الإبحار في المستحيل
توقفت أنفاسي على صوت مفتاح يدور في مزلاج الباب.
– مختار؟
يرتدي ما يشبه الصديرية، زرقاء، حواشيها مطرزة بنقوش ذهبية، تعلو بنطلون جينز، وصندلًا متقاطع السيور.
ملامحه كما أذكرها: هو أقرب إلى الطيبة، تشيع البسمة الهادئة في وجهه المستدير، الأبيض، المشرب بالحمرة، والعينين اللوزيتين الواسعتين، تظللهما حواجب كثيفة. إن ابتسم، انفرجت شفتاه عن أسنان ملتمعة.
رنوت إليه بنظرة متسائلة: متى كان آخر لقاءاتنا؟
– أمس.
– والأشهر الفائتة؟
– لا أذكرها.
اعتدنا الكلام — حين نلتقي — فيما تستدعيه خواطرنا، كأنه لم يمضِ وقت على آخر لقاءاتنا.
أطلق ضحكة قصيرة: صدقني … تتباعد لقاءاتنا فأشعر — في كل لقاء — أننا لم نفترق! وهو يشير إلى لوحة على الجدار لقارب صغير وسط تكوينات لونية: بريشتي.
وبلهجة معتذرة: بدلًا من اللوحات المقلدة الرديئة.
وأشار بإصبعه إلى صدره، في هيئة من يقول اعترافًا: جئت إلى الإسكندرية لدخول كلية الفنون الجميلة. اشتغلت عند الأوسطى سباتة، لم أستكمل دراستي، وبقيت عند سباتة! اتجه بنظرته إلى ما تناثر في الأرضية، وعلى المقاعد والطاولة والسرير، من كتب وصحف ممزقة ومطوية، وأشرطة تسجيل بلا أغلفة، ومنافض مليئة بأعقاب السجاير.
واجهني بملامح مشفقة.
– أكلت؟
شعرت أني غير قادر على إيجاد الكلمات المناسبة.
– عندك الثلاجة، فيها ما يليق بأعزب.
واتسعت — على شفتيه — ابتسامة ود: إذا لم يعجبك أكل الثلاجة، فعندك المطبخ.
التفت بتلقائية، تأملت أشعة الشمس المترامية على الباب.
– لا أعرف إلا سلق الأرز.
وفي لهجة معتذرة: ربما أعددت طبق سلاطة هدية لفمك.
كأنما كانت أمي تعدني للوحدة: دعتني للوقوف بجانبها في المطبخ، ساعدتها في تنقية الأرز، وتقطيع شرائح البطاطس والطماطم. علت وجهها تكشيرة لما أعدت رأس البصلة معتذرًا بالرائحة التي تدمع العين. علمتني طهو الأرز المحمر بالفلفل الأسود، قلي السمك، وشيَّه، وإعداد الصيادية، سلق اللحم، شرائح البطاطس بالصلصة الحمراء، قلي البيض، المكرونة بالشكشوكة، ذبح الطير، وسلخه، وتقطيعه، وتنظيفه من الأمعاء، وحشوه بالبهارات.
نسيت ما تعلمته، باعتياد السندوتشات، أو الطعام الساخن في مطعم الطنطاوي بشارع محمد كريم.
مرة وحيدة نزلت السوق لشراء طلباتها. يضايقني الفصال والمساومات. اقتصر سيري على انحناءة شارع رأس التين إلى أول شارع الميدان، الدكاكين متلاصقة، وما فيها يتكرر بامتداد السوق إلى جامع الشيخ.
سألتني: فاصلت؟
– ما طلبه البائع دفعته.
تنهدت: دع لي أمر السوق.
وشت شفتا مختار بابتسامة مشفقة: عليك بالأرز، واترك لي الباقي.
ثم وهو يداعب أصابع قدمه: أنا مقطوع؛ لا زوجة، ولا أبناء، وأهلي في كفر الدوار.
– لماذا لا تتزوج؟
لم يكن المعنى قد خطر — حتى تلك اللحظة — على بالي. نسيت أننا في سن متقاربة، وأني لم أتزوج. يخطو كل منا إلى الثالثة والعشرين.
