إسْلامُه
قيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان أول من أسلم، واتفقت الأقوال على أنه كان أول من أسلم من الرجال، وأن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت أول من أسلم من النساء، وكان علي رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان، وكان زيد بن حارثة أول المسلمين من الموالي، وهو الذي تبناه النبي عليه السلام.
وقال النبي عليه السلام: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر، ما عكم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه»، فِلَم سهل إسلام الصدِّيق هذه السهولة التي لم تُؤثر عن أحد غيره كما جاء في ذلك الحديث الشريف؟
لعلنا نختصر الطريق على جواب هذا السؤال إذا نحن سألنا عن الموانع دون الإسلام، قبل أن نسأل عن الموجبات …
لأننا إذا بحثنا عن العقبات فلم نجدها، أو بحثنا عنها فوجدناها قليلة العدد هينة التذليل، بدت لنا سهولة الطريق من غير جهد كبير في البحث عن الموجبات، وعرفنا أنه «لا مانع» فعرفنا أنه لا صعوبة ولا محل للتردد والمقاومة فما الذي كان يمنع أبا بكر أن يجيب دعوة الإسلام؟
بل ما الذي يمنع إنسانًا من الناس — كائنًا من كان — أن يجيب الدعوة إلى عقيدة جديدة؟
موانع شتى
ومن الحقائق الملحوظة أن هذه الموانع كانت أقل ما تكون في أبي بكر الصديق، فلا نعرف أحدًا في عصر النبي كانت موانعه دون إجابة الدعوة الجديدة أقل من موانع هذا الرجل الصادق المصدق، المستعد لإجابة النبي إلى هدايته كأنما كان معه على ميعاد.
يمنع الإنسان أن يصغي إلى دعوة العقائد الجديدة موانع شتى من آفات العقل والخلق والبيئة، تجتمع وتتفرق، ويُبتلى الرجل الواحد بها جميعًا، وقد يبتلى بمانع واحد منها فيحول بينه وبين الإصغاء والإجابة.
يمنعه أن يجيب الدعوة إلى المصلحين غطرسة، أو سيادة مهددة، أو مصلحة في بقاء القديم ومحاربة الجديد، أو ذهن مغلق لا يتفتح للفهم والتفكير، أو مغامسة للشهوات تحبب إليه أن يستنيم إلى العرف الذي يبيحها ويعزف عن الهداية التي تحظُرها وتقف في سبيلها، أو تعصب غضوب للعقيدة التي درج عليها، أو شعور بقوة سلطان تلك العقيدة في أبناء قومه، سواء منهم المتعصبون لها والقابلون لها على المجاراة والمداراة، أو جبن ينهاه أن يخرج على المألوف ويتصدى لسخط الساخطين وإن تبين طريق الاستقامة والسداد، أو إيغال في الشيخوخة يصد الإنسان عن كل تغيير ويميل به إلى كل تواكل ومتابعة وتقليد، أو حداثة سن تجعله تابعًا لغيره في الرأي والخليقة وتجعل له شرة تحجبه عن التروية والمراجعة، أو ذلة مطبوعة تلحقه بمن أذله وبسط سلطانه عليه.
فالغطرسة خلة تأبى على صاحبها أن يستمع إلى قول أو يصيخ إلى دعوة، أو يتنزل إلى متابعة إنسان، ترفعًا عن الإصغاء قبل أن يهديه الإصغاء إلى موافقة أو إنكار.
والسيادة المهددة توحي إلى صاحبها كراهة التجديد؛ لأنه يحس بالبداهة أن صاحب الجديد أولى منه بالسيادة إن شاع ما جدده بين الناس، فتبطل سيادته ببطلان القديم الذي قامت عليه، وقيام الجديد الذي نسخه وعفاه.
والمصلحة في حالة من الحالات المستقرة تجعل الرجل محبًّا لتلك الحالة حبه للمنفعة، كارهًا لتبديلها كراهته للخسارة، ميالًا إلى محاربة الدعوة الجديدة قبل أن يبحث فيها ويتعرف وجوه الخير الذي قد يصيبه منها.
والذهن المغلق يجهل ما يقال، ويعادي ما يجهل، وينفر من كل ما يشق عليه، وأول ما يشق عليه أن يفهم شيئًا على وجهه السوي، أو يتهيأ للفهم بأية حال. ومغامسة الشهوات تُبَغِّض إلى المرء سلوانها والإقلاع عنها، وتقرن عنده دعوات الإصلاح والاستقامة بشؤم التنغيص والتكدير، فيتبرَّم بها وينزعج لها، كما ينزعج النائم المستغرق أيقظته من نومة لذيذة قد استراح إليها.
والتعصب الغضوب لما اعتقده المرء يثيره أن تمس عقيدته كما يثور لحماية الحوزة أو الذود عن الآباء والأجداد؛ لأنه يحسب عقيدته ملكًا له ولآبائه يرد عنها من يهجم عليها، كما يرد صاحب البيت من يهجم عليه.
والعقيدة إذا كانت قوية السلطان غلبت عزتها على عزة العقل والفؤاد، فأصر عليها من كان خليقًا أن يعافها ويعرف عيبها لو دعي إلى تركها وهي تتداعى وتتزعزع وتؤذن بالزوال.
والجبن يخيف صاحبه أن يجهر بالحق ويبتعد به عن طريق المخافة، فلا يدنو إلى الصوت الذي عسى أن يقوده إلى الإصغاء فالإيمان فالجهر بما يضير.
والشيخوخة عدو لكل طارق، والحداثة بين طيش يدعو إلى التمرد وطاعة تدعو إلى متابعة الأولياء، والذلة حجاب بين الذليل ونفسه يحجبه وراء مَن أذلَّه، فلا تصل إليه الدعوة إلا من تلك الطريق.
هذه موانع الإصغاء إلى كل دعاء جديد.
أو هذه أعم الموانع التي تحول بين معظم الأسماع والإصغاء إلى ذلك الدعاء.
ومن الحقائق الملحوظة — كما أسلفنا — أن أبا بكر كان براء منها جميعًا، أو كان كأبرأ الناس منها في عهد الدعوة المحمدية.
