شَعر مصبوغ
رأيت رجلًا بين خمسينه وستِّينه صبغ بالحِنَّاء رأسه وشاربَيه ليطمس بالصبغة ترقيم الزمن.
لكن الزمن أبى أن يلين ويستكين، فطفِق كلٌّ منهما يُناوِش الآخر في لَباقة المُحتال الماهر، مُناوَشةً كانت أقرب إلى المُلاعَبة والمُداعَبة منها إلى القتال الجادِّ العنيف؛ فصاحبنا ما ينفكُّ لشَيبه راصدًا — زجاجة الصبغة في يُمناه والمرآة في يُسراه — كلما لاح له من شَيبه ضوء هنا أو لمع له برق هناك، قابله بهذا الذي أعَده له الصيدلي في دقة الفن كله والعلم كله، حتى يخدع الناس عن هذه الشيخوخة الكريهة التي أنشبت فيه الأنياب والأظفار، بل حتى يخدع نفسه عن هذا الهرَم الذي يدنو به نحو الفناء بخَطو دءوب؛ ثم ما ينفك الشيب أن يُغافِله حينًا بعد حين، فيُطِل عليه بشعرات بِيض ينثرها في الشمال مرة وفي الجنوب مرة، وفي وسط الرأس تارة؛ وطورًا يستبدل بهذا الضرب من قتال الكَر والفَر هجومًا عامًّا مُنظَّمًا، فيدفع لصاحبنا شَعره المصبوغ كله إلى الوراء خطوة، فيُبديه أخضب الأعالي أبيض الأسافل؛ وينبغي أن نُسجِّل للحقيقة والتاريخ أن الشَّيب في هذه المعركة كان أنبل من صاحبه؛ فصاحبه دائمًا يُسدِّد طعنته في الخفاء، ولا يبوح بسِر قتاله إلا إلى أخلص الخلصاء، وأما الشَّيب فيرُد له الطعنة علنًا وفي وضح النهار.
وأعجب العجَب أن صاحب الشَّعر المصبوغ لم يُدرِك أن موطن الشَّيب في دمائه، وأن جذوره قد ضربت في جوفه وأحشائه، وأنه إن أراد للشباب رجعة، فليتوكل على الله وليضَع أمله في أبنائه.
ذكرت صاحب الرأس المصبوغ حين خرجت بالأمس إلى ضاحية ريفية في شمال لندن، ونحن الآن من فصول العام في فصل الخريف؛ والفصول في إنجلترا بيِّنة المعالم واضحة الحدود؛ فلستَ بمُستطيع أن تُخطئ الشتاء إذ يكسو لك ما حولك بين آونة وأخرى بالثلج والصقيع؛ ولستَ بمُستطيع أن تُخطئ الربيع والدنيا من حولك كلها تُورِق وتَزهَر؛ أو أن تُخطئ الصيف وقد خمدت النار في المدافئ وانقطع عنك نداء العدَّاد الذي لا يشبع بسيَّال من الشلِنات تُلقيها في جوفه صبحًا وعصرًا ومساءً؛ ثم لستَ بمُستطيع أن تُخطئ الخريف وكل ورقة تقع عليها عينك فوق الشجر قد أخذت تجفُّ وتذبل استعدادًا للسقوط.
ذكرته حين خرجت بالأمس إلى خلاء ريفي وافترشت معطف المطر، وأسندت ظهري إلى جذع سنديانة ضخمة، وعلى بعد أمتار مني دارٌ ريفية صغيرة إلى جانبها شجرة لم أدرِ ما نوعها، لم يلبث أن جاءها غلام في نحو الثانية عشرة من عمره، وارتقى صندوقًا خشبيًّا وفي إحدى يدَيه وعاء فيه طلاء وفي الأخرى فِرْجَون؛ ثم أخذ يغمس فِرْجَونه في الوعاء ويطلي ما اصفرَّ من حواشي الورق ليرُد له لونه المفقود، ولبث على هذا النحو ساعة يعمل في أناة وصبر؛ ولم يكُن خلال هذه الساعة قد أكمل نصف غصن واحد، وهبَّت ريح خفيفة أسقطت له بعض ما صبغ؛ وعندئذٍ خرج من الدار شيخ مُحدَودِب الظهر، وصاح بالغلام: ماذا تصنع يا وليم؟
– أصبغ بالطلاء الأخضر ما اصفرَّ من أوراق شجرتي، إنها يا عمَّاه تذوي وتنحدر إلى فَناء سريع.
فأمرَّ الشيخ كفه على صدغَيه وابتسم، لكنه لم يقُل شيئًا. وإنه لمن العجب حقًّا ألا يفطن الغلام — مهما يكُن من غفلته وقِلة خبرته — إلى أن الصبغة الخضراء لن تقِف دورة الفلك في وجه الشتاء، كلا ولن تُجدي شيئًا في دفع الفناء؛ وأنه إن أراد للشجرة حياة فليتوكل على الله وليُحسِن لها الغذاء وليرقب بالرجاء نهضة الربيع.
