الصدِّيق والدَّولة الإسْلاميَّة
إن الدولة الإسلامية تأسست في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنه وطَّد العقيدة وسيَّر البعوث. فشرع السُّنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه في حرب الردَّة، وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث وفتح الفتوح. فكان له السبق على خلفاء الإسلام في هذين العملين الجليلين.
إلا أننا نسمي عمر مؤسسًا للدولة الإسلامية بمعنى آخر غير معني السبق في أعمال الخلافة؛ لأننا «أولًا» لا نجد مكانًا في التاريخ أليق به من مكان المؤسسين للدول العظام؛ ولأننا من جهة أخرى لا نربط بين التأسيس وولاية الخلافة في إقامة دولة كالدولة الإسلامية؛ إذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها وليس للتوسع في الغزوات والفتوح. وعمر كان على نحو من الأنحاء مؤسسًا لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسسًا لها منذ أسلم فجهر بدعوة الإسلام وأذانه وأعزها بهيبته وعنفوانه …
… إنه كان في يوم إسلامه آخذًا في تشييد هذا البناء الذي تركه وهو بين دول العالم أرسخ بناء.
ويكفي من ذلك أن نذكر الذين أسلموا على يديه من عظماء القوم وضعفائهم على السواء. فقد كان لإسلامه أثر بالغ بين السادة، كما كان له أثر بالغ بين العبيد والأتباع، وما هو إلا أن علم الوجوه والعِلْية من فُضلاء قريش أن أبا بكر رضي الإسلام دينًا حتى كان للقدوة به حُجة عندهم، أقوى من حجة البيان والإقناع.
إن الدين الذي يرتضيه رجل كأبي بكر في مروءته وصلاحه وشرفه واستغنائه واستقامة قصده وسلامة صدره لدينٌ جدير بالاستماع إليه والنظر في دعوته، وإن النظر في دعوته وفيما بينها وبين عقائد الجاهلية من البَوْن الشاسع لكاف وحده لكسب القلوب وتحويل الأذهان، ولا سيما عند من خلا من الغرض في دوام العقائد الجاهلية وإحباط الدعوة الجديدة أو كل دعوة جديدة كائنًا ما كان حظها من الخير والفلاح.
فأسلم على يديه رهط من أكبر السادة وأكبر القادة في الإسلام، أسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة، وخالد بن سعيد، ومنهم من أسلم وهو يفعٌ أو شاب ناشئ كسعد والزبير، فكانا فتوةً للإسلام حين جد الجد واشتدت سواعده بسواعد فتيانه الأبرار.
واشترى نفرًا من العبيد المرهقين: منهم بلال بن رباح مؤذن النبي عليه السلام. وكان سيِّده يخرجه في حمَّارة القيظ؛ فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ويلقي بصخرة عظيمة على صلبه ويدَعهُ وهو يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد. فلا يزيد على أن يقول: أحدٌ، أحد، ويرددها حتى يوشك أن يغيب عن وعيه من ألم العذاب. اشتراه أبو بكر أو استبدله بما يساوي خمس أواق ذهبًا فقيل له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! وقال: ولو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته، ومضى في شراء العبيد والإماء بما يطلبه سادتهم من ثمن يغالون فيه ليعجزوه ويدخلوا الندم على نفسه. وهو لا يبالي ما يبذل من ماله وجهده لينقذ أولئك المساكين من أيدي المشركين ويريحهم من قسوة السادة المتجبرين؛ فكان كسبه لقلوب الضعفاء أربح للإسلام وأجدر بسمعته ورحمته من كسبه قلوب العلْية الأعلام وأبلغ في التدين والفضيلة من إقناع بنافذ الحجة وإبلاغ بصادق الكلام. ولعل الدعوة الجديدة كسبت بين الأمم بهذه الرحمة أضعاف ما كسبته بهداية الشرفاء الذين اقتدوا به وذهبوا إلى النبي من طريقة.
ولم يزل في كل عمل من أعماله منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة مؤسسًا لهذا البناء الشامخ الذي كان هو أول من قام عليه بعد بانيه. فالدعوة الصريحة إلى الإسلام في المسجد بمسمع من قريش، والهجرة مع النبي من داره، وبذل المال في البعوث وغير البعوث، وتيسير القدوة للمقتدين بإسراعه إلى التلبية والتصديق كلما التبس الأمر واضطربت الأفكار، ومحاربته قريشًا بعلمه واطلاعه على الأنساب كما حاربهم بماله وسلاحه ومشورته ورأيه بل كل ما عمل منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة، فهو في جملته ركن من أركان الدولة الإسلامية يجعله بالحق مؤسسًا لها مشاركًا في بنائها، بسلطان العقيدة قبل سلطان الحكومة والكلمة المسموعة.
•••
ثم كانت البيعة بالخلافة.
وكانت بعثة أسامة بن زيد، وكانت حروب الردة، وكانت بعوث العراق والشام، فقام على هذه المآثر الثلاث التي لا تقضي حقها من الإكبار كل ما قام بعد ذلك من بناء.
بعثة أسامة، وما بعثة أسامة؟ … يستصغرها بعض المؤرخين المحدثين ويقولون: إنها من نوافل البعثات؛ لأنها بدأت وانتهت بغير فتح وبغير ثمرة وبغير حظ كبير من الغنائم تلجئ إليه ضرورة من الضرورات.
وإنهم لمخطئون.
وإن الصديق لعلى صواب.
ولقد يكون في صوابه إلهام أو تكون فيه روية وقصد مرسوم، ولكنه سداد على كل حال، ووجهة قويمة هي أدنى الوجهتين إلى النفع والصلاح.
بعثة أسامة كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية هي في ذلك الحين خير السياسات.
كان قوامها كله طاعة ما أمر به رسول الله.
وكانت الطاعة — جد الطاعة — مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرد هو الخطأ الأكبر فالطاعة — بل الطاعة الصارمة — هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين لا مِراء: كان النفاق يُطْلع رأسه في مكة والمدينة، وكانت القبائل البادية تتسابق إلى الردَّة في أنحاء الجزيرة، وكان جند أسامة نفسه يود لو استبدل به أميرًا غيره، وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرُّدٌ، أو نذير بتمرد، في كل مكان.
وطاعة واجبة هنا حيث نبغ التمرد، أو لا سبيل إلا واجب بعد ذلك يطاع.
طاعة أو لا شيء.
فإن بقيت الطاعة فقد بقي كل شيء.
وهنا تسعفه الصدِّيق طبيعة هي أعمق الطبائع فيه، أو هي العبقرية الصدِّيقية في أوانها، وعلى أحسن حال تكون.
هنا تسعف القدوة القويمة بالبطل المحبوب.
وهنا يقول وقد خوَّفوه الخطر على المدينة والجيش يفارقها: «والله لا أحُلُّ عقدة عقدها رسول الله! ولو أن الطير تخطفتنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة.»
كلمة لو قالها غير أبي بكر لكانت كبيرة، ولكن الذي يقولها أبو بكر وبنته أعز أمهات المؤمنين.
فلا خطر إذن أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرت الكلاب بأرجل البنات والأمهات.
ومن المؤرخين المحدثين من قال ما فحواه: إن بعثة أسامة إنما أرسلت ثأرًا لأبيه زيد الذي قتل في معركة مؤتة، وإن قاتله في تلك المعركة قد مات لتِّوه، أفما كان إرجاء البعثة من المستطاع وقد أدرك ثأر القائد القتيل؟
ومن المهاجرين والأنصار من كان يرى الرأي في بقاء البعثة بالمدينة بعد موت النبي عليه السلام وفي مقدمتهم أسامة.
