ستر الحال
عرفت أن قدومهم إلى الشونة طرف الحبل الذي سيحيط بعنقي، تغيبت عن الشونة دون إذن، لم أعد أستقل الأوتوبيس الذي يخترق الكورنيش إلى ميدان محمد علي، ثم شارع السبع بنات، إلى الورديان، تطالعني شونة ستاني بين صفوف الشون المتقاربة المطلة على الدائرة الجمركية.
بدا الشيخ صالح جاد الرب كأنه في انتظاري قبل أن يصحو النهار.
عاود القول: أنت مسئوليتي.
أدركت أنه يعرف ما جرى: التهم التي لا تنتهي، والمطاردات المتلاحقة، والحبل الذي التف حول عنقي، فلا أقدر على التنفس.
لا أعرف المرض الذي صحب أمي إلى الموت، كنا نعجز أمام تبدل مشاعرها وتصرفاتها، والكلمات التي تفاجئنا بها، معرفة إن كان مزاجها رائقًا أم متعكرًا، لا ندرك ما حدث إلا بعد أن يطالعنا القول أو الفعل، تعاني اختلال اللحظات، تميل إلى الحدة، ثم إلى المباسطة، يتداخل البكاء في ضحكاتها، دموعها على طرف عينها، تبكي بسبب، وبدون سبب، يتلاشى انبساط ملامحها في التوتر، تحدث نفسها بصوتٍ عالٍ، كأن هناك من يستمع إليها. ربما غلبها انفعال، تصيح وتشتم وتهدد، تداهمها حالات إغماء، تطلق الصرخات، ويعروها تشنج.
زادت من ترددها على أضرحة الأولياء ومقاماتهم، امتلأت حياتها بالأحجبة والتمائم والرقي والتعاويذ والأعشاب والطب النبوي والعقاقير وإطلاق البخور.
أرقبها خلسة، أبحث في ملامحها عما تحاول إخفاءه.
نحيفة أقرب إلى الهزال، نظراتها تائهة، لا تستقر على شيء، دائمة الهمس لنفسها بما لا نتبينه، ترافق كلماتها إشارات باليدين، وتعبيرات بملامح الوجه، ثمة شعيرات حمراء دقيقة تشابكت في بياض العينين، أحاطت بعينيها المرهقتين هالتان من السواد، رفعت شعرها إلى أعلى، كومته خلف رأسها، يقتصر ما ترتديه على الفساتين ذات الأكمام الطويلة، المحكمة إغلاق الصدر.
تكررت خلافاتهما، يترامى من الغرفة المغلقة زعيق شجار، لا أستطيع التعرف إلى مفردات كلماته، لكنه حرص، مثلما حرصت هي، ألا تبلغ معاملة أحدهما للآخر حد الإهانة، ألفت كلماته الملمزة، تشيح ببصرها، وتستغرق في الصمت.
تكررت شكواها من حموضة في المعدة وقت الليل، لم تعد تتناول العشاء، لكن الأعراض ظلت على حالها، عانت آلامًا في المعدة، ورائحة كريهة في الفم، وميلًا للقيء، إذا اتجهت إلى دورة المياه، فاجأها التبول أثناء سيرها، لا تستطيع منعه.
تبدلت معاملة أبي لها، أدرك أنها مريضة، وتحتاج إلى الرعاية، تنعكس تصرفاتها وصراخها في عينيه تألمًا دامعًا.
صحت — ذات صباح — على كثرة التقيؤ، عجز الطبيب في مستشفى رأس التين عن إنقاذها، وإن فسر أبي موتها بدم الترسة الذي تذهب إلى حلقة السمك — قبل الصباح — لشربه، أرضية العربة الملوثة تصاعدت بالدم إلى فمها المفتوح.
تبدلت — من يومها — حياة أبي.