فلم يكن متغطرسًا، بل كان مشهورًا بالدعة والتواضع، مُؤلفًا لقومه كما قال واصفوه «محبًّا سهلًا …» وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته.
ولم يكن مهددًا في سيادة مضروبة على أعناق الناس، فكان من ذوي الشرف في قريش، ولكنه لم يكن من قبائلها الساطية التي تستطيل بالبغي والطغيان، كان من «تيم» وهي بيت قرشي معدود، ولكنه لم يمنع أبا سفيان أن يقول كما قال لعلي بن أبي طالب يستثيره حين بويع أبو بكر بالخلافة: «ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟» ولم تكن «تيم» أذل قبيلة في قريش كما قال أبو سفيان، ولكنها على أية حال لم تكن بمقام السطوة والسيادة التي تطمس الضمائر والألباب.
ولم تكن لأبي بكر مصلحة في دوام الجاهلية؛ لأن عمله فيها كان ضمان المغارم والديات، وربما كان هذا العمل أدنى إلى الخسارة منه إلى المنفعة والغنيمة، فلا راحة ولا أسف عليه. أما التجارة فلا خوف عليها من الدعوة الجديدة، وصاحبها الداعي إليها تاجر يبيحها ويزاولها ويحض عليها.
ولم يكن مغلق الذهن ولا وصفه أحد بهذه الصفة من محبيه أو شانئيه، بل كان معروف الذكاء يلمح اللحن البعيد فيدركه ويسبق الحاضرين إلى فهمه والفطنة لموضع الإشارة فيه، كما حدث غير مرة والنبي عليه السلام يتحدث أو يعظ الناس.
ولم يكن مغامسًا للشهوات، بل كان يكره ما شاع منها بين الجاهلين من ذوي الأقدار والأخطار، فلم يشرب الخمر ولم يركب الدنس ولم يشتهر قط بوصمة يعيبه بها من أسرعوا إلى معَاتبته يوم هجر عقيدة الجاهلية وجنح إلى عقيدة الإسلام.
ولم تكن عبادة الأوثان عقيدة مكينة السلطان في عهد الدعوة المحمدية، بل كان أناس يهملونها وأناس يبحثون عن غيرها، وأناس يؤثرون عليها المسيحية واليهودية، فلا يصابون بمكروه في أكثر ما سمعنا من أخبار أولئك المتمسحين أو المتهودين.
وعلى هذا لم يكن أبو بكر متعصبًا للجاهلية وعباداتها، بل لعله كان مزدريًا لها مستخفًّا بالأصنام وبأحلام عابديها، وإذا صح ما جاء في «أنباء نجباء الأبناء» فهو لم يسجد لصنم قط: وقال: «لما ناهزت الحُلُم أخذ أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني! فلم يجبني. فقلت: إني عار فاكسني! فلم يجبني. فألقيت عليه صخرًا فخر لوجهه.»
ولم يكن الصديق بالجبان، ولا بالشجاع الذي نصيبه من الشجاعة قليل، بل كانت شجاعته تفوق شجاعة الأبطال المعدودين في الجاهلية والإسلام. فثبت مع النبي في كل وقعة حين وَلَّى من وَلَّى وأبطأ من أبطأ، وغامر بحياته في حروب الردة وله مندوحة عن خوضها، ولم يُذكر في أخباره قط خبر نُكول أو خوف على حياة ومال.
ولم يكن شيخًا فانيًا متابعًا لكل قديم، ولا حدثًا صغيرًا تطيش به شرَّة الشباب حين دعاه محمد إلى دينه وهداه، بل كان رجلًا ناضجًا في بسطة الرجولة، يفقه الأمور ويعتدل بين الصبا الباكر والكهولة المولية، ويزن القول بفهم نافذ وحكم صادق، وعقل راجح يعرف الترجيح.
•••
تلك جملة الموانع التي تحول بين الإنسان وقبول الدعوات الجديدة إلى الإصلاح، وكلها هنا غائبة على الأقل إن لم نقل: عن جانب الدواعي في مكانها أوضح من جانب الموانع، ومعنى ذلك أن الصدِّيق لم تكن بينه وبين الإسلام عقبات تصده عن وروده، وأن طريقه إليه كانت ممهدة مفتوحة يخطو فيها خطوته الأولى فلا يلبث أن يتبعها بخطوات.
على أن الأمر لم يقتصر على قلة الموانع في طريق الصديق إلى الإسلام. فقد كانت هناك الدواعي التي أشرنا إليها في مكان تلك الموانع، وكانت للصديق خلائق عاملة تقربه من العقائد القويمة، وتجعله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا حاجة به إلى أكثر من ذلك ليفرق بين سنن الجاهلية وسنن الإسلام، ويميز بين ما هو حقيق بالترك والإعراض، وما هو حقيق بالحرص عليه والإيفاض إليه.
كان الرجل صادق الطبع مستقيم الضمير، لا يلتوي به عما يعلم أنه الحق عوج ولا سوء دِخْلة، وعُرف باسم الصديق إذ عرف الناس فيه الصدق من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالإسلام؛ لأنه كان يضمن المغارم والديات فيصدقونه ويعتمدون على وعده ويركنون إلى وفائه، وقيل: إنه سُمي الصدِّيق لتصديقه النبي في كل ما أنبأه به من المغيبات والبشائر ولكنهم لم يختلفوا في تصديق ضمانه والاعتماد على وعده، وإن اختلفوا في سبب التسمية وفي ميقاتها من الجاهلية أو الإسلام.
ومن كان على هذا الصدق في الخليقة فلا حجاز بينه وبين دعوة إصلاح، وليس من شأنه أن يصمَّ أذنيه عن قول صادق ودعاء مستقيم، ولا أن يعادي الحق ويلجَّ في عدائه، شنشنة المكابرين المستكبرين.
