في حضرة المؤانسة
تبينت — بعد نزولي درجات السلم إلى بسطة الطابق الأرضي — أن خطواتي أبطأت أمام الشقة إلى اليمين. اتجهت — بجانب عيني — ناحية الباب المغلق، ونزلت بقية الدرجات.
ومض في بالي ما نفضت رأسي لتناسيه، حتى امتصني هدوء حركة أول الصباح، يعمقه ترامي نباح الكلاب، أخطو خارج البيت، يسبقني التوقع بأن من أخشى لقاءه ينتظرني.
بدا العالم ضيقًا، لا يتسع لي، يحاصرني، يخنقني. أعاني المراقبة والملاحقة والخوف من المطاردة، وترقب الأفعال القاسية.
دفع بي الشيخ صالح جاد الرب إلى مريديه. ظللت — في كل عمل — بالقدر الذي فطن فيه المريد إلى أني لن أجيده.
عبارة الشيخ: أنت مسئوليتي، أضافت المطاردات إلى أسباب اعتذار المريدين عن تشغيلي. أقضي بقية اليوم في الشقة، أو في القهوة، أو أترك لقدميَّ سبيلهما في زحام الشوارع.
تلامس أنفي — في سيري المتخبط — روائح الشقة: العرق على وسادة السرير، ستارة باب البلكونة، قلي السمك من المطبخ، تشتريه أمي من الحلقة، وتقدمه غداء كل جمعة، الغبار المتراكم مكتبة الصالة، تكوينات النشع الطرقة، أدوية أبي، البخور الذي اعتادت أمي إطلاقه في نهايات أيامها.
أعدت الالتفات إلى الشحاذ في جلسته أول الطريق إلى حديقة سراي رأس التين. هل هذا هو الموضع المناسب للتسول؟ هل يلحظ العساكر وجوده؟ ولماذا سكت حرس السراي عن قعدته؟
بدا — في هيئته الحقيقية — عينًا راصدة، لا يشغلها زحام الميدان، ولا النخيل السلطاني، واللافتات التي غطت واجهات العمائر.
واصلت السير، أعيد التحديق فيما حولي. أشعر بالأعين المتابعة في مواقف الباصات، زحام الميادين، النوافذ المواربة، ظلمة مداخل البيوت، لا تغيب عن نظري حتى الأعين التي تحاول الاختفاء، خلف باب، أو جدار، أو شجرة. أعرف أني وصلت إلى لا مكان، فقدت وجهتي. العودة من حيث أتيت — دون أن أخطئ الطريق — هي ما يجب أن أفعله.
ألاحظ — بعد مغادرتي بيت الصوفية — ما يطرأ على الأمكنة من تغيرات: الملصقات الإعلانية الجديدة على الحوائط والجدران، الطائرات الورقية من فوق الأسطح بدلًا من النحلة والبلي في الشوارع الجانبية، تنظيف بالوعات الطرق، استعدادًا لأمطار الشتاء، صيادو السنارة تخلو أماكنهم — لقسوة النوات — فوق مصدات المينا الشرقية، تحول المكتبة الحجازية — أول شارع الميدان — إلى دكان للفاكهة، بائع الصحف — على ناصية شارع صفر باشا — يضيف بيع التسجيلات الصوتية وشرائط الكاسيت، حظر الاقتراب من حديقة رأس التين …
أجاوز الكثير من التقاطعات والمفارق.
لا يشغلني السبب الذي مال بي عن السير في طريق، واتجاهي إلى طريق آخر. بدت كل الشوارع متشابهة، تعدد عبوري لها فتشابهت، لا أعرف من أين أتيت، ولا إلى أين أمضي.
تحل لحظات ساكنة، لا أشعر أني رأيت شيئًا، تغيب المرئيات، لا تستوقفني، ولا أتذكرها، أو أستعيدها.
تبينت غياب مبرر وجودي في الشارع الضيق، المتفرع من شارع قصر رأس التين. اللافتة على جانب الجدار: شارع سيدي لالو. أين ضريح هذا الولي، أو مقامه؟
ما الذي أتى بي إلى هنا؟
الملاحقة هي ما يقلقني، وأعدت له حواسي. لا أعرف من ألجأ إليه في هروبي من المطاردة اللعينة.
