السير إلى مقام المراد
تابعت — في جلستي على قهوة الصيادين — طائرةً متعددة الألوان. ربما أطلقت من سطح بيت على طريق كورنيش الأنفوشي، واصلت طيرانها إلى ما بعد قلعة قايتباي، ثم اختفت في الأفق.
زاد ترددي على قهوة الصيادين كأنه من مألوف حياتي اليومية، تختلف قعدة القهوة في الصيف عن قعدة الشتاء، تتناثر الطاولات والكراسي حتى نهاية الرصيف، بينما يلوذ الرواد، إلى الداخل، بالشتاء، أو تغلق القهوة أبوابها.
أغادر البيت بدون إفطار، أخطف — في الطريق — ساندوتشًا، حتى لا يسرقني وقت القعود في الشقة، أخشى حركة النهار، أغلق باب البيت الخارجي جيدًا، لا يدخل من يدعي سببًا، محصل الكهرباء، أو الغاز، أو المياه، أنطرح على السرير متعبًا، لا أقوى على استبدال ملابسي، ولا أنشغل — كما هو حالي خارج البيت — بالتلفت، يأخذني النوم في اللحظة التالية لإسناد رأسي على الوسادة.
لا يوجد مكان آخر في العالم يشعرني بالطمأنينة، بيت الصوفية يحتويني بالسكينة والدفء، لكنني لا أملك الحركة إلا بإذن، أعيش مع مريدي الطريقة، أتحرك بما لا يؤذي مشاعرهم، في بيتي أفعل ما أشاء، أشعر أني أمتلك ما حولي، لا أحد يشاطرني امتلاكه، أنزع ثيابي، أغني، أصفِّر، أقرأ، ربما أطلْت التمدد على السرير، يداي معقودتان خلف عنقي، وعيناي تنظران إلى السقف، تعزلني الحوائط عن الدنيا خارج البيت، تهدأ نفسي في هدأة الليل، أنعزل حتى بدايات الصباح، يا دوب أبدل ثيابي في الشقة، أمضي من شارع سليم البشري حتى ميدان الأئمة، أخترق شارع محمد كريم إلى نهايته، ومنه إلى طريق الكورنيش، يتملكني التألم — وأنا أتنقل بين الأمكنة — لحاجتي إلى كوب شاي بالحليب، مما كانت تعده أمي كل صباح، أرشفه على مهل، أنصت إلى كلماتها، مثلما تصيخ السمع لكلماتي، أجلس في الموضع الذي اخترته بالقهوة، حفظت سحن الرواد وأسماءهم وتعليقاتهم وتعبيراتهم ونكاتهم، أعرف حتى شغلهم في البحر، والمهن التي تتصل به، اختلاف الزي بين كل مهنة وأخرى، المشروب الذي يستعيده «الجرسون» إن لم يكن على المذاق المطلوب، صنعوا صورة القهوة في توالي الأيام، تسبقني إليها مشاعر الألفة وطلب الصداقة.
تنبهت على لكزة الرجل ذي البدلة الصيفية، دفع لي ورقة في حجم راحة اليد، تبعها بالقول: استدعاء للسؤال من نقطة الأنفوشي.
تحركت — في داخلي — الهواجس والأسئلة المحيرة.
قال الرجل وهو يعبر إلى الناحية المقابلة: ستعود قبل أن يبرد كوب الشاي.
لكنني تأخرت في العودة.
مضت الدقائق الخمس، تلتها دقائق، وساعات، دون أن أعرف ما يجري خارج الحجرة الخالية إلا من قطع أثاث قديمة، قليلة، تلاغط الأصوات — في الخارج — لا يبين عن كلمات محددة، نداءات وزعيق وشتائم وعبارات متوسلة.
الحجرة في نهاية المبنى ذي الطابق الواحد، كأنه — في الداخل — طابق أرضي من بناية متعددة الطوابق، في الواجهة قاعة مفتوحة، مستديرة، بها مكتب خشبي مستطيل، وعلى الحوائط إطار لآيات قرآنية، وعبارة «الشرطة في خدمة الشعب»، ولوحة خضراء خالية، إلى اليمين طرقة طويلة، على جانبها الأيمن غرف متلاصقة، يقابلها سور حجري، مطلي باللون الأبيض، تترامى من فوقه رائحة حلقة السمك.
لم يزايلني الشعور بالارتباك، والعسكري يسبقني إلى القاعة الفسيحة، تطالعني — من وراء المكتب — ابتسامة مرحبة من الضابط ذي البشرة البيضاء، والعينين البنيتين اللامعتين وخصلة الشعر المتهدلة، والنجمتين على كتفيه.
أومأ لي من وراء مكتبه.
جلست في الكرسي المقابل.
وهو يدفع لي سيجارة: شاي؟
لعقت شفتيَّ، أخفف من شدة جفافهما: أنا لا أدخن.
