الصِّديق وَالنَّبي وصحبُه
سئل النبي عليه السلام: يا رسول الله: أي الناس أحب إليك؟
قال: عائشة.
قالوا: إنما نعني من الرجال.
قال: أبوها.
وكان عليه السلام يقول: ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة.
ويفسر ذلك قوله عليه السلام: ما أحدٌ أعظم عندي يدًا من أبي بكر: واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته.
وكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ.
وهذه حقيقة لو لم يؤيدها لسان المقال لأيدها ما يسمونه بلسان الحال. فإن أبا بكر كان ألزم الناس للنبي وأعرفهم بسره وجهره وأقربهم إلى ثقته وحسن رأيه، وكان النبي عليه السلام يسمر عنده في شئون المسلمين ويركن إلى مشورته في كثير من الأحايين، وإذا بلغ من شأن رجل أن يكون أحب الناس إلى النبي عليه السلام فهو أهل لحبه وأهل لثقته لا مراء؛ لأن هذا الحب في النفوس العظيمة قرين الثقة والتقدير لا يخلو منهما ولا ينفصل عنهما، فمن استحق منها الحب الراجح فقد استحق عندها الثقة الراجحة في آن.
فلم يكن حب النبي أبا بكر حب الرجل يجزي به من يحبه ويخلص له ويوليه الجميل من ذات نفسه وماله ثم لا مزيد. ولكنه كان كذلك حب الرجل من يستحق منه الحب لفضيلته وكفايته واقتداره على معونته فيما تجرد له من عمل عظيم لا يضطلع به كل معين.
وحين قدمه للإمامة من بعده لم تكن وسيلته إليها حب الإخلاص والجزاء، بل كانت وسيلته إليها حب الثقة والروية وحب الدعوة التي تجرد لها وحب المسلمين الذين آمنوا بتلك الدعوة. فإن نبيًّا كمحمد عليه السلام لا يجعل مستقبل دينه مكافأة لصداقة إنسان، وإنما يكِلُ هذا المستقبل لمن هو أهل لأمانته وأقدر على صيانته، وهو من أجل ذلك أهل للحب وأهل للبُقيا والادخار.
أما حب أبي بكر محمدًا فهو كما قدمناه حب الإيمان والإعجاب والولاء، وهو الحب الذي تهون فيه على المرء نفسه وماله وذووه، وينزعه من ماضيه ليستولي على حاضره كله وما هو أعز عليه من الحاضر وما فيه، وهو الأمل فيما يشهد والأمل فيما وراء الغيب، بل الأمل في حياة لن تبيد.
فمنذ اللحظة التي انعقدت فيها الصداقة بينهما رضي الصديق الأمين أن يسخو في سبيل هذه الصداقة بكل نفيس عنده وكل أثير لديه وأنفق ماله وفارق وطنه وأبناءه وهاجر من مكة مخاطرًا بحياته، فما همَّه وهو محفوف بالخطر في طريقه إلا صاحبه الذي معه يفديه بما وسعه من فداء؛ ليسبقه تارة ويخلفه تارة أخرى ليدرأ عنه الشر من حيثما توقعه واتقاه، ثم يقيم على هذا العهد ما أقام في دنياه، غير باخل بعزيز، ولا ناكص عن محذور ولا نادم على مبذول أو مفقود.
ومن فضول القول أن يقال: إنه أقام على عهده هذا بعد موت النبي، كما أقام عليه طوال حياته، فكل حركة تحركها وكل كلمة قالها شهيد بذلك له عند من ينصف ويعقل، بل عند من يعقل ولو لم يكن من المنصفين.
إذ ليس من العقل أن يقدح قادح في ولاء الصديق للنبي بما حرَم فاطمة رضي الله عنها من ميراث أبيها. فلئن حرمها لقد حرم عائشة مثلها؛ لأن الأنبياء في شرعة محمد لا يورثون، وما أراد أبو بكر أن يضن بميراث محمد على وارثيه ومنهم بنته وأحب الناس إليه، ولكنه أراد أن يضن بدينه ويضن بوصاياه، وهي أولى أن تصان من المال ومن البنين، كذلك لا يقال: إنه حرم عليًّا رضي الله عنه حقًّا في الخلافة، فما كان في وسعه أن يحرمه شيئًا لو كان عليه السلام قد وصَّى له بشيء، وما كانت فاطمة بغائبة عن سرير أبيها في مرض موته فيقال: إنهم قد كتموا عن النبي بعض ما قال، ولا كان عليٌّ بالذي يعوزه المنطق لو أنه أراد البرهان من القرآن الكريم أو أراد الحجة من الحديث الشريف. ومن أين لأبي بكر تلك القوة التي ينتزع بها الخلافة انتزاعًا من آل النبي ومن الأنصار والمهاجرين بغير حجة وبغير برهان؟ لئن استطاع ذلك غير محتال ولا مغتال ولا سافك دم لكفى بذلك آية له أنه أحق المسلمين بولاية أمر الإسلام وأقدرهم عليها، وما استطاعه بعد ذلك من تثبيت الدين وقمع الفتنة وافتتاح الدولة لهو الآية بعد الآية والتمكين فوق التمكين.