ومنهم من كان يرى أن يتقدم للقيادة من هو أسنُّ منه وأخبر بفنون القتال، ومنهم عمر بن الخطاب.
أما أبو بكر فقد رأى العصمة — حق العصمة — في رأي واحد لا رأي قبله ولا بعده، وهو الطاعة في غير ليٍّ ولا هوادة ولا إبطاء، ولو لم يكن التمرد هو الآفة المحذورة في تلك الآونة لقد كان غير ذلك الرأي أصوب، ولكنه كان آفتها التي لا آفة مثلها، ثم لا خطر إن سلمت الدولة من شرها، فلتكن الطاعة إذن هي الصواب، وهي الملاذ.
وقد ضرب المثل الأول في الطاعة التي أرادها. فشيَّع البعثة وهو ماش على قدميه وعبد الرحمن بن عوف يقود دابته بجواره. فقال أسامة: يا خليفة رسول الله. والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب. وما عليَّ أن أغبِّر قدمي في سبيل الله ساعة.
ثم استأذن أسامة قائلًا: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فعاد عمر بإذنه: بإذن القائد الذي هو في مقام الطاعة هناك، حتى على الخليفة وعلى أكبر الصحابة من بعده.
ثم قال لأسامة: اصنع ما أمرك به رسول الله ﷺ … ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله.
أفكان المؤرخون المحدثون على صواب في أمر هذه البعثة حين قالوا: إنها من النوافل بعد مقتل القاتل لزيد أبي أسامة؟
إنهم لعلى خطأ في كل تقدير قدروه ولو جاريناهم فحصرنا أغراض البعثة في ذلك الغرض الوحيد؛ لأن مقتل قائد في معركة ليس بالجريمة الفردية التي يعاقب عليها القاتل وحده، وإنما المسألة هنا مسألة الجيش كله، وهيبة الأمة التي أرسلت ذلك الجيش وتمثلت فيه بقوتها ومناعة حوْزتها، فإن لم يقع في روْع الأعداء المقاتلين أن ذلك الجيش قوة تهاب وتنال حقها من الثأر فقد بطل الغرض كله من القتال.
وفي هذه البعثة بعينها، ماذا كان يحدث لو أن قبائل غسان وقضاعة استضعفت شأن المسلمين وفي أيديها الطريق بين بلاد العرب وبلاد الروم؟
كل شيء جائز أن يكون.
وأوله إغراء الروم بالهجوم ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع إليها من المجترئين والمتحفزين، ولما تقعدهم عن الاجتراء والتحفز هيبة جيوش الإسلام.
ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها. فشاع في الجزيرة العربية خبرها، وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا: وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء.
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزًا لدفع خطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله، وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة، وهو يومئذ ألزم الدروس.
•••
ثم تكرر هذا الدرس في أوسع نطاق؛ لأنه نطاق الدولة الإسلامية كلها في ذلك الحين، وجاءت حروب الردَّة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غيرَ مدافع، أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك. فكان «هو نفسه» كما يقول الغربيون في تعبيراتهم حين يذكرون الأعمال التي تدل على صاحبها بجميع خصائصه ولُباب شعوره وتفكيره، وتُبرزه على حقيقته التي لا مماراة فيها، خلافًا لأعمال أخرى قد تكون فيها هذه «الحقيقة» موضع التباس أو اختلاف.
ففي حروب الردة كان أبو بكر رضي الله عنه هو أبا بكر علي سوائه وجلائه، ولم يكن موقفه غريبا كما يسبق إلي الذهن للوهلة الأولي حيثما يخطر للذهن أنه الرجل الوديع الرفيق، وذلك الموقف أولى المواقف بالصلابة الصارمة والبأس الشديد.
غضب الصديق رضي الله عنه في حروب الردة غضبته التي لا بد أن يغضبها، وإلا فما هو بغاضب.
أثارته ردة المرتدين؛ لأنها مسته في كل ما يُثيره، وأصابته في كل ما يُعزِّه ويغار عليه.
فهناك الصديق المحب لصديقه، والمعجب الغيور على ذكرى بطله، يثيره أن يغدر الغادرون بعهد ذلك الصديق وذكرى ذلك البطل، ولَمَّا تمض له في قبره أيام أو أسابيع.
وهنالك المسلم «الصدِّيق» الذي آمن ببشارة النصر ولو كره الكافرون، كما آمن من قبل بانتصار الروم على الفرس بعد بشارة القرآن فخاطر على ذلك النصر بالمال والميثاق، ولم يخامره الشك لحظة أنه الرابح لا محالة في ذلك الخطار. وكذلك غضب في حرب الردة غضبة الواثق من الحق، الواثق من الغلبة، الواثق من العاقبة؛ لأنه سمع البشارة السماوية لينصرن الله الإسلام على الدين كله، فإذا حارب في سبيل الإسلام فهو لا محالة على حق وهو لا محالة منصور.
وهناك الرجل «الدقيق التكوين» يقابَل بالاستخفاف في أول خلافته وقد راض نفسه طوال حياته على المروءة والكرامة والوقار، أنفةً من الاستخفاف وكراهة للصغر والاستصغار، فإذا بهم يستقبلونه بما أشاح عنه طوال حياته، وإذا بالأمر صريح بالمقال فضلًا عن صراحته بلسان الحال: هم يستكثرون عليه كنيته أبا بكر فيكنونه أبا الفصيل؟ وأعوانه يردون عليهم ذلك الاستهزاء متوعِّدين: لترونه غدًا أبا الفحول.
وهنالك الرجل الذي فيه من وثاقة العزم ما قمع به ثورة الحِدَّة وهي أصيلة في تركيبه، ومن كان له ذلك العزم فهو مُنجده حين يحتاج إليه، وما كان محتاجًا إليه قط لو أنه استغنى عنه في فتنة الردة، وهي تفاجئه بالغضب المثير.
وهنالك الرجل الذي كان مثلًا في الاقتداء بالرسول حيثما سبقت سابقةٌ يُقاس عليها، وقد سبقت هذه السابقة في فريضة من فرائض الإسلام وإن لم تكن فريضة الزكاة: سبقت في فريضة الصلاة، وذهب أناس من المثقفين يعرضون على النبي إسلامهم على أن يعفيهم من الصلاة، فقال عليه السلام: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» وكذلك لا خير في دين لا زكاة فيه، فإذا جاء المرتدون يزعمون أنهم مسلمون يقبلون فرائض الإسلام ولا يقبلون الزكاة فليس أبو بكر بالذي يقبل منهم ما يزعمون.
إنما كان أبو بكر إذن أصدق ما كان لنفسه وسرائر مزاجه يوم قابل الردة بدرس الطاعة التي لا هوادة فيها، ولم يكن في باطن الأمر غريبًا عن المعهود فيه، وإن لاح في ظاهر الأمر أنه جاء بالغريب من رجل وديع رفيق.
ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام، وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الأولى في مقاومة الشرك ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحًا جديدًا لهذا الدين الناشئ، كأنما استأنفت الدعوة إليه من جديد.
ولكنهم لم يكونوا على حق حين حاولوا أن يصبغوا الردة بغير صبغتها وأن يفهموها على غير وجهها، ولا سيما النقاد المغرضين الذين انحرفوا بها عمدًا ليتسللوا منها إلى الطعن في نشأة الإسلام؛ فقالوا: إن ارتداد الأعراب إنما كان دليلًا على أنهم قد أسلموا مكرهين، فما عتَّموا أن وجدوا سبيلًا إلى النكصة على أعقابهم حتى نكصوا مسرعين.