أحيل — بتأثير رطوبة البحر على صدره — إلى المعاش المبكر من إدارة التفتيش البحري، تتولى تفتيش أية سفينة تدخل البوغاز، أو تغادره. لزم الإقامة — معظم الوقت — في بيت الصوفية بشارع الخضري، كأنه يعد نفسه لحياة قادمة، لا يكلمني عنها، ولا أعرفها. إن ثقل عليه الصمت، فتح المصحف، واستغرق في القراءة، لا ينزل الطريق إلا لأداء الصلاة في جامع ياقوت العرش، أو المرسي أبو العباس، يعبر قهوة أنح بنظراته، يكتفي أمام الدكاكين — دون التفات — بإلقاء السلام، يتبدل الحال في بيت الصوفية، يتلو القرآن، يقرأ الأوراد والأحزاب، يؤذن للصلاة، يلبي احتياجات الشيخ صالح جاد الرب والمريدين من مكتبات الموازيني والعطارين، يشرف على عم حمود في تنظيف البيت.
لم يعد أبي يناقش تصرفاتي: ما إذا كان عملي في بيت الصوفية مؤقتًا، أم أنه جملة في فقرة طويلة.
كان يرسلني إلى البيت رقم ثلاثة في شارع ابن الطفيل، أخلف ميدان أبو العباس إلى شارع الأباصيري، أميل إلى شارع ابن الطفيل، في نهايته طريق الكورنيش، يستقبلني — على باب شقة الطابق الثاني — رجل في حوالي الستين، لا ينزع النظارة الشمسية من عينيه، ويرتدي روبًا من الصوف في الشتاء، ومن الحرير في الصيف.
يدفع لي زجاجة ممتلئة بسائل الراوند قائلًا: سلِّم الدواء للوالد، سلم عليه.
ويغلق الباب.
لما عرض الشيخ جاد الرب أن أساعد في الطريقة، قال أبي في لهجة ترحيب: الشهادة المتوسطة تكفي للعمل في خدمة الطريقة.
التقطت طيف ابتسامة على وجه الشيخ جاد الله: هل العمل في الطريقة وقف على محدودي التعليم؟!
وهز سبابته في تأكيد: بيتنا لا يستقبل إلا المتعلمين، الذين يمتلكون الوعي. الجهلة — حتى لو نالوا أعلى الشهادات — قد لا يحفظون عهدًا، ولا يؤتمنون على سر. للطريقة عهدها وأسرارها.
عرفت أن أبي أراد إنقاص فترة تعليمي، فتقل أعباؤه المالية، العمل في الطريقة حجة، أراد بها أبي مداراة الضائقة التي فرضها الإنفاق على علاج أمي، وعلى مواصلة علاجه من الربو، يعاني تأثير الرطوبة على صدره، فهو يتنفس — من فمه المفتوح — بصعوبة، يشعر — لأقل مجهود — بالاختناق، يكثر من توسيع فتحتَي أنفه، ويستنشق الهواء بعصبية، يضع ورقة جريدة بين الفانلة الداخلية والقميص، ليمنع السعال الذي يمزق صدره، اعتاد الأزمات الربوية، تداهمه، تدفعه إلى طلب نسمة هواء، تعلو نوبات السعال، يتغير وجهه كأنه اصطبغ بالسواد، تتقلص ملامحه، أجري إلى صيدلية الإسعاف. أعود إلى البيت ومعي مسعف، يحقن أبي بأدرينالين، ذلك هو الدواء الذي كان ينقذه من أزمة المرض، بالإضافة إلى دواء آخر هو الإفدرين، لا أدري إن كان موجودًا، أم أقصته أدوية أخرى.
فتحت الباب للطرقات.
قال لي مريد، أعرف سحنته، وإن لم أعرف اسمه: والدك بعافية.
داخلني انقباض: هل هو الموت؟
في زيارتي الأخيرة لبيت ابن الطفيل، نبهني الرجل الستيني إلى خطأ اعتماد أبي على دواء وحيد.
