب من نور اليقين، تستغرقني الغبطة المطلقة، والسلام الكامل، كأن روحًا جديدة في جسدي.
أمواج البحر لا تبلغ ساحلًا تنكسر عليه.
مصر الجديدة ٢٠١٧م