أدب المقالة
إن مُعظَم النار من مُستصغَر الشرر؛ ذلك ما قرأته في الكتب وما تعلَّمته من تجربة الحياة، وهو ما أجرى القلم بهذه الكلمات؛ فليس بعيدًا أن يُنبِّه هذا القلم المُتواضِع — الذي لا يكاد صريره يبلغ سمع صاحبه — أديبًا واحدًا من أئمة الأدب في هذا البلد، فيتَّجه وجهة جديدة في كتابة المقالة الأدبية.
فالمقالة تُوشِك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصبُّ فيه الأديب خواطره ومشاعره؛ فأديبنا قصير النفَس، تكفيه المقالة الواحدة ليُفرِغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجَّج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأسه من فكرة؛ فإن غضب أديبنا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصبُّ فيها ثورة غضبه؛ وإن افتتن أديبنا بجمال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبثُّ فيها ما أحس من عجَب وإعجاب. أما الأديب الذي يريد أن يُعالِج بؤس البائسين فينشر في الناس القصة تلو القصة حتى يبلغ ما ينشره ألوف الصحائف كما فعل «دكنز»، أما الأديب الذي يعطف على العمال فيكتب في ذلك للمسرح الرواية في إثر الروية كما فعل «جولزورثي»، أما الأديب الذي يتلقَّى خطابًا من قارئة تستفسره الاشتراكية فيرُد على الرسالة بمجلدين، كما فعل «برناردشو»، أما الأديب الذي يرى علاج الإنسانية في حكومة دولية تُمسِك بزمام العالم كله فيكتب في ذلك كتبًا تزيد على الخمسين كما فعل «ولز»؛ مثل هذا وذلك من الأدباء لم تشهده مصر، فبؤس البائسين علاجه مقالة، والعمال تكفي لنصرتهم مقالة، وحل المشكلات الدولية حسبه مقالة.
فالمقالة إذن هي عندنا مَلاذ الأديب، الذي ليس له من دونها مَلاذ، ولا بأس بهذا لو كانت المقالة الأدبية في مصر أدبًا تعترف به قواعد الأدب الصحيح؛ ولكن الأديب المصري يكتب المقالة التي لو قيست بمعيار النقد الأدبي لطارت هباءً، ولأغلقت دولة الأدب من دونها الأبواب، وإنما قصدت بمعيار النقد ما يكاد يُجمِع عليه النُّقاد من أدباء الإنجليز.
فهم هنالك يقولون: إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يُحِسه الأديب مما يُحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل يجب أن يكون سخطًا مما يُعبِّر عنه الساخط بهزة في كتفيه ومطٍّ في شفتيه، مُصطبَغًا بفكاهة لطيفة، لا أن يكون سخطًا مما يدفع الساخط إلى تحطيم الأثاث وتمزيق الثياب، هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة، هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح؛ فإن تضرَّمت في نفس الأديب ثورة كاسحة جامحة، فلا يُجيز له نقَدة الأدب أن يتخذ المقالة مُتنفَّسًا لثورته، وليسلك — إن أراد — سبيله إلى المنابر يُلقِي ثورته في موعظة؛ لأنها تحتمل من الواعظ أعنف ألوان التقريع، أو ليلتمس سبيلًا إلى القصيدة — إن كان شاعرًا — لأن القصائد لا تتنافر بطبعها مع الحماس المُشتعِل.
شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقمًا، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكُّه الجميل؛ فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المُستساغة فلم تُصِبه؛ فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكُن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة؛ وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية «أَدِسُنْ» ما كتب، فلن تجد إلا مازجًا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.
نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه مُحدِّثًا لا مُعلِّمًا، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يُسامِره لا أمام مُعلِّم يُعنِّفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلًا مُخلِصًا يُحدِّثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفًا وتيهًا بورعه وتقواه، أو موقف المُؤدِّب يصطنع الوقار حين يصبُّ في أذن سامعه الحكمة صبًّا ثقيلًا؛ نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليُمتِّعه بحلو الحديث، لا أن يُحِس كأنما الكاتب قد دفعه دفعًا عنيفًا إلى مكتبته ليقرأ له فصلًا من كتاب!
لهذا كله يشترط الناقد الإنجليزي في المقالة الأدبية شرطًا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يُقِرونه عليه؛ يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق، أن تكون أقرب إلى قطعة مُشعَّثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المُنسَّقة المُنظَّمة، ويُعرِّف «جونسون» — ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذروة العليا — يُعرِّف المقالة فيقول: إنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتمَّ هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المُنظَّم من المقالة الأدبية في شيء.