– إذا لم يحدث تقدم فلا بد من طبيب.
وجد الشيخ صالح جاد الرب في ميتة أبي كرامةً، يغبطه عليها: تمدد أبي — قبل أن يؤذن لصلاة الجمعة — لصق حائط القاعة في بيت الصوفية. لم يرد على نداءات إيقاظه، هزه الشيخ، ثم رفع عينيه بالتأثر: مات؟
سألني الشيخ إن كنت سأكتب نعيًا — كعادة أهل الإسكندرية — يُطبع، أو بخط اليد، تُلصق نسخ منه على أبواب البيوت، وجدران الدكاكين، وفي مداخل القهاوي، والأعمدة الخارجية للمساجد والزوايا، والأماكن التي يتردد عليها الناس: حلقة السمك والوكالات والبنايات الحكومية داخل الحي.
رفعت رأسي من على الورقة الخالية: في البيت ورقة نعي أمي.
– بدِّل اسم المتوفى … أقاربك لن يتغيروا!
تبينت أني أعيش في بحري بلا أقارب. لم يسألني الشيخ عن أخوالي في دمنهور، وأعمامي في محرم بك. الزيارات المتباعدة لم تتح للقرابة تواصلها.
قال في لهجة مواسية: الفراق مؤلم، لكنك يجب أن تهنأ لوفاة أبيك يوم الجمعة؛ اتَّقى فتنة القبر.
حاولت أن أتكلم، لكن الكلمات اختنقت في حلقي.
مسح بيده على رأسي، وقرأ آيات من القرآن.
رفع صوته بما لم يعهده المريدون: أنت مسئوليتي.
وضرب على جبهته كالمتنبه: هل لديكم مقبرة؟
دُفنت أمي في العامود. زرتها مع أبي مرات كثيرة.
سنذهب معك.
اكتسبت الوفاة معناها الجميل من أنها أعقبت صلاة الجمعة في أبي العباس، وسبقت صلاة العصر في بيت الصوفية.
عرفت الطريقة في أعداد المريدين التي صاحبت الشيخ جاد الله من البيت إلى المقابر، بِدل وجلابيب وأفرولات وسحن حزينة، فعلوا كل شيء، بداية من استخراج تصريح الدفن حتى إغلاق المجاديل. يشهد الله بما هم عليه من تكاتف وتكافل ومودة ورحمة. يحرص الشيخ على تبادل الزيارات والخدمات، وتنمية الصداقات الشخصية، وحصول ذوي الحاجة على الأطعمة والكساء والنفحات المالية. لا تقتصر الحضرات على بيت الصوفية، تنتقل إلى المساجد والتكايا والزوايا وأضرحة أولياء الله. ربما شاركت الطرق الأخرى مناسباتها المختلفة.
أيقظني من الشرود قول الشيخ جاد الله، وهو يمسك بساعدي: هيا بنا!
لم ألحظ حتى إن كان شيخ الطريقة شارك في الجنازة. أعرف زهده، وتفرغه لله، وهجرته إليه. هو شيخ الطريقة، قطبها، يليه الأبدال، فالأوتاد. جاهد النفس، حاربها بالجوع والعزلة والسهر، والزهد في الدنيا، والانقطاع عما تزينه العينان للنفس، فتتمناه. لم ينتقل من مقام إلى آخر، حتى بلغ الكمال في المقام الأول.
حضرة الطريقة ليست هي الحضرة الوحيدة التي يجلس فيها الشيخ، الحضرة الكبرى، القائمة والمستمرة، هي حضرته في معية الله، الحضرة الإلهية لا تقتصر على زمان ولا مكان، إن استغرق الشيخ فيها فإن من حقه — ومن واجبه — أن يبتعد بكلِّيته عما سواها. الخلوة تعينه على تلقي المدد الرباني، والفيوضات الغيبية، والأسرار، أوقاته عامرة بالطاعة والذكر، والإكثار من الاستشهاد بالقرآن، وأحاديث الرسول، والموازين الشرعية، وتفاسير العلماء، وأدلة العقل. والرنو — بالبصيرة — إلى الملأ الأعلى.