وذكرت صاحب الرأس المصبوغ، حين رأيت صبيًّا له ساعةٌ اختلَّت عِدَّتها فضلَّت عقاربها، وعَز عليه ألا تدُل ساعته على الزمن كما تدُل عليه الساعات عند سائر الناس، فصمَّم أن يهديها هو إلى الزمن بدل أن تهديه؛ وكان في بهْو منزلهم ساعة دقَّاقة كلما دقَّت ربع الساعة أو نصفها، أدار الصبي عقارب ساعته بيدَيه، حتى ضاق صدرًا بهذا العَناء المُتصِل، فقد كان يرجو أن يُؤدِّي إلحاحه وإخلاصه في أن تتخذ العقارب وضعها الصحيح إلى إصلاح ما فسد، ولم يُدرِك أبدًا أن ساعته لن يصلح لها أمر إلا إذا أُصلِحت عجلاتها وتُروسها حيث العطب والفساد.
وذكرته إذ ذكرت جارةً لنا مرِض وحيدها وارتفعت حرارته إلى درجة أشرفت به على الموت، ولم تدرِ الأم المسكينة ماذا تصنع، فأخذت تضع على رأس مريضها وجسده ثلجًا بعد ثلج، لتُزيل عنه العلة بإزالة ظواهرها، فما لبِثت أن أزالت فعلًا عن ولدها العلة وظواهرها معًا، لأنها أزالته عن الحياة.
وذكرته حين ذكرت أُمةً بأسرها نسجت إصلاحها على مِنوال الشَّعر المصبوغ، الذي يُبدي لك كل علامات الشباب إلا شيئًا واحدًا، هو فتوة الشباب! ففي مدارسها كل ما في مدارس العالمين من أدوات ومُعَدات وتلاميذ وأساتيذ، إلا شيئًا واحدًا هو التعليم، إذا أرَدنا بالتعليم تربيةً تقلب وجهة النظر إلى الحياة رأسًا على عقب؛ وفي جيشها كل ما في جيوش العالمين من ضباط وجنود وذخيرة وعتاد، إلا شيئًا واحدًا هو أنه لا يُقاتِل؛ وفي دستورها كل ما في دساتير الأرض من مُساواة بين الأفراد، إلا شيئًا واحدًا هو أن ليس بين الأفراد هذه المُساواة.
ذكرت صاحب الرأس المصبوغ حين ذكرت أُمةً بأسرها سرى الطُّغيان في دمائها، وتمكَّن من أنسجتها وأعضائها، ثم أرادت لدائها دواءً، فأثبتت في محفوظاتها أن الناس سواسية، وسجَّلت في دستورها أن يكون فيها — كما في سائر الأمم — انتخاب ونُواب؛ ولعلها لم تدرِ أن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم.
فإن وجدت — وما أظنك واجدًا — بين شعوب الأرض شعبًا؛ الوالد فيه يرى أن لا أُبوَّة بغير سياسة الحَجاج في بيته، والولد يرى أن لا بُنوَّة بغير خشوع وخضوع؛ الزوج فيه يرى أن لا رجولة بغير احتكار للرأي، والزوجة ترى أن لا قرار لحياتها بغير إذعان؛ المُعلِّم فيه يرى أن لا تعليم بغير أن يُنصِت التلاميذ في صمت لعباراته كأنما هو راعٍ في معبد ينطق لعباد الله بما خط لهم القضاء في اللوح المحفوظ، ويرى التلاميذ أن لا تعلُّم بغير أن يحفظوا مُؤمِّنين مُصدِّقين لما قاله المُعلِّم من قول مأثور؛ الصانع فيه لا يُلقِّن صناعته لصبيِّه إلا إذا سامَه صنوف العذاب ألوانًا، وصبيُّه يرى أن لا سبيل إلى تلقِّي الحِرفة دون أن يستسلم لهذا القضاء المحتوم؛ الرئيس فيه يرى من حقه على مرءوسه أن يطغى ويتجبَّر، والمرءوس يرى من واجبه نحو رئيسه أن يُستضأل ويُستصغَر؛ المالك فيه يرى من حقه على أجيره أن يستغلَّه ويستذلَّه؛ والأجير يرى من واجبه نحو المالك أن يُستغل وأن يُستذل؛ المخدوم فيه لا يهديه ضميره أن يكون لخادمه ما لأبنائه من حقوق البشر، والخادم لا يُحِس أنه كهؤلاء الأبناء، بشر له ما لهم من حقوق؛ الشُّرَطي فيه يرى من حقه أن يَسب ويصفع، وصاحب الحاجة عند الشُّرَطي يرى من واجبه أن يُغضي عن شيء من السِّباب والصفعات.
إن وجدت — وما أظنك واجدًا — بين شعوب الأرض شعبًا فيه هذا كله، وأكثر من هذا كله، ثم وجدت في محفوظاته أن الناس سواسية، وفي دستوره أن له انتخابًا ونُوابًا؛ فاعلم أنه شعب عَز عليه أن يرى ضعفه ماثلًا أمام عينيه، فصبغ بالحِنَّاء رأسه وشاربَيه.