لقد حدث بعد النبي ما لا بد أن يحدث، وما ليس بكثير أن يحدث في موقف مقتضب لم يُمهَّد له بسابق متبوع ولا بقدوة مأمومة، فتأخر عليٌّ على المبايعة أشهرًا وقيل: إنه لم يتأخر غير أيام بل ساعات، فلا هو ولا أبو بكر صنعا ما يعاب في هذه الفترة طالت أو قصرت؛ لأن أبا بكر كان يندب عليًّا للمهمات في حراسة المدينة وعليٌ كان يلبي ندبة أبي بكر تلبية الصدق والنجدة. ولو صح أن أبا بكر أخفى حقًّا يشينه إخفاؤه لما أقرَّ عليٌّ له ببيعة، ولا رضي له ولا لمن بعده بصحبة، فكيف لو صح ما تهوَّس به بعض المتهوسين من إخفاء آيات من القرآن أو كلمات من الحديث؟
جهد ما يقال في أحداث تلك الفترة أنها مدعاة أسف لا يؤسى عليها؛ لأنها أقل ما يؤسف له إلى جانب الغبطة التي يغتبط بها من أحاط بالموقف وأحاط بدواعي الخطر فيه ودواعي السلامة منه.
أما عهده لعمر من بعده فلا محل هنا للموازنة بين استخلاف عمر واستخلاف علي في تلك الآونة، ولكننا نقول: إن الصديق قد جهد في مسألة العهد جهد رأيه، وإنه كان يود أن يكل الأمر إلى المسلمين يختارون مَن يشاءون، فجمع إليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: «… قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.»
فلم يستقم لهم أمر كما جاء في رواية الحسن البصري، ورجعوا إليه يقولون: «إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك» فاستمهلهم حتى «ينظر لله ولدينه ولعباده.»
ثم استقر رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن الحضير.
وسأل عليًّا فقال: «عمر عند ظنك به ورأيك فيه، إن وليته — مع أنه كان واليًا معك — نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل، فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير.»
وأملى أبو بكر كتاب العهد على عثمان بن عفان فكتبه وختمه وخرج به مختومًا ونادى في الناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ … وقيل إنَّ أبا بكر أشرف من كُوَّته فقال: «يا أيها الناس! إني قد عهدت عهدًا أفترضونه؟ فقالوا: رضينا يا خليفة رسول الله. وقام عليٌّ فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر.»
ثم كانت البيعة التي أجمع عليها المسلمون.
•••
فالمسألتان اللتان حسبتا من قبيل الخلاف بين الصديق وعِترَة النبي عليه السلام هما هاتان المسألتان: الميراث والخلافة.
ففي مسألة الميراث ما كان له أن يُبرم فيها غير ما أبرم وقد علم أن النبي لا يورث كما قال عليه السلام، وكان حكم عائشة في هذا كحكم فاطمة رضي الله عنهما، وقد حضرته الوفاة وهو يوصي عائشة أن تنزل للمسلمين عما وهب لها من ماله، وإنه لحل لها بالهبة والميراث.
وفي مسألة الخلافة لا تحمد المجاملة حيث تكون المجاملة إخلالًا بالذمة التي بينه وبين ربه، وإخلالًا بالوحدة الإسلامية ومصالح المسلمين مجتمعين.
وفيما عدا هاتين المسألتين لم يكن من أبي بكر في حق علي وفاطمة إلا أحسن المجاملة والإجمال، ولم يكن منه تقصير قط في تعهد البيت النبوي بما يصون وقاره، ويحمي جواره، بل كان منه في حق أهل البيت كل ما يُرضي ويريح.