وكان مطبوعًا على الحماسة لما يعتقد فيه الخير والصلاح، يطلب العقيدة ويطلب المعتقدين بها والمهتدين إليها. يبدو ذلك من إسراعه إلى التبشير بالإسلام ساعة أن اهتدى إليه، فدخل في الدين على يديه نخبة من أسبق الصحابة وأخلصهم للنبي عليه السلام وأعظمهم أثرًا بعد ذلك في قيام الدولة الإسلامية، كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد عبيد الله، وجعل لا يهدأ ولا يستريح حتى أدخل في دينه أمه وأباه وذويه.
وتبدو حماسته لاعتقاده من إلحاحه على النبي أن يظهر بالمسلمين في نواحي المسجد وهم دون الأربعين عددا، ومن قيامه بينهم خطيبًا يجهر بالدعوة إلى الله، والمشركون متربصون ثائرون، حتى أصابه من ذلك أذى شديد خيف عليه الموت منه، وتركه المشركون وهم لا يشكون في أنه مات أو أنه مائت عما قريب.
وتبدو هذه الحماسة من اتخاذه مسجدًا لصلاته وتلاوته على قارعة الطريق، يسمعه حين يقرأ كل عابر، ويتوعده المشركون فلا يفزع من وعيد. ولما جاءه الرجل الذي أجاره من المشركين على أن يكتم إسلامه فخيره بين الكتمان أو رجع الذمة إليه، لم يتردد في رد ذمته وقال له: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
ورجل مطبوع على سماع الحق وتصديقه والدعوة إليه والحماسة له غير عجيب أن يسرع إلى العقيدة الجديدة هذا الإسراع.
وإلى هذا كان قريبًا من السليقة الدينية التي تتراءى في مكاشفة الغيب واستطلاع الرُّؤى والهواتف وانفتاح النفس لإشارات الإيحاء والاستيحاء، ويُروى عنه أنه رأى قبل البعثة وهو بالشام رؤيا تُنبئ بقرب ظهور النبوة في البلاد العربية، ويُعرف عنه على التحقيق أنه كان يعبر الرؤيا بين يدي النبي عليه السلام ويستأذنه في تفسيرها ويحتفل هو بما يراه في منامه.
وإلى هذه القربى من الإيمان بالغيب كان لطيف الحس خاشع النفس عظيم الرفق والمودة، لا ترين على قلبه تلك الغلظة التي تغلق أبواب القلوب وإن تفتحت الأذهان، فكان خشوعه يبكيه وفرحه يبكيه، وسليقته الدينية كاملة لا يعوزها إلا القبس الذي يلمسها، فتضيء ثم لا ينطفئ لها ضياء.
وكان مع الصدق وحماسة العقيدة ومقاربة الغيب وموحياته ونجاواه بليغًا متذوقًا للبلاغة، كثير الرواية للشعر والاسترواح للكلام الحسن الفصيح، فكان في ازدرائه لكلام المتنبئين غضب تلمح فيه عيفان الذوق البليغ كما تلمح فيه عيفان المؤمن الناقم على الضلال، سمع فقرات من قرآن مسيلمة الكذاب فما عتم أن ابتدر قارئيه مشمئزًا من سخفه وإسفافه: «ويحكم، إن هذا لم يخرج من إلٍّ ولا بر!»
ولا جرم يكون هذا الذوق المستقيم سببًا قريبًا بين صاحبه وبلاغة القرآن وبلاغة النبي عليه السلام.
إلا أن سبب الأسباب جميعًا في التقريب بين الصديق وبين الدعوة المحمدية هو ذلك السبب الغالب على كل ما ذكرناه؛ لأنه يمتزج بأطواء نفسه ويصبغها بصبغته وينحو بها أبدًا في منحاه، ونعني به الإعجاب بالبطولة، ذلك الإعجاب الذي نحسبه مِلاكًا لأخلاقه ومفتاحًا لشخصيته كما فصلناه في غير هذا الباب.
فالرجل المعجب بالبطولة يعرف بطله، ثم يثق به، ثم يرتقي بالثقة إلى ما فوقها وما هو أمكن منها؛ لأن الثقة استناد إلى وثيقة تدعو إليها على حسب ما فيها من بيناتها وبراهينها، أما الإعجاب فهو الرغبة في الثقة وكراهة التحول عنها، هو البحث عن الثقة والتذاذها إذا وقف الواثقون عند الانتظار أو مجرد التأمين والموافقة بعد الانتظار.
وقد تواترت أنباء مختلفة بصداقة أبي بكر للنبي عليه السلام قبل الدعوة المحمدية بسنين، وذكر المؤرخون الثقات أنه كان معه عليه السلام حين ذهب في صحبة عمه إلى الشام واجتمع بالراهب بحيرا وسمع منه ما سمع عن الدين والبشارة بالنبوة. وقد شك بعض المؤرخين من الأوروبيين في اتصال المودة بين الصفيين قبل الدعوة المحمدية بزمن طويل، إلا أن الدليل الذي يُغني عن وثائق التاريخ أن أبا بكر كان باتفاق الأقوال أول المستجيبين لدعوة محمد من غير أهله، ولن يكون ذلك بغير معرفة سابقة بين الرجلين حببت إلى النبي عليه السلام أن يبدأ به ويترقب منه الإصغاء إليه، وأيسر ما يستلزمه ذلك السبق إلى الإسلام أن يكون أبو بكر معروفًا بصفاته لمحمد وأن يكون محمد معروفًا بصفاته لأبي بكر. فلما سمع دعوته سارع إلى تصديقه وهو معجب به وباستقامة طبعه ونقاء سيرته وبلاغة حديثه، وأعانه على التفرقة بينه وبين خصومه، والتمييز بينه وبين منكريه أنه كان نسابة قريش لا يفوته مغمز من مغامزهم قديمها وحديثها في الأنساب والأخلاق، ومحمد عنده مطهر من كل ذلك براء.
•••
من جملة ما تقدم تتبين لنا سهولة اتجاه الصديق إلى الدعوة المحمدية، سواء من ضعف العقبات في طريقه أو من قوة الدواعي التي تجذبه إليه، فقد اجتمعت هذه وتلك على تفسير تلك الأعجوبة النادرة في تاريخ الدعوات الجديدة: أعجوبة رجل في سمت الرجولة يقال له: تعال إلى دين جديد غير دين آبائك وأجدادك، فلا يتوانى ولا يتردد في إجابة الدعوة، وما هو إلا أن يسمعها حتى يلبيها وينقطع لها، ويصبح من أقوى دعاتها بعد صاحبها.