لم يعد شيخًا للطريقة، ولا شيخًا للوقت، هو وليٌّ عظيم المكانة، تنقَّل بين كل المقامات، حتى وصل إلى مقام الفناء عن ذاته وإرادته. بقي بالإرادة الإلهية.
فكرت — وأنا أعيش الوحدة — في ترميم شروخ الشقة، وإعادة الطلاء، وتجديد الأثاث، ونقل غرفتي المطلة على شارع سليم البشري إلى غرفة أبي في الناحية القبلية.
بظَّت الكتب — بعد وفاة أبي — خارج حجرتي، تناثرت في أرجاء الشقة. أضع الكتاب كيفما اتفق، تتعدد الأمكنة بتعدد الكتب: الكومودينو جوار السرير، الكراسي، على أرضية غرفة النوم، طاولة السفرة. ربما نسيت في الحمام كتابًا، شغلتني قراءته.
نسيت — بتوالي الأيام — ما استغرق تفكيري، وأهملت الأمر.
تعدَّد تنقُّلي بين أكثر من دكان، جميعها لمريدين في الطريقة. أزمع — دون أسئلة، ولا أخذ ورد — أن ألجأ إلى الشيخ صالح جاد الرب، يتوسط لي في عمل جديد.
ثاني أسبوع لعملي في دكان الحاج يونس الترزي العربي بشارع السيالة. تكلم الرجل عن قلة العمل، عدا الأئمة فإن العاملين في مساجد الحي يرتدون — أوقات الصيف — البنطلونات والقمصان، يضيفون — أوقات الشتاء — أردية ثقيلة، القفاطين والعباءات والبدل والجلابيب، غالبية المريدين يحرصون على الجلباب الأبيض، والطاقية البيضاء، والخف المغربي.
كنت ألمح نظراته المحدقة في جلستي الساكنة على باب الدكان.
آخر نهار الخميس، دس في يدي مائة جنيه: أعطيك من رزق أولادي.
استبقاني الشيخ ذات ضحًى. طلب — متعللًا بضعف بصره — أن أعيد على سمعه أحزاب الشاذلية.
قال في لهجة مشفقة: يعجبني خلو قراءاتك من اللحن.
حدق بالتأثر لرؤية الدمع في عيني، وكلماتي الرافضة، وأنا أتراجع أمام يده الممدودة بالنقود ناحيتي.
– هل كنت ترفض من أبيك؟!
عرك الشيخ أذني: لعل ما تعانيه انتقام إلهي على الفعلة التي ارتكبتها.
نظرتي العفوية عادت بي — في صعودي — ثلاث درجات. حسنية فرجت ما بين رجليها الحافيتين، وأهملت انحسار طرف الفستان عن فخذها، تمسح بلاط البسطة أمام باب الشقة.
حلت — في داخلي — رغبة لم أحس بها من قبل، تلبَّستني الجرأة، فككت أزرار البنطلون، استغرقت في النشوة.
أذهلني الصراخ عن نفسي، وعن كل ما حولي. لم أحاول حتى أن أغلق أزرار البنطلون، ما لمحته أمي، بينما أم حسنية تشارك ابنتها الصراخ.
لم أكن — قبل تلك اللحظة — أتصور حسنية في عناق، ولا أتصور علاقة بيني وبينها. خطف نظرتي — بجانب عيني — شعرها الأسود المسدل على كتفيها، وعيناها البنيتان الواسعتان، وفمها الدقيق. لم أتثبت مما رأيت، ولا حاولت التحديق. لم يكن في بالي إلا أنها ابنة جارنا حنفي السنباطي، الموظف الإداري بمستشفى رأس التين. لا أعرف إن كانت تذهب إلى المدرسة، أم تلزم البيت، لا يبدو أنها تنظر ناحيتي، ولا أتعمد النظر ناحيتها، اهتياج لم أعهده في نفسي هو الذي أملى ما فعلت، لم تكن تشغلني العلاقة — قبل تلك اللحظة — بيني وبين أية فتاة، الاستمناء هو رد الفعل لما أراه، ويثيرني.
