كن معي … لا تفارقني
ملت من شارع محرم بك، إلى شارع جامع الحضري، الموازي لشارع الإسكندراني، طالعني — في اليسار، فوق الهضبة الحجرية — مبنى كلية العلوم، البيت في نهاية الشارع الترابي الضيق.
ضغطت الجرس بإصبعي، فانفتح الباب المغلق.
مرور سنوات لم يبدِّل كثيرًا في ملامح أحمد العشري، حتى رأسه غلب فيها السواد على البياض، لكن البطء في الحركة، يشي أن طاقته لم تعد تسعفه.
لم يعد لي مكان أذهب إليه، أخشى التردد على الشقة، أعاني توقع المطاردة، والخطر، لا رغبة في أي شيء سوى البعد عما حولي، الاختفاء من هذا العالم: العيش والتنفس والنوم والصحو والسير في الشوارع وتأمل الواجهات واللافتات والمارة والقعود على القهاوي والمطلين من النوافذ.
دقائق هي التي أستطيع فيها الجلوس، أو الوقوف، في مكان.
يداهمني القلق، فأبتعد، أُكثر من التلفت لأرى ما إذا كان أحد يتبعني، أعاني مشاعر الارتياب والشك وفقدان الثقة.
تملكتني الفكرة، فأزمعت أن أنفذها.
لو أنه يتوسط لي، فأعود إلى العالم الذي ألفته، لم أفعل ما يعرضني للمساءلة والعقاب، لماذا طردت من الشونة، بلا ذنب يدينني؟
شغلتني الأسئلة: عندما ألتقيه، هل أبادره بالكلام، أو أنتظر حتى يبدأ كلامه؟ إن تكلمت، ماذا ينبغي أن أقول؟ كيف أعبر عما في داخلي دون أن أضايقه؟
يقتلني الشعور بأني بلا أصدقاء، وأني وحيد، يشغلني الميل إلى الكشف عما بنفسي، أحتاج إلى النصيحة، أو حتى اللوم.
لم يعرفني، بدا كأنه نسيني.
وأنا أستجمع نفسي: طاهر حسين … طاهر حسين فتح الله.
شف صوته عن الوهن: في شبابي كنت — لأسباب أعرفها — أعاني كثرة النوم، الآن أعاني قلَّته!
قال لملاحظتي عن شروده: السن!
هل تتوه ذاكرته؟
ذكرته بأيام عملنا في شونة ستاني، يده تمر بالرمانة، تسقط سقاطة التورناطة، يعلو صوته بالوزن، أسجله في ورقة بيدي، يحمل العتال الجوال إلى البلوطات القريبة، ويضع غيره.
تبدلت وقفتي — بإحالته إلى المعاش، جلستي خلف المكتب المعدني المترب، في ركن الشونة، أسجل أرقام الصادر والوارد، حتى الثالثة عصرًا.
لخص — في كلمات متقطعة — حياته، منذ أحيل إلى المعاش، ألف التردد على القهوة العالية بميدان المحطة، يقضي فيها ما كان يحتاجه وقت العمل، يقرأ الجريدة، يجالس الرواد، يتأمل حركة الطريق.
التقط شعرة نافرة من فتحة أنفه: تشغلني النهاية، عدُّ ما تبقى من الأنفاس.
وأسند أصابعه على الجريدة أمامه. ربما لإخفاء رعشة يده: العمر تقدم بي، وما هو قادم أقصر مما فات، لاحظت أن الأفكار تستغرقني عندما أكون وحيدًا، أحرص على رؤية الناس.
وأومأ إلى الفراغ: في سني المتقدمة لا معنى للخوف من الموت.
وهمس كأنه يكلم نفسه: أنا لا أخشى الموت، بل أخشى حساب الملكين.
أزمعت أن أختصر ما سأرويه، لكن الكلام سرقني، شعرت أني بحت بأكثر مما ينبغي، هزمتني الرغبة في البوح، تكلمت بما يشبه الفضفضة، لا أتدبر الكلمات، ولا وقعها، ولا إن أصاخ سمعه لي، واصلت الحكي حتى أطل الملل من عينيه، حاولت أن أتخلص من المشاعر التي تملكتني تمامًا، وقيدت حركتي، لم أستطع فعل أي شيء، لا المقاومة، ولا حتى البحث عن الأذن التي تصغي.
لجأت إليه كي تتبدل أحوالي، لا أظل — كما أنا الآن — في وضع الباحث عن النصيحة والملاذ، لا أهمس بالتذلل، أملي بثقة الذي يعرف ما يريد.
لو أنه توسط لي. ربما عدت إلى حياتي القديمة، يقتصر تنقلي بين الشونة والبيت.
في نبرة مداهنة: أدين لأستاذيتك بأفضال.
– مضت تلك الأيام، أحتاج إلى عون الآخرين.
وهز رأسه: أمامي المعاش، تركت العمل وملفي خالٍ من الملاحظات.
استوقفتني العبارة، تأملتها، خشيت ألا أقول ما اعتزمت قوله.
أسلمت نفسي لموجة صمت.
وهو يعتصر جبهته براحة يده: شاغلي الآن أن أقضي بقية عمري بعيدًا عن الإزعاج والمشكلات التي لا تخصني.
وأنا أغالب الدمع: يصرون على اتهامي بما لا أعرفه!
حين أعاد ما قال، عرفت أنه لم يسمعني.
حدق في ملامحي بإشفاق: ألم تتكلم يومًا بما تؤاخذ عليه؟
لم يكن أمامي — للبعد عن التصورات القاسية — سوى أن أحتفظ لنفسي بالسر الذي لا يعرفه أحد.
– نحن نؤاخذ بأفعالنا وليس بما نقوله أو ننوي فعله!
استعصت المعاني، لم أجد ما يسعفني من الكلمات، استطردت: ربما لي آراء في مشكلات نعيشها.
وشى خفوت صوته بالإجهاد: ليتك تحتفظ بأفكارك لنفسك.
ثم وهو يتهيأ للنهوض: يصعب أن أفعل شيئًا لأجلك ما لم تعترف.
– بماذا؟
– لو أني أعرف ما سألتك!
– هل أعترف بما لا أعرفه؟
وسم صوته بالحسم: راجع ذاكرتك.