ومن تمام الجلاء في تفسير تلك الأعجوبة أن نفهمها على حقيقتها في جميع أحوالها وملابساتها، وأن نفهم الفارق بينها وبين نظائرها لو جرت في عصرنا الحاضر، أو بيئة أخرى غير البيئة التي جرت فيها …
فنحن نسمع بقصة أبي بكر وتصديقه السريع للدعوة المحمدية فنُحضر في أخلادنا رجلًا من المسلمين أو المسيحيين أو الإسرائيليين في عصرنا الحاضر يقال له: تعال إلى دين غير دينك ودين آبائك وأجدادك، فيجيب الداعي لتِّوه وساعته كأنها تحية وجوابها.
وهي أعجوبة عندنا يوشك أن يأباها العقل وأن تمتنع على التصديق.
ولكن إسلام أبي بكر لم يكن من هذا القبيل، ولم يكن الدين الذي تحول عنه كالدين الذي يؤمن به المسلم في هذه الأيام.
لم يكن دين المشركين من قريش دينًا من أديان الروح وعقيدة من عقائد الضمير.
لم يكن له شأن بالحياة الصالحة ولا بالحياة الباقية ولا بالنظر إلى الكون في أسرار خلقه ولا بالجماعة الإنسانية في قوام أمرها ومناط الخير والشر فيها والصلاح والفساد بين رجالها ونسائها.
ولم يكن التابعون له ينظرون إليه هذه النظرة أو ينظرون هذه النظرة إلى دين آخر أو عقيدة أخرى.
ولكنهم كانوا ينظرون إلى عقائدهم نظرتهم إلى الموروثات المألوفة والعرف المتفق عليه، أو نظرتهم إلى العادات التي ترتبط بها مصالح العيش ومصالح السيادة والجاه، وكان يعز عليهم أن يقال لهم: إن آباءهم وأجدادهم هالكون، وإن الدين الذي نشئوا عليه وماتوا دين سخف ومهانة وضلال. فكانوا في ثورتهم على الدعوة الجديدة أشبه الناس بأبناء القرى والمدن الذين يثورون على رجل يبتدع في الولائم والأفراح والجنائز بدعة تخالف المألوف وتهدد مصالح الوجهاء أو ما يسمونه «شرف الأسرة» وسير البلدة وعادات الناس، وتهدد مع تهديدها الوجهاء مصالح العاملين في شئون الزواج وشعائر الوفاة، وما إلى ذلك من الرسوم والعادات.
وكان المشركون لا يبالون أن يخرج على دينهم من يخرج عليه ناجيًا بروحه خاليًا بنفسه بينه وبين ربه، فعاش بينهم اليهود والمسيحيون والمتهودون والمتنصرون وهم في دعة وأمان إلا من أذى الأقارب المخالفين لهم في قليل من الأحيان، وإنما كانوا يثورون على الدعوة العامة التي تبدِّل العرف كله، وتُخرج الجماعة من مألوفاتها وقواعدها التي استقرت عليها. فكان الثائرون في وجه الدعوة المحمدية من مشركي قريش بين رجل من ثلاثة لا يعدوهم إلى رابع: رجل صاحب سيادة تتصل سيادته ببقاء الأمور على ما هي عليه، ورجل من الأذناب الذين لا يعقلون ولا يحسون الظلم والفساد ولا يفعلون إلا ما يأمرهم به السادة المسيطرون، ورجل لم يصغ إلى الدعوة الجديدة حق الإصغاء، ولم يتسع له الوقت للتفرقة بينها وبين العرف القديم.
وما عدا هؤلاء جميعًا فهو قريب من الدعوة المحمدية لا يمنعه مانع أن يتجه إليها متى أصاب الوجهة التي تهديه في طريقه، وليس معنى ذلك أن التغلُّب على العرف الجاهلي كان من الهنات الهيِّنات أو كان أهون من التغلب على سائر العقائد والأديان، فليس أصعب ولا أعضل في الحقيقة من التغلب على عرف ترتبط به مصالح السيادة وغباوة الدهماء وتراث الأجداد والآباء، وإنما معناه أن الأمر لا يعم جميع المشركين ما لم يكن واحدًا من أولئك الثلاثة، وهم ألوف وألوف.
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن واحدًا من هؤلاء.
وكان مع هذا رجلًا يحس بالروح والضمير، ويحس الخواء الذي تتركه العقائد الجاهلية في حياة الروح والضمير.
وقد عافاه الله من سبب قوي من أسباب الثورة على الدعوة المحمدية بين المشركين المعتزين بالآباء والأمهات.
«أأبي على الضلال؟ أأمي مع الهالكات؟» تلك خاطرة كانت تهجس في نفس المشرك من قريش فيغضب ويثور ويحسب الدعوة الجديدة في عداد السباب الموجه إلى أقرب الناس إليه وأعزهم عليه.
أما أبو بكر فقد عافاه الله من ذلك إبَّان الدعوة المحمدية؛ لأنها ظهرت وأبوه وأمه بقيد الحياة مفتوح لهما باب النجاة، فما زال بهما حتى دخلا معه في دينه، واطمأنت نفسه على أبيه وأمه وبنيه.
وفيما عدا هذا قيل له: دع هذه البقايا الفاسدة وأقبل ومن تحب على دين جديد فيه الخير والصلاح والهداية إلى خالق الأرض والسماء.
فلم لا يترك تلك البقايا الفاسدة؟ ولم لا يقبل على الدين الجديد؟
إنه لا يحب بقايا الجاهلية، ولا يربطه بها شُحٌّ ولا كبرياء ولا ذلة ولا غباء، وإنه ليفهم ويعقل ويحب الخير والصلاح ويحس في قلبه جيشان الروح والضمير، وإن الذي يدعوه لكريم حليم صادق قويم حبيب إلى النفس مُبَرَّأٌ من العيب يحق له أن يجاب، وإنه لا يخاف لأنه شجاع، ولا يقابل الأمر بفتور المستخِف لأنه رجل حي الفؤاد مطبوع على الحماسة لما يؤمن به والإعجاب بمن يستحق عنده الإعجاب.