أخذتني المفاجأة بعد انتهاء ما حدث، مثلما أخذتني في لحظة الفعل، وأخذت أسرتها. انتهى الأمر بإمساك أبي ساعدي، يسبقني خارج البيت، يمضي في الشارع إلى تقاطعه مع الحجاري، أعرف — من بنايات الميدان — أننا نتجه إلى بيت الصوفية، نميل من شارع مصطفى باشا العرب إلى شارع الخضري، حتى بيت الصوفية.
دفعني أبي ناحية الشيخ صالح جاد الرب بيد غاضبة. اصطدمت — في تعثري — بركبة الشيخ وهو مستغرق في قراءة الأوراد.
قال أبي لنظرة المفاجأة في عينَي الشيخ، وهو يفتح فمه ليلتقط أنفاسه: اعذرني يا مولانا. هذا الولد فضحني!
نقل للشيخ ما روته أم حسنية، جاوزت اللحظات صمتها إلى عبارات استدعت الصراخ.
عدل الشيخ عباءته في استعادة لهدوئه: دع الولد لي. هو مسئوليتي.
في اقترابنا من البيت، رأيت العمال ينقلون قطع أثاث من السيارة الواقفة أمام الباب. عرفت أن أسرة جديدة تحل بدلًا من أسرة حنفي السنباطي.
رمقني أبي بعينين مؤنِّبتين، كأنه يتوقع كلامًا، لكنني حولت نظرتي إلى غير اتجاه، وواصلت السير.
استبقاني الشيخ جاد الرب في بيت الصوفية، صحبني إلى موالد آل البيت والأولياء، والنذور، ومحافل الذكر والمديح والإنشاد، وحضرات الشهود والمكاشفة. الساحات والسرادقات والخيام وأكشاك الحلوى وخيال الظل والحاوي وآكل النار ولاعب العقلة والراقص على السلك، وشاعر الربابة والأدباتي وتعليقات الأنوار الملونة والبيارق والأعلام، والرايات الخضراء في زواياها أسماء الخلفاء الأربعة: أبو بكر، عمر، عثمان، علي.
ألقيت بنفسي في بحر المريدين. تعالي الأصوات بالقرآن والأدعية والمدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتهليل والتكبير، والاستغاثات متذللة، منغَّمة، تطوح الأجساد على إيقاع الذكر، شطائر الجبن واللحم والطعمية وأطباق الفول النابت، وقعدات القهوة العربية والتركية والشاي الصعيدي والشاي أبو فتلة والشاي الميزا والكركديه والينسون والحلبة الحصى والعناب والعرقسوس والخروب والماء البارد.
عمقت الموالد شعوري بالرفقة، الشعور بأني أحيا مع أناس أعرفهم، أجالسهم، أحاورهم، تأخذنا المناقشات، آخذ منهم وأعطي. لم أعد أميل إلى الانفراد بنفسي. أخشى البقاء وحيدًا. أجد الطمأنينة في الجلوس إلى الآخرين، أو في مجرد متابعة تطورات حياتهم. أحرص على رفقة مريدي الطرق الصوفية، والمترددين على الساحات، وسرادقات الإنشاد، والحضرات، وحلقات الذكر، والخيام، والشوارع حول المساجد والمقامات.
استغرقتني الصوفية، قبل أن أعرف ما هي الطريقة، ولا متى أطلق عليها هذا الاسم، أخفقت في التعرف إلى الفارق بين طريقتي والطرق الأخرى. عرفت ما لم أكن أعرفه، أو أني نسيته.