والمسألة أوضح من هذا لو أراد أولئك النقاد طريق الوضوح.
المسألة أقرب شيء إلى طبائع الأمور في أشباه هذه الأطوار من كل دين ومن كل مذهب ومن كل دعوة تتناول الناس عامة وخاصة، بل من كل فكرة تُخامر الأذهان والقلوب حتى ما كان من قبيل الحكمة والفلسفة والدراسات العلمية التي يُعنى بها خاصةُ الباحثين ولا تتسرب دعوتها إلى السواد. فماذا حدث في الحكمة بعد سقراط؟ وماذا حدث في مذهب النشوء بعد داروين؟ وماذا حدث في علم الأخلاق بعد كانْت أو بعد بِنْتام أو بعد برجسون؟
فالذي حدث من ردة العرب هو الطبيعي المنظور أن يحدث، والذي تَخَيَّله النقاد المغرضون واجبًا مقررًا هو الغريب الذي لم يحدث قط في دعوة من الدعوات.
وإلا فما هو ذاك الذي كان يتخيله أولئك النقاد المغرضون؟ أكانوا يتخيلون أن دينًا جديدًا يملك الناس جميعًا في الجزيرة العربية فيسري إلى كل نفس، ثم يسري من كل نفس إلى جميع بواطنها وخفاياها فلا يُبقي فيها بقية للنكسة والارتداد؟ أكانوا يتخيلون ذلك الدين مقتلعًا في مدى تلك السنوات القليلة كل أثر لأطماع الخليقة الآدمية وكل حنين في قلوب الزعماء إلى الجاه القديم، وكل فضلة من فضلات الجاهلية، وكل باب من أبواب الدسائس التي تنفذ إلى جزيرة العرب من طريق الدول الأجنبية والعُصب الداخلية؟ … أكانوا يريدون من الأعراب بعد بضع سنوات أن يوغلوا في الإسلام أشد من إيغال قبائل نجران أو الغساسنة في الدين المسيحي بعد بضعة قرون؟
إن تخيلوا ذلك فاللوم على الخيال المضلل وليس على الواقع ولا على العقل السليم ولا على الإسلام.
وما من شيء هو أحرى أن يدل على النشأة الطبيعية في الإسلام من هذه العوارض الطبيعية التي عرضت له في حياة نبيه وبعد موته، وأولها حرب الردة وما اقترن بها من عوامل النكسة والاضطراب.
لقد كان النبي مناط الاستقرار في الجزيرة العربية بعد نجاح دعوته ودخول العامة والخاصة في دينه، أو كان كما قال الشاعر:
وإذا غاب «مناط الاستقرار» أو موضع القسطاس فماذا يكون؟ بل ماذا يمكن أن يكون؟
يكون نقيض الاستقرار لا جرم.
أو يكون الميل هنا والميل هناك ولو كان العارض الذي طرأ قد عرض لأجسام من المادة لا تعرف الدين باختيار، ولا تعرفه باضطرار.
فلما غاب «مناط الاستقرار» أول مرة حدث ما لا بد أن يحدث، وطرأ التقلقل الذي لا مناص منه في كل بيئة ريثما يزول الأثر الطارئ وترجع الأمور إلى نِصَاب.
فعرض لكل طائفة من الناس تقلقل يناسبها ويجري في مجراها.
تقلقل الأنصار وهم مسلمون حق مسلمين، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبتون بتهم في مصير الخلافة؛ لأنه مصير لا بد لهم من البت فيه.
وتقلقل المهاجرون من بايع منهم أبا بكر ومن لم يبايعوه، ومنهم عِتْرة النبي وأقربهم إليه وأعظمهم إيمانًا بدينه والغيرة عليه.
وتقلقل في مكة أناس قريبو عهد بالنفاق، فهموا بالعصيان لولا نذير من ولَّى السلطان.
أما القبائل فيما وراء ذلك فكان لكل منها نصيب من التقلقل يناسب نصيبها من القرب والبعد والمودة والجفاء.
فأقربهم إلى مهد الإسلام كانوا يخلصون للنبي ويخرجون على من ولي الحكم بعده.
وأناس منهم آمنوا بالزكاة ولم يؤمنوا بمن يؤدونها إليه، واحتجوا بآيات من القرآن الكريم حرفوها إلى المعنى الذي أرادوه، ومنها: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة: ١٠٣] … قالو: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا! وأبوا أن يدفعوها وإن علموا أن دفعها فريضة من فرائض الدين، فهم لم ينكروا الفريضة ولكنهم أنكروا الجباة.
أما الأبعدون من مهد الإسلام فكان لهم تقلقلهم الذي يعرض لكل بعيد لم يسكن قط إلى قرار، وإنما هو في اضطراب مستور يتربص أن يثب إلى الجهر ما تهيأ له وثوب.
فأبناء اليمن كان لهم مُلك قديم، وكانت لهم أسَر معرقات في الحكم تتداوله تارة بسلطان الحبشة، وتارة بسلطان فارس، وحينًا بين هذا وذاك بسلطان أهل البلاد، وكانت لهم كهانة تمتزج بكل عقيدة من العقائد الكتابية وغير الكتابية، فلما اضطرب بينهم ميزان الأمور برز كل عامل من هذه العوامل في الفتنة بأثر من آثاره، ونجح بينهم الأسود العنسي صاحب النبوة فيهم — وهو مسخ مشوَّه — لأن التشويه كان من آلات الكهنة والسحر عندهم ولم يكن من عوائق النجاح في أمثال هذه الدعوات. فكان وفاقًا لشروط الكهانة اليمنية على شبه من كاهنهم «سطيح» الذي قيل فيه: إنه كان لحمًا بغير عظم، أو كان من لين العظام بحث يدرج جسمه كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه، وهي مع هذا تمس باليد فيؤثر فيها المس الخفيف لفرط لينها، وعلى شبه من كاهنهم «شق» الذي سمي بهذا الاسم لأنه أشبه بنصف إنسان مشقوق لنحافته وانسلاخ أعضائه فكانت حقارة الأسود العنسي آلة من آلات نجاحه تبطل العجب ولا تدعو إليه، كلما استعظم أحد أن يظفر مثله بما ظفر به من الفوز العاجل في بداية الفتنة اليمنية.
وحيثما رجعت الفتنة إلى مطامع العنسي وأمثاله من المشعوذين الطامحين إلى الصولة فقد بدأت طلائعها من أيام النبي عليه السلام في أنحاء متفرقات من الجزيرة؛ لأن هؤلاء المشعوذين لم يفهموا الإسلام ولم يعقلوا قط أنه دعوة إصلاح لخير الناس، وكل ما عقلوه أنه حيلة كاهن أفلحت فحق لهم أن يطمعوا في الفلاح؛ لأنهم كهان لا تعوزهم وسائل السحر وحبائل الخديعة. فتطلعت رءوس الفتنة من هنا وهناك والنبي عليه السلام بقيد الحياة، إلا أنها لم تتفاقم ولم تبلغ مداها من الانتشار في حياته عليه السلام.
ولكنها تجمعت إلى يوم الرجَّة التي ارتجتها الجزيرة العربية بعد فراقه هذه الدنيا، وهي رجَّة لا محيص عنها. فما كان معقولًا ولا منظورًا أن يحدث هذا الحادث الجلل بغير رجته التي تقترن به لا محالة، وإذا وقعت الرجة فما كان معقولًا ولا منظورًا أن تقع على غير هذا المثال.