فالعجب أن يُدعى إلى تلك الدعوة فلا يجيبها أسرع ما يكون الجواب، وليس العجب أن يسرع إلى إجابتها كما أسرع فأجاب.
وهكذا يبين لنا في إسلام أبي بكر كما بان لنا في إسلام كل رجل ذي بال من السابقين إلى الدعوة المحمدية أنها دعتهم إليها بأسبابها المعقولة فاستجابوا إليها بأسبابهم المعقولة التي تُوائم كلًّا منهم أصدق المواءمة، ولا تحوج أحدًا من المعللين والمفسرين إلى الخوارق المكذوبة، أو إلى تفسير الأمر بالوعد والوعيد ورغبة الجنة ورهبة السيف.
إن الأقوياء لم يُسْلموا خوفًا؛ لأنهم أقوياء، وإن الضعفاء لم يُسلموا خوفًا؛ لأن الإسلام عرضهم للقتل والعذاب ولسيوف المشركين الذين لهم عليهم سيادة وطغيان، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة فيقال: إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغب بلذات الجنة وجبن عن مواجهة القوة، ولكنهم اختلفوا حيث تُطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور فمن كان أقرب إلى هذه الطلْبَة من غني أو فقير ومن سيد أو مستعبَد فقد أسلم، ومن كان به زيغ عنها فقد أبى، وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسِّم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون له هوى كهوى الكفار …
•••
كان الصديق إذن أول رجل من شرفاء العرب دان بالإسلام بعد نبيه عليه السلام. دان به سريعًا إلى دعوته لتلك الأسباب التي تليق به وتليق بالدعوة المحمدية، وكتب له في اللحظة الأولى أن يكون ثاني اثنين حين يكون النبي هو أول الاثنين. فكان ثاني اثنين في الإسلام، وثاني اثنين في غار الهجرة، وثاني اثنين في الظلة التي أوى إليها النبي يوم بدر الذي لا يوم مثله، وثاني اثنين في كل وقعة من الوقعات بين المسلمين والمشركين، وأقرب صاحب إلى النبي في شدة الإسلام ورخائه، وفي سره وجهره، وفي شئون نفسه وشئون المسلمين.
ومن اللحظة الأولى وهب للإسلام كل ما يملك إنسانٌ أن يهَب من نفسه وآله وبنيه. فأخذ أمه إلى النبي لتسلم على يديه وهي بين الحياة والموت، وجاءه بأبيه بعد فتح مكة ليسلم على يديه وقد جلَّله الشيب وابيض رأسه كأنه ثُغَامة، وحمل ماله كله وهو يهاجر في صحبة النبي يؤثر به الدين على الآل والبنين.
والروايات في توجيه الدعوة إليه مختلفات: منها ما يؤخذ منه أن النبي عليه السلام وجه الدعوة إليه خاصة فلباها، ومنها ما يؤخذ منه أنه عليه السلام قصد الناس في المسجد بالدعوة العامة فاتصل نبؤها بأبي بكر فجاءه يسأله: يا أبا القاسم! ما الذي بلغني عنك؟
فسأله النبي: وما بلغك عني يا أبا بكر؟
قال: بلغني أنك تدعو إلى توحيد الله، وزعمت أنك رسول الله.
قال: نعم يا أبا بكر. إن ربي جعلني بشيرًا ونذيرًا، وجعلني دعوة إبراهيم، وأرسلني إلى الناس جميعًا.
فما أبطأ أبو بكر أن قال: والله ما جربت عليك كذبًا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك، وحسن فعالك. مُدَّ يدك فإني مبايعك.
والصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الفعال صفات يفهمها أبو بكر؛ لأنه يحبها ويتصف بها، ويحب أهلها. فهو صادق أمين رحيم حسن الفعال، وتلك أقرب الآيات إلى لُبِّه وقلبه، وهي أولى الآيات بالتصديق عند الصادقين المصدقين، فمن الجائز أن تخدعنا الخوارق وليس من الجائز أن يخدعنا من يصدُق ويَبر ويؤدي الأمانة، ويستقيم على سواء الطريق في فعاله وخصاله.
وأصبح الإسلام منذ تلك اللحظة دينًا عند أبي بكر يقابل الدنيا بما وسعت من خيرات وطيبات. أصبح عنده غنيمة يفتديها بكل غنيمة يضن بها المرء من حياة أو آل أو ذرية ومال، ولو قاسه بمقياس دنيا. لقد كان الإسلام بليَّة عليه لا يطلبها عاقل، ولكنه قاسه بمقياس دين فعلم أنه أربح الرابحين وأرشد الراشدين.
طلبه دينًا وكفى. فصبر فيه على ما يجزع منه طالب الدنيا، ويأبى أن يستهدف له أو يشارفه من بعيد.
كان المسلمون دون الأربعين يوم أشار على النبي أن يجتمعوا في المسجد ويجهروا بالدعاء. فلما وقف بينهم في المسجد يدعو إلى الله ورسوله وثب عليهم المشركون يضربونهم ويؤذونهم ويوسعونهم إهانة مع الضرب والإيذاء، وتصدى عتبة بن أبي ربيعة لأبي بكر فجعل يضربه بنعلين مخصوفين حتى ورم وجهه، وخفي على الناظر إليه مكان أنفه. وتسامع أهله من بني تيم فأقبلوا يتعادون ويُجْلون المشركين عنه، ثم حملوه في ثوب إلى بيته وما يشكون في موته.
وصاح منهم صائحون في المسجد: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة.
ثم أحاطوا به يكلمونه حتى أفاق وأجاب، فكان أول ما فاه به وهو في تلك الحال: ما فعل رسول الله؟
فلاموه وعنفوه، وسألوا أمه أن تطعمه أو تسقيه شيئًا يرد إليه نفسه فأبى أن يأكل أو يشرب حتى يعلم ما فعل رسول الله.