علمني الشيخ جاد الرب بعض ما غمض عني، الأداء الصحيح للوضوء، التيمم، الاستنجاء، الاستجمار، وضع اليدين أثناء القيام، تحريك السبابة عند التشهد. حبب لي أعمال الطريقة. أقبلت — بالهمة — على الصوفية، فرقها وأقطابها وتعاليمها وطقوسها وأورادها، وأسماء الغوث والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة. حفظت كلام المتصوفة من المقطعات والقصائد والرقائق وغيرها، قرأت إحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية، وقوت القلوب، وعوارف المعارف، ودلائل الخيرات. قرأت للمحاسبي وأبو طالب المكي والجنيد والشبلي والبسطامي والجيلاني وبن عياض والكرخي والجنيد البغدادي. أربكني أن قراءاتي لهذه الكتب — وغيرها — لم تفتح لي بابًا مغلقًا، تنفذ منه حيرتي، وما أعانيه. بدت لي معظم المفردات والجمل غامضة، ويصعب فهمها. أعدت القراءة، ومحاولة الفهم. عرفت المقامات السبع: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكل، الرضا. تعرفت — بعدها — إلى بقية المقامات والأحوال والمنازل، وإلى الذكر والمراقبة والمجاهدات والرياضات ومحاسبة النفس والزهد، ومعاني الحدود والمعاملات والمحاسبة والخوف والتخلي والرجاء والفضل والكشف والمشاهدة، والأنس والهيبة والنور. أفضل الاختلاء بنفسي، للقراءة، المشاهدة والسماع ربما حدَّا من انطلاقات الخيال.
قضاء أمير المؤمنين.
التقطت عنوان الكتاب في عظة الشيخ حسين الجعفري إمام جامع ياقوت العرش. يعرض لما أصدره الخليفة علي بن أبي طالب في قضايا الناس، ما يتصل بالشريعة، وما ينبثق عن سلوكيات الحياة الدنيا. إذا كانت الحكمة قد تلبست الصبي علي بن أبي طالب، فتوسد فراش النبي قبل أن يصحب الصديق أبا بكر في الهجرة إلى مكة، فإنه الحكيم في موضع القضاء، ثبت في ذهني قول الإمام الباقر: ليس أحد يقضي فيه بقضاء، يصيب فيه الحق إلا مفتاحه قضاء علي عليه السلام. الكثير الكثير من المواقف، جلس فيها الإمام للقضاء، يستدعي، يسأل، يناقش، يتأمل، يصل إلى ما يراه صوابًا، فيبرئ ويدين، ويدعو إلى الكلمة السواء. كشف الإمام — بأفعاله — الحق حتى أقرَّ به المنكر اضطرارًا، ما قد يوسم بالغموض أو التلغيز يُعمل فيه فكره، فيصدر حكمه باقتناع العدل، يكشف حيل المحتالين، حتى يصبح الحق جليًّا، يستنطق بما يكشف الواقع من التفريق بين الشهود، وكتابة تقاريرهم في أوراق، يمنع فيها المدعي من الإقرار، وحثه على الإنكار، كما في الحدود الإلهية، عملًا بالكتاب والسنة، القضاء بما آتاه الله خليفة رسول الله من المعجزات والكرامات، القضاء على مقتضى مصطلحات الشارع، وما يستنبط حكم الشريعة من آثار الطبيعة، والتي صار فيها المدعى عليه مدعيًا ذا حق، وما لا يوجد فيها شيء من العدل الظاهري، لالتباس الواقع في دعوى المدعي، وثمة القضايا التي كان الحكم فيها متعددًا، فلم يعرف القاصرون منها إلا واحدًا؛ قضاء الإمام في امتحان الدعاوى التي لا يمكن إقامة البينة فيها، وبالردود على معضلات الأسئلة، وفي غرائب الخلقة، أقواله في التوحيد والتفسير وفن الكلام، وفي علم الصرف والنحو واللغة والعلوم الأدبية، وعلوم الفلك والجغرافيا والحساب والرياضة والطب والكيمياء والصنعة.