في لهجة تأسف: أعيش رزق يوم بيوم. ما أحصل عليه مبالغ طياري لا تتيح لي الزواج.
مد يده في فتحة القميص، داعبت غابة الشعر في صدره: لم يكن عندي للقراءة إلا ما أختطفه من أوقات الإجازة. الآن وقتي كله للإجازة!
لا أذكر مناسبة روايتي لقضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بين المرأتين المتنازعتين على أمومة طفل، بما يعيد قضاء النبي سليمان في زمن قديم.
قاطعني الشيخ صالح جاد الرب: يبدو أن ذلك الكتاب سرق مخك.
قلت: أي كتاب؟
– كتاب الشيعة.
انتبهت إلى تذكري وقائع من كتاب «قضاء أمير المؤمنين»، استشهادي بأحكامه وأقواله. كأني نسخت الكتاب في ذهني بأكمله. أستعيد فقرات في عظات شيخ الطريقة، كلمات الشيخ صالح جاد الرب، قراءة في كتاب، رأي مريدي صخب الآراء، بعد انفضاض الحضرة، عبارة ترامت في الطريق.
أخليت ملامحي للدهشة: الكتاب عن الخليفة علي بن أبي طالب.
في لهجة حاسمة: اقصر قراءاتك على كتب الصوفية.
زايلني الشعور بالوحدة، غيبه ما ثبت في ذاكرتي: أحاديث مختار رزق عن محمود درويش وطه حسين ونجيب محفوظ وجارثيا ماركيث وكونديرا وبيكاسو وإيزابيل الليندي وموزار وتشايكوفسكي وباخ وفيفالدي وفاجنر وبيتهوفن وعمر خيرت، تنقلنا بين باعة الكتب القديمة في دكاكين العطارين وأرصفة النبي دانيال. ترددنا — في أوقات متباعدة — على سينما «أمير»، أدعوه إلى الفيلم العربي، يدعوني إلى الفيلم الأمريكي، عصر كل أحد — مباريات كرة القدم في الساحة، مشاهدتنا المجاورة لقصر الثقافة، صلاة الجمعة في أبو العباس، اندساسنا في الجلوات المتجهة من أول شارع الأباصيري إلى نهاية شارع الميدان. يمتد سيرنا في شارع فرنسا والأسواق الجانبية: الخيط، المغاربة، العقادين، زنقة الستات، لا ننتبه إلى مرور الوقت، جلساتنا على الكورنيش الحجري، قبالة ضريح الجندي المجهول، نرقب الحركة في المينا الشرقية، صيادي الجرافة والطراحة والسنارة، اللنشات المنطلقة ما بين السلسلة وجامع نور الإسلام، البلانسات في انطلاقها ناحية البوغاز، وعودتها.
أظهر اهتمامي بما يرويه عن مشاهداته: المعارض الفنية، والمتاحف، والحفلات الموسيقية، وإن لم أرافقه في تردده عليها. نتمشى على الشاطئ، يرافقنا إيقاع اصطدام أحذيتنا بما على الرمال من الكرات البلاستيكية ولعب الأطفال ومزق الأوراق وبقايا الطعام والزجاجات الفارغة ومعلبات الصفيح والكرتون. يشرح لي تعبيرات، أو كلمات، تنطقها بيئة القرية بما قد لا يفهمه أبناء البيئة الساحلية، يلتقط الحيرة في نظراتي، وهو يتكلم عن داير الناحية ووابور الطحين والشجرة أم الشعور وسكة الزراعية والمصطبة. يعيدها بكلمات تشرح المعنى، أو تقربه. يتحدث عن قعوده مع شبان تحت ظل شجرة التين، صعوده — في غفلة — إلى مئذنة الجامع القصيرة ورفعه الأذان بلا وقت صلاة، التسكع — بلا هدف — في سوق القرية، استمنائه وهو ينظر إلى صورته في مياه الترعة: هل ظننت نفسي نرسيس؟!
