قُصاصات الزجاج
بإحدى الكنائس في إنجلترا نافذة أبدعتها يدٌ صَنَاع، فجاءت آيةً من آيات الفن الروائع تحفة للزائرين؛ اتَّسقت ألوانها، وأُتقِنت تصاويرها، وبلغت في كل شيء حد الكمال؛ ويقُص عليك الدليل أنه لما بُنيت الكنيسة جيء لزخرفتها بفنَّان طبَّقت شهرته الخافقَين في الفن الجميل، واستصحب الأستاذ صبيًّا كان يُلازِمه ليتلقَّى عنه أصول الفن، وأخذ الأستاذ الفنَّان في زخرفة النوافذ، ورُصَّت أمامَه ألواح الزجاج ألوانها شتَّى، يَجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة، ويُرشِد الغلام إلى قواعد الفن في صناعته كلما وضع في النافذة قطعة من زجاج؛ فهنا مُربَّع أزرق وإلى جانبه حلقة حمراء، وصورة القديس هنا، وهنا صورة العذراء. وكان الأستاذ خلال ذلك يقذف بقُصاصات الزجاج غير مُبالٍ بها، فينثرها يمينًا ويسارًا، والغلام من ورائه يجمع هذه القُصاصات ليُلقي بها حيث تُؤتمن العواقب.
لكن الغلام فنَّان موهوب، فلم يُلقِ بقُصاصات الزجاج حيث تُلقى سائر الفضلات؛ بل أخذ يلهو بها في سُوَيعات فراغه حتى كانت له في النهاية نافذة رائعة بارعة هي التي يقِف عندها الزائرون اليوم ليقُص عليهم الدليل قصتها، ويحكي أنه لما فرغ الصبي من نافذته أطلع عليها أستاذه: ما هذا الذي أرى؟
– نافذة صنعتها.
– وأنَّى لك الزجاج؟
– قُصاصات جمعتها.
ورأى الأستاذ في نافذة الغلام فنًّا لا يُقاس إليه فنه، وكبُر عليه الأمر فانتحر.
ذكرت قصة هذا الغلام الفنَّان ونافذته، إذ كنت جالسًا أمام مِدفأتي ليلة أمس، وحيدًا في غرفتي، والدنيا من حولي صامتة لا تسمع فيها صوتًا ولا حركة؛ فاتَّخذت منها نقطة ابتداء وتركت خواطري تَتْرى خاطرًا في إثر خاطر.
فخطر على ذهني أول ما خطر مُؤرِّخ فنَّان أقرب ما يكون شبهًا في كتابته للتاريخ بذلك الغلام في صناعته للنافذة، فقد كانت نافذته التي صنعها قَصصًا تاريخيًّا هو أحلى ما جرَت به يراعة على قرطاس، وكانت قُصاصاته التي صنع منها نافذته نُتفًا من الأخبار والحوادث تساقَطت من بين أصابع الذين احترفوا كتابة التاريخ، إذ قصَر هؤلاء أنفسهم على الحوادث الضخمة والرجال الأعلام، ونفضوا عن أسنَّة أقلامهم عامة الناس يمينًا وشمالًا؛ فمن ذا تعنيه قصة حمَّال اعترك مرة مع جاره الحمَّال وساد بينهما الود مرة، بقدر ما تعنيه الرءوس المُتوَّجة تختصم آنًا وتتهادن آنًا؟ من ذا تعنيه قصة امرأة عجوز أحبَّت قطتها أو كلبها، بقدر ما تعنيه الأميرة ملأت شِغاف قلبها بحب الأمير؟ لكن صاحبنا المُؤرِّخ الفنَّان لم يُرضِه أن يُلقي بهذه القُصاصات في تراب الرفوف، فنقَّاها وصفَّاها وسوَّاها قِصصًا هي هذه التي تقرؤها فتُمتِّعك وتفتنك؛ لم يَبهَره الملوك في قصورهم ولا القادة في حومات القتال إلا بمقدار ما يكون هؤلاء الملوك والقادة بشرًا من البشر؛ وكان من رأيه أن صولجان الملك قد لا يُثير الخيال بمِقدار ما يُثيره مِحراث الفلاح، ولذلك ترى مادته البشرية في