أزاح الغطاء عن المستور من الظلم، والقهر، والمدانين بغير ما أمر الله، ولا بوازع من ضمير، والمختفين بلا سبب، والحقوق الضائعة. المشهد الحقيقي صنعه صمت أصحاب الحق خوفَ الأذى، لكن توالي الأسئلة الذكية، وحسن التقاط التفصيلات، كشف — بحيل قوامها العلم والوعي والفطنة — كذب العصاة والقتلة واللصوص وذوي النيات السيئة، يواجه الخطائين، فيعترفون.
أعان الناس — بأحكام الشريعة — على التوبة والتطهر، منع تعطيل الحدود، وتضييع الأحكام، وتقديم البينة، وقبول التوبة في الدنيا، وسقوط الحد. قضى بالعفو على من اضطر غير باغٍ، ولا عادٍ، لا إثم عليه.
رده عن سؤال الصديق أبي بكر عن أصل الأشياء: هو الماء؛ لقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وقوله عن العدل والإحسان: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل، وقوله عن معنى ولا حول ولا قوة إلا بالله: إنا لا نملك مع أحدٍ شيئًا، ولا نملك إلا ما ملكنا، فمتى ملكنا ما هو أملك به منا، كلفنا، ومن أخذه منا، وضع تكليفه عنا. تصويبه العديد من أحكام الخليفة عمر، ودعوته إلى مراجعتها. أستعيد قول عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب. لولا علي لهلك عمر.
أهملت ادعاءات الغلاة والمفترين والكفرة وما لا يصدقه العقل. استوقفتني أحكام، استبشعتها، تألمت لمصائر من قضوا بها. اعتدلت كفَّتا الميزان بالصفح والعفو، رفع العقاب عن شبهة الخطأ، تشديد العقاب على من أسرف في خطئه. أعيد قراءة الفقرة مرة ثانية، وثالثة، أطلب الاستيعاب والفهم. ربما اكتفيت بقراءة صفحتين أو ثلاث، تأخذني القراءة إلى حد الحفظ، لا أنسى كلمة واحدة، علقت بالذاكرة آلاف الكلمات والجمل والتعبيرات والمواقف والنصائح والأحكام، تجتذبني المفردات والتعبيرات، فأحاول أن أفهمها. أضع حول المفردات خطوطًا، أحيط الجمل بمربعات ودوائر، أسجل على الهوامش ملاحظات وتعليقات. يخامرني هاجس أني نسيت فقرات مهمة، أعود إلى صفحات قرأتها، ربما تستعيد الذاكرة ما كنت نسيته. فتح الكتاب أمامي عالمًا لم أكن أعرفه، فصوله تختلف عن فصول كتب الفقه والشريعة والمذاهب الإسلامية. أستعيد — بالقراءة — قول الخليفة عمر بن الخطاب — نقلا عن الرسول — أنا مدينة العلم، وعلي بابها، وقول الإمام: سلوني قبل أن تفقدوني.
أغراني الكتاب بالاقتناء. فتح أبواب الذهن على ما كان غير مفهوم، وغائبًا. أزمعت أن أجعله مثلًا لي في مسائل الشريعة والفقه، ذلك ما استندت إليه أحكام الإمام في قضايا الناس.
قلبت في مكتبة بيت الصوفية، ربما التقيت المعاني الطيبة.
نفى الشيخ صالح جاد الرب وجود الكتاب، ترددت على مكتبة أبي العباس المطلة على صحن الجامع، وعلى مكتبة الإسكندرية، ومكتبات شارع النبي دانيال والعطارين.