ربما سبحنا في مياه الأنفوشي، نتبارى أينا يظل تحت الماء مدة أطول من الآخر، نواصل العوم إلى صخرة الأنفوشي، من يسبق إلى لمس صخورها فهو الأسبق، ونعود، نتأمل ما تشغي به حلقة السمك من الأحواض والطسوت والطبالي والفريشة والسواطير ورائحة الزفارة وبقايا التنظيف والعطن. يطول انتظارنا لصيد الشباك، نضعها في الخلاء المطل على بحر الأنفوشي. أسراب الطير القادمة من الشمال: السمان والشرشير والبلبول، تصطدم — في لحظة ما — بالشباك المنصوبة. نترك المكان وفي بال كلٍّ منا أكلة معتبرة. ربما ارتوينا بكوبَي عصير قصب من الرشيدي، قبالة جامع عبد الرحمن بن هرمز، في شارع رأس التين. يأخذنا التمشي دون أن نتبادل الكلام، لا يجد أحدنا ما يقوله للآخر، فيصمت، وإن اطمأن إلى الشعور بأن صديقه الذي يحبه هو السائر إلى جانبه. يراودنا — عند النظر إلى الأشياء — خاطر واحد، تعلو ضحكاتنا، أو نبتسم، أو يأخذنا الحزن، أحيانًا، نستبدل بالكلمات إشارة، إيماءة، ابتسامة ذات معنى. لا أسرار يخفيها أحدنا عن صاحبه، يبوح له بما يعانيه، وما يأمله. كل منا مرآة للآخر، يرى فيها نفسه، بلا مداراة ولا تكلف. إن اتفقنا في الرأي، التقى كفَّانا في مصافحة لها صوت.
في اقترابنا من اللمة على الشاطئ، بدا مختار شخصًا آخر غير الذي أعرفه. الجثة المتورمة التي جرفتها الأمواج، البشرة المصطبغة بالسواد، البطن المنتفخ، العينان المبحلقتان، الساكنتان، الفم المفتوح عن آخره. ما كدنا نبتعد خطوات، حتى مال على نفسه، وتقيأ.
أخذتني الدهشة من ارتقائه قاعدة تمثال سعد زغلول. هتف وهو ينقر على التمثال بأصابعه: أنت تنظر إلى البحر كي لا ترى مصائب الداخل!
نفترق — دون موعد — في تقاطع الطريق إلى الأنفوشي والمينا الشرقية. أخترق شوارع السيالة في اتجاه البيت، ويمضي إلى محطة الترام.
أومأ بابتسامة لأواصل الكلام.
حفزني إصغاؤه على الاسترسال في الكلام، أتكلم، وأتكلم. رويت ما جرى بالتفصيل، لا مبالغة، لا تهوين، لا زيادة، لا إضمار، هذا هو ما حدث تمامًا.
اكتفى بالإنصات، دون أن يوجه أسئلة، أو يناقش، أو يبدي رأيًا. طبيعته أميل إلى الاستغراق في التفكير، لا يبوح بما يشغله.
بُحت بكل ما في نفسي، حتى الأسرار التي يجب كتمها. ما حذرني الشيخ صالح جاد الرب من حكايته، ظل مثل الغرفة الواحدة والأربعين المغلقة.
قال مختار: ياه! … أخفيت عني ذلك كله؟
لم أتذكره، حتى في أوقات حاجتي إلى من أفضفض له بما أعانيه. يمتلك قدرة طيبة على الملاحظة. أسأله بتوقع أن تفتح لي ردوده آفاقًا غمضت عن معرفتي.
قلت: لم أخْفه، لكن الدوامة أخذتني.
استحثني بإيماءة على مواصلة الحكي.
خذلتني الكلمات، بدت عاجزة عن فض ما بنفسي. أخفقت في أن أقول شيئًا، أو أنه لم تكن عندي رغبة في الكلام. لم أعد أعرف ما أقول، وإن شجعتني نظرته الصامتة، على معاودة ما كنت أرويه.