أين هذا من المقالة الأدبية في مصر؟ لقد سمعت أديبًا كبيرًا يسأل أديبًا كبيرًا مرة فيقول: هل قرأت مقالي في هلال هذا الشهر؟ فأجابه: أن نعم، فسأله: وماذا ترى فيه؟ هل تراني أهملت نقطة من نقط الموضوع؟ فأجابه قائلًا: العفو، وهل مثلك من يُهمِل في مقالة يكتبها شاردةً أو ورادة؟! هذه هي المقالة عند قادة الأدب: أن تكون موضوعًا إنشائيًّا مدرسيًّا، كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق في الكم لا في الكيف؛ فلله درُّك يا مُعلِّم اللغة العربية في المدارس المصرية! إنك لتتعقَّب بتأثيرك شيوخ الكتاب بين كتبهم وأوراقهم، كأني بك تضغط على أذن الكاتب بين إبهامك وسبابتك حين يحمل قلمه ليكتب، مُذكِّرًا إياه: هل وفَّيت نقط الموضوع؟ أين نقط الموضوع؟!
كلا، ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها، نقط ولا تبويب ولا تنظيم؛ فإن كانت كذلك، فلا عجَب أن ينفر القارئون — يا أيها الأدباء — من قراءة ما تكتبون! لا تعجبوا يا قادة الأدب المصري ألا يقرأكم إلا قِلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تُصِرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المُعلِّم لا الزميل، موقف الكاتب لا المُحدِّث، موقف المُؤدِّب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصِل نفسه بنفسه؛ وإلا فحدِّثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟
أرأيت كيف يتحدث الصديق إلى صديقه عن حادثة شهدها في عربة الترام وهو في طريقه إليه؟ أرأيت كيف يُلاحِظ الصديق لصديقه إذ هما يسيران ملاحظةً من هنا وملاحظة من هناك حول ما يقع عليه البصر؟ انقل هذا بيَراعة الأديب وبراعته يكُن لك منه مقالة أدبية من الطراز الأول؛ أما أن تُعلِّم القارئ فصلًا في عوامل سقوط الدولة الأموية أو في أسباب انحلال المجتمع وما إلى ذلك من فصول؛ فذلك مُفيد على أنه درس علمي، ونافع في عرض اطلاعك الواسع، ومُثقِّف للقارئ كما يُثقِّفه فصل من كتاب، ودافع إلى الفضيلة على أنه موعظة منبرية؛ ولكن لا تطمح أن تكون أديبًا بما تكتب من أمثال هذه الفصول والأبواب، فلن تكون بأمثالها في دولة الأدب قزمًا ولا عملاقًا، أنت بهذه الفصول عالم ولست بأديب، أنت بها قارئ ولست بكاتب، وفضلك أن نقلت إلى القُراء ما قرأت، وإنه لفضل عظيم؛ ولكنه شيء والأدب الخالص شيء آخر.
فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعجُّ به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يُسلِم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المُتقاطِرة صورةٌ، عمد الكاتب إلى إثباتها في رَزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يُمعِن في القراءة كأنما هو يُسرِّي عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يُزجِّي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلَّل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية؛ فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبيَّن أن هذا الذي عجِب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيُضجِره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمَر منها إلى التعليم والتلقين؛ وجب أن يكون أسلوبها عذبًا سلسًا دفاقًا. أما إن أخذت تَشذِب أطراف اللفظ هنا وتُزخرِف تركيب العبارة هناك؛ كان ذلك متنافرًا مع طبيعة السمَر المُحبَّب إلى النفوس؛ هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مُجرَّد، كأن تبحث مثلًا فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس والتربية؛ لأن ذلك يُبعِدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، إذ لا بد — كما ذكرنا — أن تُعبِّر قبل كل شيء عن تجربة مُعيَّنة مسَّت نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قُرائه؛ ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدًّا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة؛ تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
ولما كانت المقالة إنما تتكئ على ظاهرة مطروقة معهودة في الحياة اليومية لتنفذ خلالها إلى نقد الحياة القائمة نقدًا خفيًّا يستره غطاء خفيف من السخرية، ولما كانت كذلك تسلك في التعبير أسلوبًا سلسًا مُشرِقًا؛ فقد يُظَن أحيانًا أنها ضرب هيِّن من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية. والواقع على عكس ذلك؛ لأن أرفع الفن هو ما خفي فنه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة القصة والقصيدة! وما أقل من يُجيد كتابة المقالة؛ وشأن الذي يستخفُّ بما تطلبه المقالة من فن كشأن الذي يظن أن الشعر المُرسَل أيسر من القصيد المُقفَّى، ولعل عسر المقالة ناشئ من أنها ليس لها حدود مرسومة يحفظها المُبتدئ فينسج على منوالها كما يفعل في القصة أو القصيدة.
إن الذي أريد أن أُؤكِّده مرة أخرى هو أن المقالة الأدبية لا بد أن تكون نقدًا ساخرًا لصورة من صور الحياة أو الأدب، وهدمًا لما يتشبَّث به الناس على أنه مثلٌ أعلى، وما هو إلا صنمٌ تخلَّف في تراث الأقدمين. أما إن كان الفصل المكتوب بحثًا رصينًا مُتسِقًا فسمِّه ما شئت؛ فقد يكون علمًا، وقد يكون فصلًا في النقد الأدبي، وقد يكون تاريخًا أو وصفًا جغرافيًّا كتبه قلم قدير؛ ولكنه ليس مقالة أدبية، كما أنه ليس بقصيدة ولا قصة.