قالت: والله ما أعلم بصاحبك.
قال: فاذهبي إلى بنت الخطاب فاسأليها عنه.
فلما جاءتها أنكرتها وأشفقت أن تكون عينًا من عيون المشركين عليها وعلى رسول الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله! ثم عرضت عليها أن تذهب إلى أبي بكر لتسمع منه وتطمئن إلى مقاله. فوجدته صريعًا دَنفًا قد برَّح به الألم، فغلبها الإشفاق فأعلنت بالصياح وهي تقول: إن قومًا نالوا منك لأهْل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك.
فما زاد على أن كرر سؤاله الذي لزمه مذ أفاق من غشيته: ما فعل رسول الله؟
قالت وهي لا تزال حَذِرَة من أمه: هذه أمك تسمع!
قال: لا عين عليك منها.
قالت: سالم صالح!
فلم يكفه ذلك حتى يراه بعينه، وسألها: أنّى هو؟ فأعلمته بمكانه من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأحب أن يذهب إليه، وكأنه أحس من أمه ممانعة في خروجه وهو بتلك الحال، حتى يتبلغ بشيء ويذوق شرابًا يرويه ويقويه، فأقسم لا يذوقنَّ طعامًا ولا شرابًا أو يرى رسول الله.
وأكبرت المرأتان العطوفان حبه لصديقه ونبيه، فأمهلتاه حتى هدأت الرِّجْل وسكن الناس، وخرجتا به يتكئ عليهما ولا يقدر على حمل نفسه. ثم دخلتا به على رسول الله وهو بتلك الحالة فانكب عليه يقبله، ورق الرسول لصديقه وصفيه رقة شديدة، فقال الصديق الصفي: بأبي أنت وأمي! ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها فادعها إلى الله! وادع لها عسى أن يستنقذها بك من النار.
ولبث بين المشركين يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: «ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟» فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صريع.
ولما أذن له النبي في الهجرة إلى الحبشة بعد ما ابتلي به من عنت المشركين غضب لرحلته الأكرمون من القوم ولحق به ربيعة بن فهيم المعروف بابن الدُّغُنة فقال له: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج. إنك تُكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك.
وطاف ابن الدُّغُنة عشية في أشراف قريش يبلغهم أنه أجار أبا بكر فعرفوا له جواره وقالوا له: مُرْه فليعبد ربه في داره يصلي فيها ويقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
إلا أن أبا بكر بنى بفناء الدار مسجدًا يصلي فيه ويرتل القرآن، ويستمع له النساء والأطفال فيجتمعون إليه. منهم من يسخر ومنهم من يعجب ويسأل عن الخبر. ففزع المشركون وطلبوا إلى ابن الدغنة أن ينهاه أو يسترد منه ذمته، فأبى أبو بكر أن ينتهي عن الجهر بالصلاة والقراءة، وقال لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل!
وبقى بمكة طوال مقامه بها يعمل لدينه ولنبيه ولا يعمل لنفسه إلا ما ليس عنه غنى من طلب المعاش، يدعو وجوه الناس ويعرض الأمر على القبائل، ويُغني في الدعوة بصلاح سيرته ورجاحة قدره ويقين الناس باستقامة قصده، ما قل أن يغنيه دليل العقل أو نقاش الجدل والملاحاة. وكان يتعرض للأذى فلا يعنيه أن يتقيه كما يعنيه أن يَقِيَ منه النبي وسائر المسلمين. فكان يُعين الفقراء ويُعتق الموالي الذين يُسامون العذاب في سبيل الله، أو يحمل المغارم ويهيئ لمن أراد الهجرة وسائلها، ولا يكون عمل من الأعمال ينفع الدين الجديد وينفع أهله إلا وله سهم فيه.
ثم كانت هجرته إلى المدينة فكانت أخطر هجرة أقدم عليها مسلم من أهل مكة؛ إذ كان كفار قريش يقيمون لكل مهاجر من الأرصاد والعيون كَفَاء قدره، وكانت أرصادهم وعيونهم على النبي أكثر ما استطاعوا من عُدة وكيد وحيْطة. فكانت الهجرة في صحبة النبي شرفًا من شرفين، لا يدري المرجِّح بينهما أيهما أحق بالإعظام: إما مجازفة بالحياة، وإما يقين لا يخامره الريب أن النبي ناج في حماية ربه، ولو كان في الهجرة ما فيها من فراق الموطن أو الهجوم على فراق أرهب منه وأقسى، وهو فراق الدنيا.
فتلقى أبو بكر الإذن بهذه الهجرة كما يتلقى البشارة بالسلامة. قالت بنته عائشة رضي الله عنها: «ما شعرت قبل ذلك أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن رسول الله ﷺ بصحبته.»
وقالت بنته أسماء رضي الله عنها: «لما هاجر رسول الله ﷺ، وهاجر أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كلَّه خمسة آلاف درهم أو ستة. فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره. وقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه. قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا فوضعتها في كُوَّة البيت الذي كان أبي يضع فيه ماله، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده وقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكني أردت أن أسكِّن الشيخ.»
•••
وكذلك أقبل الصديق على الإسلام وهو عالم بالذي هو مقبل عليه. لم يقل له أحد ولا قال هو لنفسه: إن الأمر أهون مما تَوقع، وإن البلاء بعقيدته التي تحوَّل إليها أخف ما وجد، فلم يجد نَصَبًا وكان يرجو الراحة، ولم يجد غُرْمًا وكان يرجو المنفعة، ولم يجد عداء من قومه وكان يرجو منهم المودة، ولم يجد خطرًا وكان يرجو السلامة، وإنما دخل في شيء يتوقع ما هو ملاقيه فيه، ويراه دون حقه من المصابرة والحفاظ والاحتمال؛ لأنه الدين، لأنه الحياة الفانية والحياة الباقية، لأنه الحق ودونه الباطل، والهدى ودونه الضلال.