قصصه هي هذا الزارع الصغير وهذا الصانع وهذا البائع وهذا الجندي وهذه الفتاة الريفية الساذجة؛ فمن هؤلاء تتكوَّن لُحمة الحياة وسُداها. وإنه لمن فضل الله على عباده أن جعل بينهم قدرًا مُشترَكًا لا يملكون أن يُخضِعوه لهذا التفاوُت الذي فرضوه على أنفسهم فرضًا في شتَّى نواحي العيش؛ فالفتاة الريفية تُحِب فتاها كما تُحِب الأميرة أميرها، وتحزن زوجة الأجير على ولدها إذا أصابه الرَّدى كما تحزن على ولدها زوجة الوزير؛ فالحمد لله الذي جعل الناس يضحكون ويبكون على غرار واحد، ويجوعون ويشبعون ويرضون ويسخطون على نسق واحد، ويفتقرون إلى الله ويعبدونه بأسلوب واحد؛ وأدرك مُؤرِّخنا الفنَّان هذا القدر المُشترَك وعرف له وزنه وقيمته، فجمع قُصاصاته التي ألقى بها بين المُهمَلات، ومن هذه القُصاصات صنع آياته الخالدات.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
طافت بذهني عشرون عامًا مضت على صديق لم يكَد يخلو فيها إلى حياته أسبوعًا واحدًا، وأوشك ألا يمضي يوم خلالها دون قراءة وكتابة يُثقِّف بهما نفسه ومن حوله من الناس، فكان إنتاجه بمثابة النافذة صنعها من قُصاصات؛ هي سُوَيعات الفراغ التي أبقتها له الدولة بعد أن استأجرت مُعظَم وقته لقاءَ بضعة قروش رآها أولو الأمر ثمنًا عادلًا له في سوق البيع والشراء، وكأنما هاضَ صديقي هذا ذلك الجهد الثقيل فأقعده بينما كانت القافلة في مَسير، أو رأى نفسه يمشي في طريق وقافلة الناس في طريق آخر؛ هي ماضية من جنوب الأرض إلى شمالها وهو سائر من الشمال إلى الجنوب، رأى نفسه هابطًا وأنداده في صعود، وأوفى هؤلاء الأنداد صداقةً من كان يُلقي نظرة إشفاق وهو عابر مُخلِّفًا وراءه هذا الزميل المَهيض. وذات صباح مُشمِس ضاحٍ، حمل صاحبنا نافذته وقصد بها إلى أحد السادة رعاة الفن الجميل وهو كاللَّيث في مَربِضه: ما هذا الذي جئتني به؟
– نافذة صنعتها.
– وأنَّى لك الزجاج؟
– قُصاصات جمعتها.
وضحك السيد الذي كان من رعاة الفن الجميل، وقال: يُؤسِفني يا بُني أن أقول إننا في هذه الدار قد تواضعنا على ألا ننعت بالفن نافذة قِوامها القُصاصات، فها أنت ذا ترى النافذات التي وجدت طريقها إلى جدراننا ألواحًا كاملة.
وحمل المسكين نافذته وعاد إلى مأواه، ولو رآه عندئذ رسَّام فنَّان لانتهزها فرصةً سانحة أن يُخرِج للناس آية يكتب على إطارها «خيبة الأمل» ولأصبح ذلك الصديق بعدئذ عِبرة لكل من تُحدِّثه في أرض الكنانة نفسه أن يصنع نافذة من قُصاصات الزجاج.
وكادت تُشيع ذكرى صديقي اليأس في نفسي، لولا أن حانَت مني التفاتة إلى صورة مُعلَّقة على جدار غرفتي؛ صورة «الأمل»: كوكب مُظلِم خلا من آهليه إلا فتاة شُد على عينيها برباط فلا ترى، وعلى إحدى أذنيها فلا تسمع إلا ضئيلًا، وفي يدها قيثارة تقطَّعت أوتارها إلا وتَرًا؛ ومع ذلك كله أحنَت الفتاة رأسها في ذلك العالم المُوحِش المُظلِم الصامت، لعلها تسمع نغمًا واحدًا من ذلك الوتَر الواحد!