وغاية ما يفهم من هذه الرجة التي لا غرابة فيها أنها الأثر المعقول المنظور لمطامع الطامعين وخلائق الأعراب وذوي الجهالة من أهل البادية في كل جيل. فما عرف التاريخ قط أناسًا منقطعين للبداوة الأولى إلا عرف منهم الاستعداد لأمثال هذا الانتقاض كائنًا ما كان الدين الذي ينتحلونه والزمن الذي قضوه في انتحاله. وربما مضت مئات السنين على قبيلة من البادية المغرقة في البداوة وهي تدين بالمسيحية أو الإسرائيلية ثم تنقلب مثل انقلاب الردة في رجة من الرجات النفسية أو الاجتماعية التي تشبهها، ولا يستغرب العالمون بطبائع الناس هذا الانقلاب بعد مئات السنين كما استغرب أناس أن ينقلب بعض أهل البادية على الإسلام أو على دولة الإسلام، ولَمَّا ينقض على دخولهم فيه عشر سنين.
على هذه الحقيقة أن تُفْهم فتنة الردة إنصافًا للتاريخ إن لم يكن إنصاف الدعوة المحمدية مما يعني أولئك المستغربين.
ولإنصاف التاريخ ينبغي أن تفهم هذه الفتنة على أنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طُلَيحة سأله: ويلكم ما يهزمكم؟ فقال له: أنا أحدثك ما يهزمنا. إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قومًا كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه!
وقد امتحنت دعوة الإسلام وامتحنت جميع الدعوات التي نهضت لمنافسته بقوة السلاح وقوة الدهاء وقوة العصبية فقضت له بالبقاء وقضت عليها بالفناء. ولو كان نجاح الدعوة الإسلامية نجاح سلاح أو دهاء أو عصبية لقد كان أصغر مُتَنَبئ من أدعياء الردة خليقًا أن يطمع في مثل ذلك النجاح؛ لأنهم بدءوا دعوتهم ومعهم من جموع القبائل التي تعتز بعصبياتها ما لم يتهيأ لصاحب الدعوة المحمدية قبل عدة سنين، وصدقهم أناس كانوا يقولون: إن نبيًّا كاذبًا منهم خير من نبي صادق من مضر أو قريش.
وأصدق من هذا كله في امتحان الدعوة المحمدية أنها خرجت من فتنة الردة وهي بشهادة الواقع والحق بِنْيَة حية تسير على سنن الحياة الصحيحة التي لا زيف فيها ولا اصطناع: يعرض لها الخطر من أسبابه، وتعرض لها السلامة من أسبابها، وتنجو كما تنجو البنية الحية القوية حيثما تجمعت فيها عناصر النجاة.
فليست هي جسمًا محجَّبًا بالأوهام كما زعم طليحة الكذاب لجسمه أنه لا يعمل فيه السيف ولا تصيبه السهام. ولكنها جسم صحيح يعمل فيه السيف وله مع ذلك ما يدفع الطعن ويبرئ من الجراح.
ولا شك أن المسلمين لم يواجهوا جوانب الخطر كلها في حروب الردة دون المرتدين الذين أشعلوا الفتنة وصُلُوا بنارها. فقد كانت حروب الردة فتنة كجميع الفتن التي لا يؤمن خطرها على الفريقين المشتركين فيها، فكان فيها جانبها الخطر على أهل الردة كما كان فيها جانبها الخطر على الإسلام. وما كان منها خطرًا على فريق فقد كان فيه للفريق الآخر أمان.
وقد كان أمانها على الإسلام أن المرتدين متفرقون لا تؤلف بينهم وحدة معلومة المقاصد في السياسة ولا في الدين، وأنهم هددوا المدينة بجموع البادية فأثاروا فيها سليقة الدفاع ووحدوا بين صفوفها وهي موشكة أن تتصدع بين الشِّيع والأهواء. فعلم أهل المدينة كما علم أهل مكة أنهم مهددون بجائحة من البادية لا يطمئون بعدها إلى مصير، وهبوا يتعاونون ويتكاتفون لاتقاء تلك الجائحة سواء من بايع الخليفة ومن تثاقل عن البيعة في أوائلها. وتقدم على رءوس المدافعين أناس كانوا في يوم البيعة متخلفين، وجرى القضاء بوقوع أهل الردة في خطأ من أخطاء العجلة كان فيه نفع — أي نفع — للمسلمين. فهجموا على المدينة مغترين بكثرتهم وقلة المدافعين عنها، ولم يحسنوا الأهبةَ للهجوم كما أحسن المسلمون الأهبة للدفاع. فثارت حمية الأنصار والمهاجرين معًا للدين الذي آمنوا به، وثارت حميتهم معًا للجوار الذي رُوِّعوا فيه، وكانت هذه الهجمة وبالًا على الردة وفاتحة من فواتح الهزيمة، ولو أنهم قنعوا بالبقاء في باديتهم والتوغل في صحرائهم لقد كان ذلك أدنى إلى الحزم من ناحيتهم، وإن لم يكن حتمًا لزامًا أن يفضي بهم آخر الأمر إلى النجاح.
وزاد في بواعث الطمأنينة إلى جانب المسلمين أن عاد جيش أسامة سالمًا موفورًا ولَمَّا ينقض على مبعثه شهران على أرجح الأقوال: عاد بالأسلاب والغنائم من تُخوم الروم ولم يُقتل منه أحد ولا بدا عليه عناء أو مشقة مما كان فيه، ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة. إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع، وجيشٌ يذهب إلى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص بل يعود بالغنائم والأسلاب، كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض صحراء؟ وكيف تخفى دلالة هذا الحادث على أناس اشتهروا بتنسم الأخبار كما اشتهروا باستطلاع الدلائل على القوة والضعف وعلى الخطر والأمان؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعَدَده. فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح.
•••
تلك فتنة الردة بجملتها، وبجانِبَيِ الخطر والسلامة فيها.
قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل به من مبدئها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وكل ناحية من نواحيها.
فبادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقبها بالحزم يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة عقابه للمرتدين الذين مَرَدوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة ولا استجابوا نذير الجزاء؛ فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة، فجزاؤهم أن يشهدوا من بأس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا إلى الفتنة واسْتَبَقُوا إلى العصيان. فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم ووهبت عطايا للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين، ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة إلى قتل المسلمين بين ظهرانيهم، فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان واعتدائهم بالقتل وإعراضهم عن النصيح والنذير جزاء حق؛ لأنه من جنس العمل.
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس، ومجاهدون مخلصون يُؤْثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذًا بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عُروض الدنيا على الإيمان.
•••
قال أبو رجاء البصري: «دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلًا يقبِّل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك، ولولا أنت لهلكنا، قلت: من المقبِّل ومن المقبَّل؟ قالوا: هو عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين.»
وأبو رجاء من ثقات الرواة، وكلا الرجلين جدير بما رُوي عنه من مودة وإكبار، عمر جدير بإكبار أبي بكر، وأبو بكر جدير بإكبار عمر إياه، فالخبر صحيح أو هو كالصحيح، إن لم يكن فهو حَرِيٌّ أن يكون.
هنالك ولا ريب أعظم رجلين واجها حروب الردة بين عظماء المسلمين في ذلك الحين.
وما كان اثنان قط أقرب منهما في القصد، ولا كان اثنان قط أبعد منهما في الرأي بما أشارا أول الأمر في شأن أهل الردة.
ولا ينتهي العجب في موقفهما هذا عند فرط الاقتراب وفرط الابتعاد، ولكنه عجب عاجب من غير ناحية فيه، فإذا قُدِّر لهما أن يتفقا مقصدًا ويختلفا رأيًا فقد كان المَظْنونُ أن يتجه عمر إلى جانب الشدة، وأن يتجه أبو بكر إلى جانب اللين، فجاء اختلافهما يومئذ على غير المظنون.