فما أقبل إنسان قط أصدق من هذا الإقبال، وما تأهب إنسان قط لبلاء في سبيل ضميره وربه أعظم من هذه الأهْبَة، وما نَفُس الصدق عند إنسان قط أغلى من هذه النفاسة. فهي سلامة النفس وسلامة الآباء والأبناء وسلامة المال والعتاد وسلامة الدنيا بأسرها يعلقها بكلمة صدق من رجل صادق، وإن أناسًا ليصدِّقون غاية التصديق ثم لا يخاطرون في سبيل الصدق برزق يوم ولا براحة ساعة.
إنه الصدِّيق.
وما وصف بكلمة واحدة هي أجمع لخلائقه من كلمة الصِّديق.
ولقد رأينا أناسًا من الناقدين يستنكرون على عربي في الجاهلية أن يُقَوِّم الهداية الدينية بهذه القيمة التي لا تعلوها قيمة.
ولكنهم مخطئون.
لأن العربي الجاهلي عرف «الحق» وعرف بيع الحياة في سبيل «الحق» كما يراه: حق الجوار أو حق العرض أو حق الشرف والذمار.
وأبو بكر خاصة كان ممن يرعَوْن الحقوق ويكْفِلونها لأهلها، وكان ممن يكرهون البغي ويَنْقِمونه على أهله.
فإذا عرف «الحق» الأكبر فغير عجيب أن يرعاه هذه الرعاية وأن يكفله هذه الكفالة، وهو مهيأ لعِرْفانه بكرم الخَليقة وطيب النَّحيزة واستقامة الفطرة وصفاء القريحة.
وقد عاش أبو بكر في زمن كان عقلاؤه في كل أرض يتطلعون إلى هداية من السماء، ويخيل إلينا أن انتظار الهداية من السماء لم يطل في زمن من الأزمان، ولا سيما الزمن الذي يعم فيه الفساد وتَعْيا به حيلة الإنسان، وحسبنا أننا بعد الإسلام رأينا أناسًا يترقبون «المهدي» الذي ينشر العدل كلما عم الجَوْر، ويأمر بالعرف كلما فشا المنكر، ويهدي إلى سواء السبيل كلما استحكم الضلال.
وقبل البعثة المحمدية كان أناس ينتظرون الهدى من نسل داود أو ينتظرونه من نسل إسماعيل بن إبراهيم.
وسمع أبو بكر ما سمع من هذا في رحلته إلى اليمن، ورحلته إلى الشام، وفي حديثه مع ورَقَةَ بن نَوْفل، وحديثه مع المنكرين لظلام الجاهلية والمستشرفين إلى كل نور جديد.
وهذا محمد بن عبد الله يدعوه دعوة إبراهيم؛ دعوة الأب الأكبر الذي يشمل العرب جميعًا، ومن فوقها دعوة الله التي تعم جميع الناس.
فَمَن أولى منه بالدعوة، ومن أولى منه بالتصديق؟
إنه استشار خُلقَه القويم فهداه، وإن مشورة العقل وحدها لتهدية هذه الهداية، حيثما وازن وقابل فأحسن الموازنة والمقابلة بين جميع ما ينتظم فيها من شئون ذلك الزمان.
كان أبو بكر في اهتدائه إلى الإسلام هو أبو بكر في نشأته وسليقته وجملة أحواله وأحوال قومه وعهده.
وكان أبو بكر في إسلامه هو أبو بكر فيما وصف به وفيما جد عليه من إيمان المصدق بدينه وحماسة المعجب ببطله.
كان إسلامه إسلام الرجل الكريم السمح الودود، يستمسك بالصدق والتصديق ويُخلص في الإعجاب بالبطل الذي هداه إخلاصًا لا شِيَةَ فيه. فهو يلين في كل حالة ويشتد في حالة واحدة هو فيها أشد الأشداء؛ مرجعها إلى كل ما اتصل عنده بقوة التصديق وقوة الإعجاب.
قال بعد مبايعته بالخلافة: «إنما أنا متَّبِع ولست بمبتدِع»، فجمع إسلامه أجمع صفة وأحسنها في هذه الكلمات.
وربما عرض له من الأمر ما ليس يتضح فيه طريق الاتباع، فيخرج إلى الناس يسألهم ثم يقول: «الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا سنة نبينا.»
فلا يبتدع إلا بعد استقصائه كل مرجع من مراجع الاتباع.
وفي هذا هو شديد غاية الشدة، بعيد من اللين والهوادة غاية البعد، وهو الرجل الذي اتسم في حياته كلها باللين والهوادة.
فتصديق المؤمن وإعجاب المعجب ببطله العزيز عليه، هما تفسير كل شدة يشتدها الصديق الحليم الودود.
هو شديد في تسيير جيش أسامة؛ لأن النبي عليه السلام ولاه وأمر بتسييره، وما يكون له أن ينزع رجلًا استعمله رسول الله «ولو تخطفته الذئاب ولم يبق في القرى أحد غيره.»
وهو شديد في حرب الردة؛ لأنه لا يترك عقالًا كان رسول الله يأخذه من المرتدين.
وإذا رأيناه يتردد بين الهوادة والشدة في محاسَبة بعض الناس، فالشدة التي مرجعها التزام جادة الرسول والاقتداء بقدوته في كل شيء هي أقرب التفسيرين إلى فهم عمله، وهي أغلب في طبعه من اللين والهوادة، على اشتهاره بهما في كل ما عدا ذاك.
فالهوادة ليست هي التي تفسر لنا عمله في ترك جزاء خالد بن الوليد على البناء بامرأة مالك بن نويرة، والبناء ببنْت مجاعة في حرب بني حنيفة وتوزيع الأموال وتأخير الحساب، وإنما الذي يفسر لنا هوادته معه أنه سيف من سيوف الله، ولا يعزل أبو بكر من استعمله الرسول وله مندوحة عن عزله.