إن حدث لك يا صديقي أن تقرأ هذه السطور، فنُصحي إليك ألا تُوئِسك أحكام السادة الذين هم في أرض العزيز رعاة الفن الجميل. إنهم لن يُزهِقوا أرواحهم يأسًا حين يرَون أنفسهم صِغار الفكر بالقياس إلى فكرك، ضئال الهمة بالقياس إلى همتك، كما فعل أستاذ الفن مع صبيِّه الموهوب؛ بل هم سيسحقونك أنت سحقًا وهم سينحرونك أنت نحرًا، ليبدو قليلهم كثيرًا وضحلهم غزيرًا.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
فتاة في خِدرها، نَئوم الضحى، تستيقظ لتزَّيَّن، ثم تمحو زينتها لتَنام! وهي في سُوَيعات صحوها لا تُجاوِز ظليل خِدرها، صونًا للشرف؛ لأن الشرف من صفات الخفافيش، هو وضوء الشمس نقيضان لا يجتمعان؛ فالقهرمانة الآن في الرَّدهة، والقهرمانة الآن في الغُرفة، وساعةً هي في البهْو وساعةً في الشُّرفة؛ وهكذا أخذت تتعاقَب الأيام، ليل يتلوه النهار ونهار يأتي بعده الليل؛ شتاء يتلوه صيف وصيف يأتي بعده الشتاء؛ والوردة الأرِجة تُرسِل عبَقها في أرض بَلقع يَباب انتظارًا لمن يكون لها قرينًا؛ والقرين المُرتقَب دونه إليها الصِّعاب؛ فهذه ساحرة تُلاقيه في الطريق وتُخادِعه حتى تخدعه، وتُغازِله فتَصرعه؛ حتى إذا ما أفاق لنفسه وتبيَّن فيها غِش الساحرات تركها ومضى، ليُصادِفه بعدئذ شيخٌ هرِمٌ مُلتحٍ، سكن كهفًا بعيدًا عن العمران، وراح بالإكسير يُخرِج من النحاس الخسيس ذهبًا إبريزًا؛ فما إن رأى الشيخ فتانا حتى أغراه بالمُكث إلى جواره حينًا ينفخ له النار، وله من محصول الذهب مِقدار، ولبث الفتى ينفخ النار عامًا وعامًا وثالثًا بعده رابع وخامس، ورائحة الذهب تملأ أنفه وخياشيمه فلا يترك المِنفاخ، والفتاة هنالك في ارتقابها له تستيقظ لتزَّيَّن ثم تمحو زينتها لتَنام. تلك الفتاة قُصاصة بشرية قذفت بها الرَّحى بين المُهمَلات.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر، بل سلسلة من الخواطر جاءت في تتابُع سريع؛ فالفتاة التي تعطَّلت في دارها عن غير ضعف إلا ضعفًا في إدراك ذويها، دعَت إلى الذهن ألوف الألوف من الناس الذين انتشروا في أرجاء البلاد مَدائنها والقُرى، لا يعملون أو يعملون وكأنهم لا يعملون؛ فهم أقرب الناس شبهًا بمدينة ضاقَت بأهلها سُبل العيش، فاتَّفق الجيران على أن يتبادلوا الخدمات، فكلٌّ يغسل لجاره ثيابه، وكلٌّ تكنس لجارتها بيتها؛ ثم دُهش أهل المدينة أن رأوا أنفسهم كادحين والبطون لم تزَل على حالها خاوية! إن السادة إذ أعدُّوا لأنفسهم حياة تُرضي فيهم الغرائز والشهوات، نثروا حولهم عن غير وعي هذه القُصاصات.
وصاح صائح: كيف السبيل إلى الإصلاح؟
الإصلاح سبيله أن تعرف لكل قُصاصة قيمتها، وأن تجد كل قُصاصة مكانها من نافذة المجتمع، فمن لهذه القصاصات البشرية بمن يُنسِّقها أُمةً مُنتِجة عاملة؟ من لهذه القصاصات البشرية بمثل ذلك الصبي الفنَّان؟