شمس لي
شعرت باليد الثقيلة، وأنا أميل من شارع شريف إلى شارع عبد المنعم.
رسم الرجل على ملامحه ابتسامة معتذرة. رأيته أمام الكنيسة الإنجيلية، على رصيف سراي الحقانية، أسفل تمثال محمد علي وهو يمتطي جواده. أعرف أن الجريدة المطوية في يده إشارة إلى آخر، فيتبعني، يسلمني السائر خلفي إلى من يلحق بي حين أميل إلى شارع جانبي. بدا العالم ضيقًا، لا يتسع لي، يحاصرني.
وهو يقلب في الأوراق أمامه: طاهر حسين فتح الله.
تجمعت في حلقي مئات الكلمات التي أريد نطقها.
رمق صمتي المتحير: أنت؟
نظرت إليه بعين الارتياب.
– أين عامر المحمدي؟
ياه! لم أره من زمن.
آخر لقاءاتنا منذ أشهر بعيدة في شارع الميدان. لمحته وهو يميل إلى شارع وكالة الليمون، رددت بهزة مماثلة لهزة رأسه، وواصلت السير.
– لا أعرف.
– أليس صاحبك؟
– افترقنا في القهوة.
– ألا تعرف أين هو؟
– اسألوه.
– تهذر؟!
حاولت أن أتكلم، لكن الكلمات اختنقت في حلقي.
– لماذا تتصور أننا نحرص على تدميرك؟
واصطنع ملامح مترفقة.
– صدقني … أحاول أن أساعدك في تبرئة ساحتك.
تشككت في أنه يكتفي بالنظر ناحيتي، دون أن يبين ما يشي بالإنصات. جعل ملامحه الساكنة واجهة يصعب النفاذ إلى ما وراءها.
إذا شككت فيمن يخفي الحقيقة، فانظر إلى عينيه. أكلم شخصًا قد يضمر مشاعره، أركز على نظرة عينيه أكثر من الكلمات التي ينطقها.
العين لا تخفي!
أدركت أنه يضمر ما تخفيه كلماته، لا يستطيع خداعي بالتلطف والمصانعة.
وهو يتخلل شعره بأصابع مرتجفة: لماذا لا تسهل الأمر علينا؟
الفرار هو الخاطر الوحيد الذي تملَّكني، سيطر على تفكيري ومشاعري. تربكني نظرات الشك والإدانة، لا أدري إن فعلت ما يستحق تلك النظرات؟
باب البيت يفضي إلى طرقة طويلة، تنتهي في شارع توفيق. على جانبيها — في الطابق الأرضي — شقتان متقابلتان، والمصعد إلى الطوابق العليا. في نهاية الطرقة باب ترددت في مجاوزته، فلا أفاجأ بما قد يغيب عن تصوري، وأعجز عن مغالبته، لكن الهدوء السادر إلا من ترامي نداء بائع خضار أغراني بالخروج. اندفعت إلى اليسار. أخذتني الشوارع الضيقة، الملتوية، إلى تقاطع شارع السبع بنات مع سوق راتب، ومنه إلى شارع الميدان.
ظللت في الخوف حتى وجدتني في شقة مختار رزق المطلة على حارة صغيرة متفرعة من شارع سوق السمك القديم، أتأمل من خصاصها إن كانت عين راصدة تتبعني. في الزاوية المطلة على نهاية الشارع. تتراءى مفارق شارعَي فرنسا ومحمد كريم، وتقاطعاتهما، البحر — آخر النظر — بامتداد زرقة أمواجه.
البحر يهبني رحابة الأفق.
يشغي شارع الميدان — من الناحية المقابلة — بالمارة والعربات، ودكاكين البقالة والبسطرمة وعصير القصب والحلوى الطحينية والأرز باللبن، وعربات الكشري والترمس والحلبة والحمص، وروائح السمك والبخور والعنبر والنشوق وأنواع العطارة، وصليل صاجات الخروب والعرقسوس، والأجولة والأقفاص والجرار والأوعية، ودقات الهاون داخل الأجران، وضربات النرد والدومينو والنداءات والصيحات في القهاوي المتناثرة، وروائح الدخان المحترق، وشواء اللحم، وجلبة الأصوات.
البيت – بطابقيه — قزم في صف البنايات العالية.
مدخل البيت مضاء، لغياب الضوء عنه من الحارة الضيقة. تكومت وراء ضلفة الباب المغلقة إطارات مستعملة، وغزل صيد متآكل، وقفف، وقطع فلين، وإسفنج. المدخل يفضي إلى السلالم، أقل من المتر هي المسافة التي تفصل بينهما.
جاست يدي في الظلمة، تبحث عن مزلاج الباب. تلمست الحائط، حتى عثرت على زر النور، ضغطت عليه، توضحت الشقة، صالة، وغرفة واحدة، ملحق بها مطبخ ودورة مياه. يشغلها سرير سفري، ومكتب صغير، ومقعد خيزران، ودولاب قديم له مرآة مكسورة من أسفل، وإن علَّق ملابسه في مسمار داخل الحائط. وثمة جدار مغطًّى بالكتب من الأرض إلى السقف. فرشت على الأرضية سجادة من بقايا الأقمشة، وتناثر فوقها، وعلى المقاعد والطاولة كتب وصحف ممزقة ومطوية، وجورب وفانلة داخلية وفردة حذاء وصندل ممزق السيور، ومنفضة مليئة بأعقاب السجاير.
لصق حائط الصالة كنبة استامبولي، تشكل مع الكرسيين المتقابلين أمامها مكانًا للجلوس، حدست أنها تتحول — في الليل — إلى سرير ينام عليه. في الزاوية كرسي أمام طاولة، فوقها جهاز كمبيوتر. أعلى الحائط المقابل جهاز تليفزيون، في المنتصف طاولة خشبية، سطحها من الفورمايكا، وفوقها طفاية سجاير، وفازة خزفية في عنقها وردة حمراء بلاستيكية، وكتاب مقلوب — حدست أنه لم ينهِ قراءاته — عنوان غلافه «هؤلاء علموني». تكومت في الطرقة الضيقة بين الحجرة وبين المطبخ والحمام، كومات كتب ورصات صحف قديمة وصناديق وعلب كرتون وزجاجات فارغة ودلو يخلو من الماء.
زاوية النافذة المطلة على مدخل البيت تتيح رؤية مساحة صغيرة من السماء، بينما تعلو خطبة الجمعة، من موضع قريب، يتحدث فيها الخطيب عن فضائل شهر رمضان.
تذكرت أني لم أدعُه من قبل إلى البيت، ولا دعاني هو إلى بيته. لولا البطاقة الصغيرة بالعنوان، ما اتجهت ناحية شارع الميدان. ربما يعد — في الصالة — طعامه، يأكل، ينام، يقرأ، يكتب على الكمبيوتر، يشاهد التليفزيون، يلتقي الأصدقاء. هو — منذ قدومه من كفر الدوار إلى الإسكندرية — يرتب أموره بنفسه.