ومهما يكن من حق الدراسة التاريخية في هذا الموضوع فحق الدراسة النفسية يساويه إن لم يزد عليه، أو ربما كان حق الدراسة التاريخية مطلوبًا لما ينتهي إليه من هذه العجيبة النفسية التي هي غاية العلم الذي نَصْبُو إليه؛ إذ ليس للتاريخ ولا لغيره من العلوم غاية أشرف ولا أنفس من تعريف الإنسان بالإنسان.
كان عمر يقول لصاحبه: يا خليفة رسول الله؛ تألَّف الناس وارفُق بهم! كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله ﷺ: «أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسَه ومالَه إلا بحقه؟!»
وكان أبو بكر يقول: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا لقاتلتهم على منعها» … ويملكه الغضب فيصيح بصاحبه: «يا ابن الخطاب، رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك؟ أجبَّار في الجاهلية وخوَّار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أَوَينقص وأنا حي؟»
فكيف اختلف الصاحبان هذا الاختلاف؟
أما أن يختلفا فلا عجب، وأما أن يتصارحا بالاختلاف فلا عجب فيه كذلك.
وإنما العجب — عند النظرة الأولى — أن يجيء منهما الاختلاف على هذا النحو الذي خالف المنظور كما خالف المعهود من طبائع الرجلين، وهذا الذي يستوقف النظر في طليعة ما يستوقف الأنظار من حروب الردة، ومن جميع ما أعقب وفاة النبي عليه السلام وقيام الخلافة الأولى.
وصفوة ما يقال في تفسير هذه العجيبة حقيقتان غير عجيبتين: أولاهما أن المعهود من أخلاق الإنسان ليس هو الإنسان كله، بل في الإنسان شيء كثير مما ليس يعهده الناس منه في عامة أحواله. والحقيقة الثانية أن الخلق المعهود قد يفسر على وجوه كثيرة بعضها موافق للمتبادر إلى الذهن وبعضها لا يوافق المتبادر إلى الذهن إلا بعد إنعام واستقصاء.
فالشدة في أبي بكر موجودة تظهر في مناسباتها.
واللين في عمر موجود يظهر في مناسباته.
وأولى المواقف أن يظهر فيها هذان الخلقان هو الموقف العصيب؛ لأنه موقف المراجعة الذي لا يذهب فيه الإنسان مع الخاطرة الأولى.
فالموقف العصيب هو الموقف الذي يراجع فيه الإنسان نفسه ويثوب إلى المكنون من أخلاقه فيصل منها إلى القرار الذي يخفى على الناس في عامة الأحوال ولا يظهر لهم للوهلة الأولى. فيشتد الليِّن ويلين الشديد، أو يبدو كل منهما على الحالين بجميع ما فيه من شدة ولين.
ومن ثمَّ يبدو ما لم يكن بمعهود في عامة الأحوال …
على أن الموقف الذي وقفه عمر في حرب الردة معهود فيه إذا علمنا أن الخلق الإنساني يفسر نفسه على عدَّة وجوه.
فعمر متصرف بالرأي.
وعمر جريء فيما يرى.
وعمر وثيق الإيمان.
وعمر عادل متحرج في عدله.
وهل كان موقفه من المرتدين خِلْوًا من خلق من هذه الأخلاق؟
ألم يكن فيه تصرف حين أراد أن يؤجل أمر الزكاة إلى يوم تتبدل فيه الأحوال؟
ألم يكن فيه جرأة حين جهر بهذا الرأي ولم يحفل بمداراته؟
ألم يكن فيه ثقة بأن المصير إلى ثبات الإسلام، وإن ضل مَن ضل وزاغ في الطريق من زاغ؟
ألم يكن فيه تحرج من قصاص لم يتضح له حقه فيه حتى وضح له ذلك الحق فبطل الحرج ووافق صاحبه في كل ما ارتآه؟
فهذا هو عمر المعهود، ولكن بعد إنعام واستقصاء.
أما أبو بكر المعهود فنحسب أننا قد بيناه فيما تقدم، فبينا أن ما صنع من قتال أهل الردة كان أقرب الأعمال إلى «الصديقيات» المطبوعة، وإن بدا في النظرة الأولى على غير ذلك، ونحن لا نفهم الإنسان حقًّا إذا فهمنا أنه يعيش حياته كلها ولا يأتي بشيء يخالف ما عهدناه وانتظرناه. ونحن لا نستغرب الموقفين من أبي بكر وعمر إذا أحضرنا هذه الحقيقة التي هي أقْمَن شيء بالإحضار في دراسة النفوس الإنسانية، وبخاصة نفوس العظماء.
وقد وضح كل الوضوح أن أبا بكر كان على صواب عظيم.
ولكن لم يتضح كل الوضوح أن عمر كان على خطأ عظيم.
فنحن يخيل إلينا اليوم، أننا لو كنا في عصر الردة لوضح لنا يومئذ ما يتضح لنا اليوم، ولم نتردد في متابعة أبي بكر إلى القتال على يقين أنه الصواب كل الصواب أو أنه الواجب الذي لا مثنوية فيه.
ولكننا لو حضرنا ذلك العصر، لجاز كثيرًا أن يميل منا الألوف — بل ألوف الألوف — إلى القول بالمسالمة والمتاركة حتى حين، وجاز أن يعتقد منا الكثيرون أن التربص بالمرتدين حتى يعود جيش أسامة ويثوبوا إلى الحسنى أسلم وأحزم، فإن لم يثوبوا إلى الحسنى فعدة القتال يومئذ أوفى وأعظم، وقد يجنح بنا إلى هذا الرأي أن الخطر من نكسة المنافقين في مكة والمدينة غير بعيد، وأن الخطر من غلبة المرتدين غير مستحيل، وأن القبائل إن بقيت في باديتها فأمرها مستدرك حتى تعالج بالهوادة أو بالنذير أو بالقتال آخر الأمر على ثقة من الغلبة فيه.
ذلك جائز واضح الجواز، وما كان كذلك فالقول به ليس بالخطأ العظيم، وإن بينت الحوادث أن القول بغيره كان صوابًا جدَّ صواب.
وإنما الخلاف في أهل الردة من ضروب الخلاف التي يفضها الفقهاء؛ لأن الرأي وحده لا يكفي ولن يكفي يومًا لفض خلاف في مسألة حاسمة من مسائل التاريخ.
وقد شاء القضاء أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع، فهو فيها صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب.
وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعًا على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل. وحسب المؤرخ والنفساني عبرة أن يلحظ هذه الثروة النفسية في صدر الدعوة الإسلامية: دعوة فيها لكل موقف أبطال، وفي كل بطل منها أهبة لكل حادث طارئ تختلف فيه الأهبُ والآراء، وفيهم جميعًا التعاون والإخلاص مختلفين ومتفقين.
•••
وما انتهت حروب الردة حتى بدأت في تاريخ الإسلام ٍمرحلة أخرى أجل وأعظم، تصدى لها الصدِّيق بذلك العزم الذي تصدى به لكل ما عقد النِّيَّة عليه وآمن بصوابه: إقدام كأنه لا يعرف المبالاة والتدبير، ومبالاة وتدبير، كأنهما لا يعرفان الإقدام.
كانت المرحلة الأولى تأمين الإسلام في عُقر داره.
وكانت المرحلة الثانية تأمين الإسلام في حدوده وتُخومه، ودفع الخطر من هجوم الأعداء عليه.