قاطع تهيُّئي لمواصلة الكلام، بإشارة من يده. أصاخ سمعه لتناهي صوت من المنور. قال — بلهجة معتذرة — إن الصوت — تحت نافذة المنور — ليمامة بنت عشها: لا أنظر من الشباك حتى لا أخيفها!
حدقت — على رمال الأنفوشي — في الجسم الصغير، الغريب، أتثبت من نوعه. لم يكن من أنواع السمك التي أعرفها، يختلف حتى عن الأسماك المتسللة من البحر الأحمر، أو البحار والمحيطات التي تصيد فيها البلانسات.
– هذه أول مرة أشاهد هذه السمكة …
وأعدت تأملها: هل هي سمكة؟
– ما دمنا لا نعرفها … أعدها إلى البحر.
وأومأ برأسه ناحية البحر: إذا كانت حياة الإنسان في البر، فإن حياة مخلوقات البحر في المياه.
ظللت صامتًا.
وشى صوت مختار بالضيق: لن نأكلها، لماذا لا تعيدها بدلًا من أن تموت؟
وطوَّح بالمخلوق — بآخر عزمه — ناحية الموج.
لم أقل ما اعتزمت أن أقوله. تلاشت رغبتي في البوح.
حدجني بنظرة متسائلة: قلت كل ما لديك؟
حاولت مداراة ارتباكي برشف الشاي: ما أذكره.
وهو يرقب الدخان المتصاعد من سيجارته، يتشكل في تكوينات متلاشية: كما أرى فإنهم يعرفون عنك ما لا تعرفه أنت.
أطفأ السيجارة — منفعلًا — في الطبق الصغير، وسحب من العلبة سيجارة أخرى، أشعلها، وواصل الكلام: أخشى أن ما جرى لك قدر لا تملك دفعه، ولا الفرار منه.
ولانت لهجته: أشفق عليك من الإبحار في المستحيل.
هل يعرف أسباب ما يحدث، ويتظاهر بالعكس؟
آخر مناقشاتنا عن عملي في بيت الصوفية، قوله لنظرتي المستغربة حين أحاط رجل بعلم الطريقة حول خصره، ورقص: لو أن الطرق الصوفية زالت، فلن يبقى إلا الدين الخالص!
كنا نتحدث عن الحياة في البيت، لا نتطرق إلى الطريقة، ولا إلى الصوفية. أدركت أن نظرته إلى عملي في البيت مماثلة لنظرتي إلى عمله مع الترزي سباتة.
عند التهيؤ للنوم، التقط ارتباكي وأنا أمسح الشقة ذات الصالة والنافذة الواحدة. السرير صغير، يسع شخصًا واحدًا: لماذا لا نتمدد على الأرض؟
في نفاد حيلة: المهم أن ننام!
انتفض كالمنتبه: ما لم تقله: هل تحتفظ بالسر لنفسك؟ ألم تخبر أحدًا بالفعل؟
– أنا لا أعرف ما يبحثون عنه!
شفَّت نبرته عن تأثر.
– ما تواجهه قد يدفعك إلى الاعتراف بارتكاب جريمة ملفقة.
أدركت أنه يحاول حثِّي على الكلام. ظللت صامتًا، خشيت — إذا تكلمت — أن تبين مشاعري.
– إذا لم تكن تعرف فاصمت. لا تحاول ادعاء المعرفة.
وشرد بالنظر إلى نقطة بعيدة، تخترق النافذة المغلقة: معاناة البشر واحدة وإن اختلفت صورها.
وفي نبرة تفضح حزنه: أنت تعاني مطاردة سخيفة، وأنا أعاني لقمة عيش مرة.
وعلا صوته: يكتفي الزبائن الآن بقلب البدل المستعملة بدلًا من شراء الجديدة.
وفي لهجة معتذرة: ليس من حقي أن أسقط مشاعري الخاصة عليك. أنت تعاني من الهموم ما يجعلك في غير حاجة إلى أحزان.
وقذف بالسيجارة قبل أن ينتهي من تدخينها: انسَ هذا الأمر.