حرصت على تحاشي الميادين والشوارع الرئيسة والمفارق والتقاطعات. أميل إلى الشوارع القديمة، الضيقة، المتقاطعة، المتشابكة، والحارات، والأزقة المفتوحة النهايات، الأرض الترابية، والبيوت المتساندة. أحاذي الحوائط بما يقارب الالتصاق. تقودني قدماي إلى أماكن لم أرها من قبل، تستغرقني الأفكار والمخاوف والوساوس والخيالات والذكريات، تأخذني إلى آفاق غامضة، محفوفة بما لا أتبينه.
احتمالات المطاردة أقل: اللامبالاة والإهمال وعدم التيقن والانشغال بالأشياء الصغيرة. عرفت أن لهواجسي ما يبررها: النظرات المحدقة، والمتأملة، والمتلفتة، والمتسائلة، تحاصرني بما يربك خطواتي.
ترامى صوت سيدة تطل من نافذة في شارع موطوش: هل تبحث عن أحد؟
غالبت الارتباك — لثوانٍ — ثم واصلت السير، دون أن أرنو ناحيتها. ملت ناحية مقامات الأئمة الأربعة عشر، وسط الميدان، لم أختر شبَّاكًا محددًا، قرأت الشهادتين والفاتحة لأولياء الله، مسحت وجهي براحة يدي، وواصلت السير.
التقيته في الدحديرة الصاعدة إلى الموازيني.
أعرف أنه يتشاغل — في سيره — بعدِّ الأشياء، بلاطات الأرصفة، الأشجار، أبواب البيوت، النوافذ المفتوحة، أو المغلقة، أعمدة النور.
أجفل ملتفتًا إلى يد لامست كتفه، النظرة المستغربة تحولت إلى تهليل: طاهر حسين؟
مختار رزق، القامة النحيلة، العينان الباسمتان، شعر رأسه المهوش. أجاد تشذيب لحيته القصيرة، المدببة. فك أزرار قميصه العلوية، ظهر دغل من الشعر الكث، بنطلونه الجبردين فضفاض على ساقيه، ودس قدميه في صندل متقاطع السيور.
لم أعد ألتقي من ألفتهم في حياتي، ناس بيت الصوفية دنياي الوحيدة.
جمعت الكلمات في فمي، أردت أن أوضح ما أعانيه، تكلمت عن أشياء كثيرة، الحيرة في نظراته وشت بعدم متابعته ما جرى.
السر الذي لو أني أفشيته فسأكون أول ضحاياه، تحددت مفردات حياتي في المطاردة والتهديد والابتزاز المضمر. التدبيرات تدفعني إلى مجاوزة السر إلى العلن. عرفت أنه ينبغي أن أفعل شيئًا. حيرتني الوقفة في مفترق الطرق، لا أعرف اتجاها محددًا. اليأس يلوح في الأفق، لكنني سأواصل رفض الاعتراف بما لا أعرفه.
همس: أهلًا يا طاهر.
افترَّت شفتاه عن بسمة مشفقة، كأنه التقط ارتباكي: يبدو أنك تلزم السير جنب الحائط.
لمح التأمل في إطراقي الصامت، قال: ماذا فعلت؟
حدجته بنظرة متسائلة: هل صدقت اتهاماتهم؟
أطل من عينيه سؤال يطلب معنى ما حدث: أسألك عن غيابك.
تحسست الكلمات: لو أني بحت لهم بما أعرفه فالموت ينتظرني.
– لماذا لم تتصل بالواتس؟ الإنترنت صديقنا المشترك.
هززت ذراعي في نفاد حيلة: أنا لا أعرف شيئًا.
تنبه إلى التفات الواقفين أمام المكتبات المتلاصقة. أدرك أن صوتي بلغ آذانهم. تحركت شفتاه كأنه يريد أن يقول شيئًا، ثم بقي صامتًا.
دس في يدي المصافحة مفتاحًا: إن زادت المطاردة تعال!