ونقول تأمين الحدود ولا نزيد؛ لأننا نعتقد أن الصديق رضي الله عنه أخذ في تسيير البعوث إلى حدود العراق والشام وهو على هذه النية دون نية الفتح بالسلاح، وأنه رضي الله عنه قد التزم في سياسته الخارجية خطة النبي عليه السلام في تلك السياسة، وهي الخطة التي ظهرت في بعثة تبوك ثم في بعثة أسامة بن زيد، وأصدق ما يقال فيها أنها خطة لا هجوم فيها ولا تهجُّم، ولا باعث لها إلا دفع الأذى وحماية الطريق، والتمهيد لنشر الدين بالحسنى والبرهان إن تيسر نشره بالحسنى والبرهان، فإن قامت العقَبَة من قوة طاغية تحُول دون ذلك فعلى القوة الطاغية حساب تلك العقبة، حيثما حان أوان الحساب.
عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره.
إن دولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم الجزيرة وتهيج القبائل لحرب المسلمين من عهد النبي عليه السلام، وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها، يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث عن أزواج النبي حيث يقول: «… وكنا تحدثنا أن غسان تَنْتَعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال: أثَمَّ هو! ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم … قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم منه وأطول؛ طلق النبي ﷺ نساءه!
وهو حديث يتبين منه مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار.
فلما تولى الصديق رضي الله عنه الخلافة أنفذ بعثة أسامة التي يصح أن تسمى بلغة العصر الحاضر بعثة تأديبية لردع القبائل التي تعيث في الطريق بين الحجاز والشام تأمينًا لتلك الطريق وتوطيدًا لهيبة الإسلام في نفوس تلك القبائل. فلم تجاوز البعثة هذا الغرض المحدود ولم تلبث أن قفلت إلى المدينة بعد أربعين يومًا في قول بعض المؤرخين وسبعين في قول آخرين.
أما غزوة فارس فقد كانت استطرادًا لحروب الردة في أطراف البحرين، فكانت القبائل التي تدين لسلطان فارس توالي الإغارة على أرض المسلمين فيدفعونها ويقتصون منها ويتعقبونها في بلادها، وكان الصديق رضي الله عنه يجهل اسم القائد المقدام الذي كان يتولى الدفاع والتعقيب في تلك الأنحاء، فسأل عنه في شيء من العجب: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فعرَّفه به قيس بن عاصم قائلًا: هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد: هذا المُثنَّى بن حارثة الشيباني!
فكان هذا الاستطراد في حرب الردة بداءة الاشتباك بفارس ومن والاها من قبائل البحرين والسَّواد، ومضت الحوادث شوطًا قبل أن تنقلب إلى الحرب الضروس بين العرب وفارس في أوسع نطاق، فلما أرسل الصديق خالدًا لنجدة المثنى أمره أن «يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم.» وتقدم خالد في تأمين الطريق فصالح أهل الحِيرة وغيرهم على «أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدُلوهم على عورات المسلمين … فإن هم خالفوهم فلا ذمة ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمُعاهد، وعلى المسلمين المنع لهم … وأيما رجل منهم وُجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك، فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب …»
فمن طلائع الغزوة الفارسية يلوح للمتتبع أنها غزوة فرضتها الحوادث على الخليفة الأول، فاستجاب لها بما ينبغي أن يستجيب، وقَبِل المناجزة حين لم يكن له من قبولها مناص ولا متحوَّل، ولم ينس مع هذا أن يتألف الأمم، ويسالم الأمراء ويدعوهم إلى السلام والإسلام، ويُشْخِص إليهم من يعلمهم ما هو وَصْف الدين الذي يدعوهم إليه. فإن أصاخوا إليه فلا حرب ولا عداء، وإن جردوا له السيف رجع معهم إلى حُكْمه الذي نزلوا عليه.
•••
وهكذا قدر للخليفة الأول أن تتوطد على يديه دعائم الدولة الإسلامية الناشئة في سياستها الداخلية وسياستها الخارجية، فما صنعه فقد استمر فيه على خطة النبي عليه السلام، وما صنعه الذين لحقوا به فإنما هو نتيجة لازمة لما بدأ فيه.
وشاء الله أن يشهد سداد رأيه بعينه وهو حظ لا يتاح للكثيرين ممن يفتتحون الدول العظام ولا سيما الشيوخ. فشهد سداد رأيه فيما تم من أعماله وفيما هو آخذ في التمام؛ وفارق الدنيا وهو يعلم أنه قارن التوفيق في حرب فارس كما قارنه في حرب الردة، وليس بينهما تفاوت في الإقدام ولا في ثقة الإيمان.
ويحق لمن يؤرخ تلك الحوادث، ولمن يبحث في صفات الصديق ومناقبه، أن يسأل: ما مبلغ تلك الثقة من الإيمان؟ وما مبلغها من الحساب؟
إنه سَيَّر البعوث لإخضاع الجزيرة العربية وهي ترتَجُّ رجتها الكبرى، وليس معه من الجند إلا قلة محدودة من أهل تلك الجزيرة.
وإنه سيَّر البعوث إلى تخوم فارس والروم وليس معه من قوة غير المسلمين من العرب، مستثنى منهم في أول الأمر كل من تابوا بعد رِدَّة، وإنه لتفاوت بين القوتين أعظم من التفاوت بين جيش الخليفة وجيوش المرتدين.
أفكانت مجازفة؟
أفكانت يقينًا لا تصحبه الروية وهي في الدين الإسلامي مطلوبة مع اليقين؟
لا ريب أن اليقين كان أكبر العُدد التي تقدَّم بها الصديق في بعوث الردة وفي بعوث فارس والروم على السواء.
ولا ريب أنه أقصى المسلمين الذين تابوا بعد ردة فلم يلحقهم بالجند الموجهين إلى تخوم الدولتين؛ لأنه علم أن العُدة الكبرى في أولئك الجند هي عدة اليقين الذي لا يتزعزع ولا يدركه الوهن والطمع.
ولا ريب أن يقين الصدِّيق بنصرة الإسلام على الدين كله في يوم من الأيام قد كان أقوى يقين سكن في قلب إنسان أو سكن إليه قلب إنسان.
فكل وعد من وعود القرآن قد كان عنده حقيقة عيان، بل أمكن من حقيقة العيان.
وكل كلمة سمعها من النبي بخبر من أخبار الغد المجهول، فهي عنده شاهد من شواهد الحاضر الملموس باليدين.
نزل القرآن الكريم بغَلبَة الروم على الفرس في بضع سنين فذهب الصديق إلى مشركي قريش يُكْبتهم بنبأ هذا النصر القريب؛ لأنهم كرهوه كراهةً منهم في كل أهل كتاب، وأحبوا نصر فارس حبًّا منهم لكل عابد وثن، وقال لهم: ليظهرن الروم على فارس! أخبرنا بذلك نبينا … فصاح به أُبَيُّ بن خلف الجُمحي: كذبت يا أبا فصيل! قال الصديق: أنت أكذب يا عدو الله، ودعاه أُبَيٌّ أن يراهنه على عشر قلائص. فعاد إليه يقول: بل على مائة إلى تسع سنين؛ لأنه سمع وعْد القرآن، ووعد القرآن حقيقة عيان، بل أمكن من حقيقة العيان.
ولما تعقب جاسوس المشركين سراقة بن جعشم ركْبَ النبي عليه السلام في الهجرة سمعه الصديق يقول لسُراقة: كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟
فما شك الصديق أن الإسلام غالب الأكاسرة في يوم من الأيام، وأنه منصور على الدين كله كما جاء في الكتاب، وفي حديث صديقه الرسول الأمين.