لازمني إحساس أني سأجد الكتاب في موضع ما داخل مكتبة «إخوان الصفا وخلان الوفاء» القريبة من جامع العطارين. تنقلت بين الأرفف والأركان والزوايا. قلبت الكتب المرصوصة، أو المتناثرة، معظمها علاه التراب، وتأكلت أطرافه. نفضت ما علق من الأتربة، أبحث عن الإبرة في كومات القش.
بدا لي الكتاب كنزًا، وأنا أقلب صفحاته. خلوت إليه ليالي متتالية، عقب عودتي إلى بيت الأسرة، أعدت قراءة ما بدا مستغلقًا، حتى أدركت معانيه، انفسح أمامي عالم حافل بالوقائع، والعدالة التي تراعي الله، والتواريخ، والمكاشفات، والكرامات، والمناقب، والناس العظام. لم يبدل الكتاب ما كنت أعرفه، لكنه وهبني إشارات إلى ما وراء قضاياه، ما يرويه أهل بيت الصوفية من حكايات البعد عن الشريعة، وجرائم الخديعة، والخيانة، والسرقة، والسطو، والاختفاء، والقتل.
وضعت الكتاب أمام الشيخ جاد الرب: قرأته.
تنقلت نظراته بين صفحات الكتاب وبيني. دلت النظرات على أنه أطل من نوافذ كانت مغلقة.
وهو يتفحصني: لماذا اخترت هذا الكتاب؟
وتدلت شفتاه في حيرة: هذا كتاب شيعي.
حاولت أن أرسم تساؤلًا على ملامحي: هل الشيعة غير مسلمين؟
– مذاهبهم مختلفة.
– نحن نضع اسم الإمام على أعلام الطريقة.
همس بلهجة معتذرة: من ينكر مآثر الخليفة الرابع؟
ثم وهو يربت كتفي: لا تتوهم بسعة قراءاتك أنك تعرف كل شيء. المعرفة صعبة. أحببت بيت الصوفية، وسكنت إليه، تتعالى من حولي أصداء التسبيح والتحميد. لقيت الأمن والطمأنينة والمؤانسة وهدوء النفس، وتلاشى الحذر، كأني ألقيت متاعبي وهمِّي خارج البيت، قبل أن أدخله. أخلع عن نفسي كل ما يضايقني، لا نظرات متابعة، ولا مطاردة، أقرأ، أسأل، أفيد من الآراء والاجتهادات والخبرات، تؤنسني أخوة المريدين، ألزم آداب الوقت، أتأسَّى بالشيخ جاد الرب، أقواله وأفعاله، وقت محسوب بدلًا من السير المتخبط في الشوارع.
تخليت — بعد حصولي على الثانوية العامة — عن استكمال تعليمي الجامعي، أتجه إلى مسار يختلف عما أراده له أبي.
لم أعد أغادر بيت الصوفية إلا للقاء مريدين، أحمل رسائل شيخ الطريقة، ونصائحه، وتوجيهاته، أعود برسائل في أظرف مغلقة. لا يحاول الشيخ جاد الرب فتحها، إنما يسلمها إلى مولانا شيخ الطريقة في حجرته، أو يضعها — مطوية — على مكتبه.
ذات عصر، طرق الباب مريد لا أعرف اسمه، وإن عرفت سحنته. صمت الشيخ عن حديثه إلى نصف الدائرة من حوله. أشار إلى جانبه، وهمس: اقعد!
لما التفت ناحيتي، كنت قد تصورت أنه نسيني: هل تؤدي فرائض الله؟
هززت رأسي بإيماءة موافقة.
سيظلك عرش الله لأنك تنشأ في عبادته.
أردف وهو يتمتم على رأسي بأوراد: حصِّن نفسك بالتزام الصلاة وقراءة القرآن.
ولاحت على شفتيه ابتسامة وليدة: ستذهب إلى وظيفة حكومية. أضمن!