وجرى أبو بكر في معاملته لصحابة النبي على طبعه الذي فطر عليه، وهو الرفق والمروءة والحياء، فأحسن صحبتهم وأثبت لهم ما أثبته النبي لهم في حياته، ولم يكن منه في حقهم ما يشكونه إلا ما شكا منه بعضهم حين التسوية بينهم وبين العبيد والنساء في حصة بيت المال، وذلك رأي له قدمنا حجته فيه، فأقدارهم عند الله يجزيهم عليها الله، وهذا معاش تحسن فيه المساواة بين الناس.
وكان أقربهم إليه وأجمعهم لثقته وحسن ظنه عمر بن الخطاب؛ عرفه على حقيقته التي جهلها بعض الصحابة، وعرف ما في باطن نفسه من رحمة تخفيها خشونة ملمسه وشدته في عمله. فلما سأل عنه عبد الرحمن بن عوف أجابه: «إنه أفضل من رأيك فيه، ولكن فيه غلظة» فقال عن خبرة به: «هو كذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضي الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو فيه.»
وقد آثر أبو بكر أن يبقى عنده نخبة الصحابة في المدينة فلا يقصيهم في الولايات ولا يفرقهم بين الأقطار؛ لأنهم أحق الناس أن يستشيرهم ويرجع إليهم ويشركهم معه في رقابة العمال والولاة، وسئل في أهل بدر: لم لا يوليهم عملًا فقال: أكره أن أدنسهم بالدنيا، ولعله يريد بالتدنيس تعريضهم لفتنة الدنيا وشهوة الحكم وغواية المال والمتاع.
ولا ندري على التحقيق أي الصاحبين كان صاحب الفكرة الأولى في هذه السياسة التي اتفقا عليها ولم ينحرفا عنها قط في عهديهما إلا لضرورة نادرة. ونعني بها سياسة الإقلال من إسناد الأعمال إلى كبار الصحابة.
فعمر كان مشتدًّا في اتباع هذه السياسة حتى ليخطر على البال أنه هو صاحب الفكرة السابقة فيها، وكان أبو بكر يخالفها حينًا فيحاول عمر أن يرده إليها. قال: «لما خرج معاذ بن جبل إلى الشام أخلَّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى عليَّ، وقال: رجل أراد جهادًا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه.»
إلا أن أبا بكر كان يحاذر انطلاق بعض الصحابة محاذرة الرجل الذي امتلأ بيقين رأيه ولم يستمده من مشورة غيره. فلم ينس أن يحذر عمر هذا التحذير في وصيته إياه بعد استخلافه حيث قال: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله ﷺ الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه، وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله …»
وفاض هذا الرأي من لسانه حين أحس من بعض المهاجرين طمعًا في الاستخلاف دون عمر بن الخطاب، فقال لعبد الرحمن بن عوف وقد دخل عليه يعوده: «… ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشدُّ علَيَّ من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورمَ أنفُه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولمَّا تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. ثم أنتم غدًا أول ضالٍّ بالناس يمينًا وشمالًا، لا تضيعوهم عن الطريق. يا هاديَ الطريق جُرْتَ!»
فهذا كلام رجل ممتلئ النفس باليقين مما يقول، فليس هو برأي انتقل إليه من غيره استحسنه وارتضاه، ولكنه — فيما نرجح — رأي اتفقا عليه وقلباه بينهما فازداد كل منهما يقينًا به فوق يقين.
•••
على أن هذه النصائح القوية بين يدي الموت تكشف من حياة أبي بكر ما ليست تكشفه الأخبار المطولة والأقوال المستفيضة، فهي تشهد له أنه قد سار في حياته تلك السيرة التي يريدها من الصحابة ويحث عليها أناسًا في منزلة عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب، وأن تلك السيرة كانت من البدائه المعروفة التي يصدر عن صاحبها النصح فيسمعه أمثال هذين الصحابيين الكبيرين. وقد كانت هذه في الواقع منزلة أبي بكر بين الصحابة عامة وخاصة: استحقها بينهم بسابق إسلامه وقديم صحبته للنبي صلوات الله عليه، واستحقها برياضة نفسه على الكرامة والوقار حتى امتلأت النفوس حوله بكرامته ووقاره، ولم يكن أحد غير أبي بكر يُسكت عمر بن الخطاب وقد ثار ثورته بعد موت النبي، أو يسكته وقد نهض للكلام أول مرة في سقيفة بني ساعدة، وما أسكته يومئذ لأنه خليفة فما كان يومئذ بالخليفة ولا كان عمر بالذي تسكته هيبة منصب أو سطوة سلطان، ولكنه رجل وقور يستمع له رجل حق. وناهيك بمن يهابه عمر بن الخطاب! إنه لأحق امرئ بين الصحابة أن يهاب.