ذلك كله لا ريب فيه.
سيُنصر الإسلام على الدين كله في يوم من الأيام. ذلك خبر عيان بل أمْكَن من خبر العيان.
ولكن أي يوم! ومتى يحين الأوان؟
هنا تبدأ الرويَّة إلى جانب اليقين، بل تجب الرويَّة على ولي الأمر في الإسلام كما يجب اليقين.
ونعتقد نحن أن الخليفة الأول قد أعطى الروية حقها، كما أعطى اليقين حقه، فما كان أبو بكر بالرجل الذي ينسى الحيطة كلما وجبت الحيطة على ولي الأمر، وهي هنا كأوجب ما تكون.
وحسبنا من ذلك حيطته في حراسة المدينة وتبييت الجند بالمسجد حين تجرد لكفاح أهل الردة، ثم وصيته لخالد بن الوليد — وقد علم حُنْكته في فنون الحرب وقدرته على قيادة الجيوش — فلم يُنسه هذا العلم أن يزوده بالنصح حين خرج لحرب المرتدين، فيدير هذا النصح كله على الحيطة واليقظة كما قال من كلام رصين وجيز: «إذا دخلت أرض العدو فكن بعيدًا عن الحملة؛ فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بأفراد، وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتدْ لك المنازل، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرَّة … وإذا لقيت أسدًا وغطفان فبعضهم لك، وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء ينتظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسْرِهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، سر على بركة الله.»
وأدلُّ من هذه الوصية على الحيطة والاحتراس في كفاح الأجانب وصيته ليزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام حين يقول: «إذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبْثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا تُريِّثْهم فيروا خَلَلَكَ ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قِبَلكَ من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك كعلانيتك فيختلط أمرك … وأكثر حرسك، وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن مَحْرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرها لقربها من النهار …»
ولم ينس قط ما بين جنده وجند العدو الأجنبي من فروق العدة. فكان يعمل في تدارك هذا الفرق ورأب هذا الصدع ما استطاع. فذهب يومًا يتفقد جنده الذين هموا بالخروج لغزو الشام فلم تعجبه عُدَّتهم وسأل من حوله: ما ترون في هؤلاء إن أرسلتهم إلى الشام في هذه العدَّة؟ فقال عمر: ما أرضى هذه العدَّة لجموع بني الأصفر، وقال بقية أصحابه: نحن نرى ما رأى عمر، فكتب إلى أهل اليمن يستكمل العدَّة ويستنهضهم إلى الجهاد ليخفوا إليه بما يسد هذا النقص من جند وسلاح.
فالرجل الذي لا تفوته فائتة من شأن القبائل التي يرسل إليها بعوثه، والرجل الذي يختار القائد فيحسن اختياره، ثم لا ينسى مع ذلك وصيته وتحذيره وإتمام عدته بما يقارب عدَّة عدوِّه، والرجل الذي يقرن ذلك كله بالحيطة في مدينته بما في وسعه ليس هو الرجل الذي يُزْجي البعوث إلى تخوم فارس ولم يأخذ للأمر مثل هذه الحيطة ولم يعمل فيه مثل هذه الروية، وليس بالذي يجازف وله مندوحة عن المجازفة من إرجاء أو مسالمة إلى حين.
وإنما يرجو الغلبة بالقليل على الكثير؛ لأنه يعتمد على «عدَّة الإيمان» ويعلم كما قال ليزيد بن أبي سفيان: «قد نبأنا الله أن الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ذلك ممدكم بالرجال في أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان.»
وإننا لنعلم اليوم أن الصدِّيق لم يجازف قط بتجريد البعوث إلى تخوم فارس والروم، ونعلم أن عوامل النصر كانت كلها أو معظمها في صفوفه، وأن عوامل الهزيمة كانت كلها أو معظمها في صفوف أعدائه.
نعلم اليوم أن الفرس قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمتها الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت نارها التي تعبدها في قلوب أهلها قبل أن تبوخ في معابدها ومشاغلها، وشاع فيهم الخوف من الثبات في القتال حتى قيدوا بعضهم إلى بعض بالسلاسل ليحولوا بين هارب وهربه، وقلت الدربة في قادتهم حتى تخيروا أسوأ المواقع وأسوأ الأوقات للهجوم في معارك كثيرة.
ونعلم أن الروم قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمها ما قد حطم الفرس من الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت عقائدها في صدورها لفرط ما أَرَّثَها من الجدل العقيم والمحال الدميم، واستكانت إلى الذلة زمنًا حتى رضيت بالجزية تؤديها لبرابرة الهون والأبارة، واشتملت على أمم كثيرة تعاديها وتتربص بها الدوائر كلما طمع الطامعون فيها.
نعلم اليوم ذلك من الواقع الذي وقع وبطل الشك فيه، ومن التاريخ الذي تفتحت أمامنا صفحاته وقد زال عنها الحجاب.
ولكنَّ الصديق لم يكن قد رأى هذا الذي رأيناه، ولا تصفَّح هذا الذي تصفحناه، فهل معنى ذلك أنه أقدم بغير علم، وأنه نسي ما طبع عليه من الحيطة والحزم، وأنه سها عن واجب الروية وقد تهيأ له واجب اليقين؟!
لا، فإن الذي كان يعلمه الصدِّيق قد كان يكفيه ويغنيه عن هذا الذي علمناه.
كان يعلم أن الفرس قد خسروا قبل الإسلام وقعة ذي قار وهم أقوى صولة، والعرب أضعف شأنًا من شأنهم بعد الإسلام.
وكان يعلم أن الروم قد صبروا على بعثتين عربيتين بلغتا من بلادهم إلى التخوم، وأوغلتا في بعض الأطراف، ثم فترت همتهم عن مقابلة ذلك بالقمع والقصاص السريع.
وكان يعلم أن العرب إن طلبوا الدِّين حاربوا صادقين في القتال، وإن طلبوا الدنيا حاربوا صادقين في القتال، وأنهم موعودون بالنصر ومؤمنون بصدق الوعد ومقبلون بنفوس تحب الموت كما يحب أعداؤها الحياة، وأنهم خفاف لا تثقلهم العُدد محميون من وراء ظهورهم بالصحراء إن وجبت الرجعة، مُقْدِمون على أرض خبرتها طلائعهم وهوَّنت عليه خَطْبهم، وأبلغته من أخبارِ فِتَنها ومفاسدها ما يملي له في الإيمان بالقدرة عليها.
فإذا علم هذا فهو حسبه من الروية مقرونًا بذلك اليقين الذي لو سها عن كل روية لكان له بعض العذر، وكان به جُل الغَنَاء.
•••
وفي أقل من ثلاث سنوات قصار أنجز ما أنجز من تلك المآثر الطوال … وفي أقل من ثلاث سنوات أنفذ بعثة أسامة وفي سبيلها ما فيه من صعاب، وقَمَع الردَّة وحولها ما حولها من خطر، ووطئ حدود فارس والروم ولها ما لها من هيبة ومنَعة؛ ثلاثة أركان للدولة الإسلامية لم يكن ليقوم لها ركن قبل أن تقوم، ولو أنها حُسبت لثلاثين سنة — ولم تحسب لثلاث سنوات قصار — لجلَّلتها جميعًا بالثناء والفخار.