ويتبين لنا مناط الشدة واللين عنده في جناية واحدة استصغر فيها العقوبة على امرأة واستكبر العقوبة نفسها على امرأة أخرى، وذلك إذ كتب إليه المهاجر بن أبي أمية المخزومي يقول له: إن مغنيتين تغنت إحداهما بثلب رسول الله، وتغنت الأخرى بثلب المسلمين، فقطع يديهما ونزع ثناياهما لتكفا عن الغناء. فخطأه أبو بكر؛ لأن الأولى كانت أحق بالقتل، وأن الثانية كانت أحق بالصفح … وأوصاه أن يقبل الدعة وأن يحذر المُثْلة «فإنها مأثم ومُنَفِّرة إلا في قصاص.»
ففي تعظيم النبي كل شدة قليلة، وفي أمر غيره كل صفح جائز مستَحب محمود، وليست هي المحبة التي يعوزها التفكير قد فرقت هذه التفرقة بين العقابين؛ لأن هجو النبي قدح في لباب الدين وأُسِّ النظام، وهجو المسلمين وزر قد يأتيه المسلم في خلاف بينه وبين قومه، ولكنها على هذا حادثة قد عرضت لنا طبع أبي بكر في حالتيه: لين وهوادة، وإعظام لا لين فيه ولا هوادة، وإنما هي الشدة كأشد ما تكون.
•••
وربما تهيب الأمر فيه نفع لا شك فيه إذا لم يسبقه النبي عليه السلام إلى صنعه أو صنع مثله؛ لفرط اتقائه أن يصنع ما ترك أو يترك ما صنع، كما تهيب جمع القرآن في المصحف حين أشار به عمر، فقال: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟» ثم استصوب جمعه لما فيه من خير.
فسماحة أبي بكر كانت طبيعة فيه؛ لأنه طبع على الرفق والأناة والأخذ بالحيطة واستبقاء المودة.
وشدة أبي بكر كانت طبيعة فيه؛ لأنه طبع على تصديق من هو أهل لتصديقه، والإعجاب بمن هو أهل لإعجابه، ولن ترى شدة في إنسان كشدة الرجل السمح في تنزيه صفيه وحبيبه وموضع إعجابه، ولا حرصًا في إنسان كحرصه على القدوة بذلك الصفي الحبيب المعجب به، واجتناب التخلف عنه والحيد عن طريقه.
وفيما عدا هذه الشدة لم يكن أبو بكر إلا حلمًا غالبًا ورحمة غالبة، ولم تنفرج أمامه طريقان: إحداهما إلى العفو، والأخرى إلى البطش، إلا أخذ بالأولى وأعرض عن الثانية.
شاوره النبي عليه السلام في أسرى بدر فقال: «يا نبي الله؛ هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عَضُدًا.»
وشاوره حين اجتمعت قريش لصدِّه وصد المسلمين عن البيت فنادى بالناس: «أشيروا أيها الناس عليَّ. أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن فاتونا كان الله قد قطع علينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين؟»
فقال أبو بكر: «يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قتال أحد ولا حربًا، فتوجَّه له فمن صدَّنا قاتلناه …» يقاتل من صده عن البيت ولا يقاتل من لم يصده.
وشيع جيش أسامة فلم ينس أن يوصيه بالضعفاء، وهو ذاهب إلى القتال: «لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعْقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاه ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة. وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم، وتركوا حولها مثل عصائب فأخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله.»
وليس أكثر من الشواهد التي تشهدنا على قوة الدين في نفوس من آمن به. إلا أننا لا نعلم بينها شاهدًا أصدق في الدلالة على تلك القوة من أن يدين المرء نفسه بالدين أمام أعدائه، كما يدينها به أمام إخوانه في اعتقاده. ومن شواهد ذلك في إسلام الصديق أنه كره المُثلة بأعدى الأعداء في ميدان القتال، فلما بعث إليه عمرو بن العاص برأس بُنان بطريق الشام أنكر فعله أشد إنكار، ولم يخفف من إنكاره قول عقبة بن عامر له: إنهم يصنعون ذلك بنا، بل قال: أيَستنُّون بفارس والروم؟ لا يحمل إليَّ رأس. إنما يكفي الكتاب والخبر.
فهو مسلم مع من يحب ومع من يكره ولو في قتال. وهذا بلاغ الدين القويم في نفس إنسان.
•••
وهكذا كان مسلكه مع إخوانه وأعدائه، وفي لينه وشدته، وفي مفترق كل طريقين: إحداهما إلى الشدة وأخراهما إلى اللين، فقال النبي عليه السلام يصفه ويصف عمر: «… إن مثلَك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ … وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. ومثلك مثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.»
ولم يكن عمل من أعماله في قضاء حقوق دينه وأداء فرائضه إلا يدل على هذه الخليقة التي اتصف بها في جملة حياته الإسلامية، وهي المبادرة في كل ما فيه قدوة بالنبي عليه السلام، والأخذ بالحيطة في كل ما يحتمل التعجيل والتأجيل.
سأله النبي: متى توتر؟ قال: من أول الليل.
وسأل عمر: متى توتر؟ قال: من آخر الليل.
فقال لأبي بكر: أخذتَ بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالعزم.
وصلاة الوتر كما لا يخفى تقضى من بعد العشاء إلى ما قبل الفجر، ويرى بعض الأئمة أنها فريضة، ويرى بعضهم أنها سنة يقتدى فيها بالنبي.
فأبو بكر يبادر إلى أدائها ويأخذ بالحيطة مخافة أن يفوته أوانها إذا أجَلها، وعمر الشديد على نفسه الواثق من عزيمته يعلم أنها لن تفوته وأنه لن يغلبه عليها غالب من النوم، فيؤجلها إلى ما قبل الفجر، وهو واثق من أدائها في أوانها.
لهذا قال النبي لأبي بكر: إنه أخذ بالحزم وهو الأحوط، وقال لعمر: إنه أخذ بالعزم وهو الأقوى، وعرف صاحبيه في هذه الفارقة الصغيرة كما عرفهما في كبار الأمور وصغارها.
وإن العقيدة التي تتسع لهذين الرجلين ولهذين الخلقين ولهذين العقلين، ثم يكون كلاهما إمامًا فيها، عظيمًا في اتباعها، لهي عقيدة تتسع لكثير.