– والشاي؟
ظللت صامتًا، خشيت أن يفضح صوتي ما أعانيه.
توقعي أن يسأل عن السر الذي أخفيه، حيرتني نظرته، تظاهرت بالشرود، حتى لا يفطن إلى ما أحاول مداراته، أعطيت لشيخ الطريقة وعدًا، فلن أخذله.
أذهلتني كلمات الضابط عن ثرثرات المقاهي، ملصقات الجدران، كلمات الهواتف المهددة، الرسائل المدسوسة في الصناديق، وتحت أعقاب البيوت والدكاكين، بدا ما رواه أكبر من عدم الفهم والدهشة.
قلب صفحات من النوتة الصغيرة في يده، وقرأ: أنبل الأفعال حين يفتدي المرء الجماعة.
وحدجني بنظرة متسائلة: هل هذه كلماتك؟
تلعثم لساني بالارتباك: مجرد خاطرة.
– مملاة عليك أم أنها من مخك؟
– هذه خاطرة شخصية، كنت سأكتبها على الفيس بوك.
كلمني عن الكتابة على الحوائط والجدران، وفي دورات المياه، وضع المنشورات في صناديق البريد، جذبني من ياقة السويتر، ودنا بوجهه: من حقك أن تناقش وتعترض، لكن الانخراط في تنظيم يستوجب المساءلة!
ونطق وجهه بنفاد الصبر: لو أننا تركناك تفعل ما تشاء، فلن نضمن انتشار ما تدعو إليه بين الجميع.
لماذا لا يقتحمون شقتي؟ يغيبونني في السجن؟ يقتلونني فينتهي الأمر؟ ما السر الذي يملي عليهم تواصل حياتي؟!
لم يحاولوا تقديمي إلى المحاكمة التي تسربت من أفواههم كشائعات، وإن لاحظت تقليبهم في الشقة، دون أن يجدوا ما يريدون.
بدا الشيخ صالح جاد الرب — في وقفته على باب الحجرة — كأنه رضوان حارس الجنة، زغردت — في داخلي — مشاعر الفرحة والطمأنينة.
أمسك معصمي، وخطا إلى خارج المبنى: تعال.
تنقلت نظراتي بينه وبين الضابط في القاعة المواجهة، زالت حيرتي بهزة رأسه المحيية وهو يمضي إلى الخارج.
قطع الصمت في انحناءة شارع قصر رأس التين إلى شارع محمد كريم: وقعت على ضمانتي بأن تبتعد عن طريق المرأة.
هتفت بالذهول: أي امرأة!
غمغم: الأنفوشي!
كتمت ما حدث في الأنفوشي لأشهر طويلة، لم أبح بما حدث للشيخ، ولا لأحد من الطريقة، قدَّرت التأثيرات، فطال صمتي.
– أنا لا أعرفها، لا أعرف عنها أي شيء!
وهو يهز رأسه: أعلم.
– لماذا وقَّعت إذن؟!
– حتى لا تظل في الحبس.
ولوَّح بيده: لا تضع نفسك في المخاطر، نحن لا ندري من أين يأتي الخطر! وأخرج من جيب الصديري ساعة بكاتينة، نظر فيها، وأعادها: هل تتردد على مجالس الشيخ محسن الأشعل؟
مست بالتوجس في أعماقي: هو مريد في الطريقة.
اعتدت رؤيته على باب دكانه، أسفل جامع الشيخ إبراهيم، بين سوق راتب وشارع الميدان، على الجانبين أجولة العطارة، القمح والأرز والذرة والشعير والسمسم والردة والعليق والفول المدشوش.
أعبره بنظرتي، لا أتثبت من ملامحه، ولا أحاول بدأه بالسلام، ألاصق الشيخ صالح جاد الرب في مقدمة نصف الدائرة حول شيخ الطريقة، بينما يختار لجلسته موضعًا بالقرب من الباب الخارجي.
مرة وحيدة، قصدني في مشوار إلى رأس التين، طلب أن أسلم خطابًا إلى الشيخ كامل حفظي إمام جامع محمد كريم برأس التين، حدد لي المكان، والطريق إليه، حدد لي حتى وقت مغادرة بيت الصوفية.
تخلل ذقنه بأصابعه: أعلم ما قلت.
لم أعرف ما أقول، فسكت.
وهو يمسد رأسه: وثقت بك فقربتك مني.
وثبت نظارته فوق أنفه: تثمين الذهب مهنتي!
وأنا أغالب الحيرة: لا أفهم شيئًا.
– ستعرف كل شيء في حينه.
وداعب شحمة أذنه: ما تعانيه الآن صراط إلى الصواب أو الخطأ.
وهز إصبعه: اقصر حضورك على بيت الصوفية.