ولم يتسع الزمن لإقامة نظام للدولة الإسلامية في عهد أبي بكر على مثال النُّظم السياسية والإدارية التي تقام للدول الكبار في حداثة نشأتها. أو لعل المسألة هنا ليست مسألة اتساع الوقت وضيقه في عهد الخلافة الأولى، ولكنها مسألة الحاجة إلى تلك النظم وقلة الحاجة إليها، ففي عهد الخليفة الأول بعد النبي عليه السلام لم يطرأ على إدارة الدولة الإسلامية ما يدعو إلى نظام جديد غير النظام الذي كانت تجري عليه عهده عليه السلام؛ لأن الجزيرة العربية عادت بعد حروب الردة إلى مثل ما كانت عليه في أيام النبوة، ولأن الأرجاء الأجنبية التي زحفت عليها بعوث المسلمين لم تزل إلى آخر خلافة الصدِّيق في دور الغزو والفتح، ولم تبلغ بعد إلى دور التوطيد والتنظيم، فكل ما جرى عليه النظام في أيام النبوة، فقد كان صالحًا للاتباع في أيام الخلافة الأولى، وههنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في إسناد الخلافة الأولى إلى أصلح الناس لمتابعة العهد النبوي على حاله الذي كان عليه. حتى إذا حان وقت التوسع والتصرف وجد الوقت من هو أصلح وأقدر عليه، وكأنه كان معروفًا من قبل موكولًا إلى حينه الذي يترقبه ويستدعيه، ولن يكون إلا عمر بن الخطاب كما سماه عليه السلام حيث قال: «أُريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين نزعًا ضعيفًا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعَطن.»
•••
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الأداة الحكومية — أو الإدارية — لم تكن في عهد الصديق محتاجة إلى نظام غير النظام الذي اتخذه النبي عليه السلام، واكتفى به في إدارة الشئون العامة بمكة والمدينة والجزيرة العربية، مع التعديل الذي اقتضاه توزيع العمل وتفرقة العبء الكبير بعد وفاة النبي، وغياب المرجع الأعلى الذي ترتفع إليه جميع الأمور.
فتولى بيت المال رجل سماه النبي عليه السلام «أمين الأمة» وهو أبو عبيدة بن الجراح، وتولى القضاء رجل لم يشتهر أحد بالعدل اشتهاره وهو عمر بن الخطاب، وتولى الكتابة كاتب النبي عليه السلام زيد بن ثابت، وكانت ولاياتهم أقرب إلى الارتجال والتداول منها إلى التكليف الدائم والعمل المرسوم.
وكان قادة الجند يفتحون البلدان ويقيمون فيها الولاة والقضاة على النحو الذي ألفوه في الجزيرة العربية، ومن عرضت له مشكلة من مشكلات الإدارة في بلد أجنبي تركها على النحو الذي كان مألوفًا في ذلك البلد، إلا ما كان فيه خلاف للدين.
إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله ﷺ ولَّاكه مرة، وسماه لك أخرى: مبعثك إلى عمان، إنجازًا لمواعيد رسول الله ﷺ، فقد ولِيته ثم ولِيته، وقد أحببتُ — أبا عبد الله — أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
وأشار عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد بعد أن قتل مالك بن نويرة على غير بَيِّنة قاطعة في رأي عمر، وتزوج بامرأته في ميدان القتال وهو أمر تكرهه العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام. فاختلف الفاروق والصديق اختلافهما الذي يرجع من كل منهما إلى أصل أصيل في الطباع والنظر إلى الأشياء والرجال: والفاروق وديدنه أن يوقع الجزاء بمن يستحقه كائنًا من كان، والصديق وديدنه أن يتألف ويستبقي ولا يبتدئ شيئًا بغير سابقة، وساعده على إبقاء خالد سابقة للنبي عليه السلام معه في حرب بني جذيمة. فإنه تعجل يومئذ في قتل بعض الأسرى فودَاهم النبي عليه السلام حتى رد إليهم مَيْلَغة الكلب، ورفع يديه يبرأ إلى الله مما صنع خالد، ولكنه لم يعزله من الإمرة أو القيادة. فكانت هذه السابقة أمام الصديق يوم لامَ خالدًا على ما بدر عنه ثم أبقاه.
وما من شيء يدل على تكافؤ العظمة بين الرجلين، كما تدل عليه الحجة التي يعتمد عليها كل منهما حين يختلفان. فما اختلفا قط بحجة تضعف من ناحية، وحجة تقوى من الناحية الأخرى، بل كان لكل منهما حجته الناهضة فيما يجنح إليه، وإن كانت هذه حجة اقتداء، وهذه حجة ابتداء.
جاءت الغنائم والأنفال إلى بيت المال لتوزيعها بين من يستحقونها من الرجال والنساء. فكان الفاروق يجنح إلى تمييز الأنصبة على حسب المآثر والأقدار، وحجته أنه لا يُسوِّي بين من قاتل رسول الله، ومن قاتل مع رسول الله، وكان الصديق يجنح إلى التسوية بين الأنصبة بغير تمييز، وحجته أن «الأعمال شيء ثوابه على الله، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثَرة.»
وما اختلفت حجة الابتداء وحجة الاقتداء — أو ترك الابتداء — كما اختلفت هاتان الحجتان على مساواة في النهوض والإقناع.
وقد جرى الصديق في سياسة الدولة على سنة النبي عليه السلام من مشاورة ذوي الرأي والثقة في كل ما جلَّ أو دعا إلى السؤال، ولكنه كان يستقل بالرأي حين تكون التبعة فيه تبعته دون غيره، كما استقل بالرأي في اختيار الخليفة من بعده، واستقام له بعد المشاورة والروية أن يعهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب.
فخلاصة ما يقال في سياسة الصديق للدولة الإسلامية على عهده أنها كانت سياسة المقتدي المقتدر الفعال الذي يصغي إلى النصح ممن يرون التصرف والتمييز والابتداء، ولم يكن قط مقتديًا على ضعف وتواكل وإلقاء بالتبعة على غيره، بل ربما اقتدى ليعمل ما هو أصعب وأعضل وأنهض بالتبعة من أعمال المتصرفين.
وإذا حُسبت لأبي بكر بعوث أسامة، وبعوث الردة، وبعوث فارس والروم، فلا بد أن يحسب له عمل آخر لا يدخل في باب البعوث، ولكنه أقوم للدولة الإسلامية من جميع هذه البعوث؛ لأنه دستور هذه الأمة التي لم تقم لها قائمة بغيره، وهو جمع القرآن.
وقد كانت سُنَّته في جمع القرآن سنته الواضحة التي لا مَحِيد عنها: وهي سنة الاقتداء والإصغاء إلى القويم من الآراء. فلمَّا مات من مات من حُفاظ القرآن في حروب الردة وخيف على من بقي منهم أن تأتي عليهم حروب فارس والروم كَبُر الأمر على عمر فأشار على الخليفة بجمع القرآن. فأحجم بادئ الرأي، وهو يقول: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟ ثم انشرح صدره لما أشار به عمر فتجرد له بجميع عزمه؛ وانقضت خلافته على القول الأشهر، والقرآن مجموع مفروغ من كتابته في المصاحف كما نقرؤه الآن.
وكانت الدولة الإسلامية بهذه المثابة أمانة أعْظِمْ بها من أمانة تنوء بها كواهل الرجال. يقول من شاء ما شاء في دراسة هذه الفترة الخالدة، إلا شيئًا واحدًا لا يقوله عارف بما يقول، وهو أن أحدًا كان يتلقَّى تلك الأمانة خيرًا من تلقيه أو يسلمها خيرًا من إسلامه، منذ أن تلقاها بيد من النبي عليه السلام حتى أسلمها بيد إلى عمر بن الخطاب.