قارئ الأفكار
كنت أُساكِن صديقًا بضاحية الزيتون في دار صغيرة جميلة ذات طابقَين، وكان هذا الصديق يُشارِكني ألوان الثقافة والتفكير ومَنازِع الحياة والسلوك؛ اللهم إلا جانبًا واحدًا بارزًا اختلفت معه فيه، فقد كان يُؤمِن بما للنفس من قُوًى؛ يُؤمِن بإحضار أرواح الموتى، وبانتقال الخَوالِج النفسية بين الأحياء دون تفاهُم واتصال؛ كان يُؤمِن بهذا وبغيره من قُوى النفس المزعومة الموهومة؛ وكنت لا أُومِن بشيء من هذا قَل أو أكثر؛ ولم يكفِ هذا الصديق أن يأخذ بالرأي في صمت وهدوء، بل تحمَّس له حماسة يُمازِجها شيء من الصخب، وساهم في جمعية نفسية تألَّفت في القاهرة من بعض المُشتغِلين بهذه الأبحاث، ولم تكُن لجماعتهم هذه دار يلتقون فيها، فاتفق الأعضاء على أن تكون الجلسات في ديارهم.
وفي يومٍ بَرده زمهرير، دبَّر صديقي اجتماعًا في دارنا، وكان محتومًا عليَّ أن أُساهِم في الحفاوة بالزائرين، أو أُغادِر الدار؛ وقد آثرت أن أخوض في برد الشتاء، على أن أستمع مُرغَمًا إلى ما يُديره أولئك الأعضاء من هُراء؛ ولكن شاء حظي المنكود أن يُفاجأ صديقي بما ألزمه بالسفر في تلك اللية إلزامًا لا سبيل إلى الفرار منه، فماذا يصنع والاجتماع بعد ساعتين أو أقصر؟ أمامه مَخرَج واحد، وذاك أن أظَل بالدار لأستقبل الأضياف.
وحدِّث ما شئت عما أصاب نفسي من حرج وضيق، ولكني جحدت هذا الغم في كبدي، ورسَمت ابتسامة على مُحيَّاي لألقى بها الزائرين؛ وحان الحين، وأقبل المُقبِلون، فأخذت أُصافِح وأُسامِر في بِشر وتَرحاب، كأني كنت لهذا اللقاء في لوعة المُشتاق، وما هو إلا أن فرَغْنا من العَشاء، فانتقل الزائرون إلى غرفة المكتبة، وكنا قد أعدَدناها للجلوس؛ وهنا أقبل صديقي حسن، وهو يفهم موقفي من هذه الأبحاث النفسية، ويُشارِكني وجهة النظر، وجلس بعد أن صافَح الحاضرين؛ ولم تمضِ دقيقتان حتى سادنا الصمت، ووقف رئيس الجماعة، وسعل سعلة خفيفة، تمهيدًا لكلمة يُلقيها في الحضور، ثم قال: «سادتي! إنا لنأسف أسفًا شديدًا لغياب زميلنا يوسف هذا المساء، ولكن أهي العناية الإلهية دبَّرت هذا لأكشف لكم في صديقه وصديقنا محمود عن عضو جديد وعضُد قوي مُستنير؟! لقد رأيتم جميعًا كيف استقبلَنا بحفاوة الأكرمِين، ولكني رأيت فيه جانبًا آخر، فقد أخذ يُحدِّثني ونحن جلوس إلى مائدة الطعام حديث المُتعمِّق، الخبير بالنفس البشرية وسرها المكنون، فعجِبت لأمره أشد العجَب، فقد ذكره لي صديقه وصديقنا يوسف في غضون حديث له معي منذ أيام، فأنبأني عنه أنه واسع الثقافة كثير المُطالَعة، وأنه كان يصلح لجماعتنا هذه عضوًا مُفيدًا، لولا أنه ينفر نفورًا شديدًا من أبحاثنا الروحية، ولا يصِفها بأكثر مما يُوصَف به خلط المَجانِين …»
فقاطَعته قائلًا: ليس هذا حقًّا يا سيدي، لقد ساء فهمه إياي أو أساء الإفهام؛ لأني مشغوف بالروح وما يتَّصل بها من بحوث، إن أصدقائي جميعًا يعلمون عني أني أعيش في كتب الأقدمين أكثر مما أعيش بين الأحياء المُعاصِرين؛ وأشباه هذه البحوث الروحية كثيرة في تلك الكتب، بل جاءت عصور بأسرها لا تعرف من العلم إلا أشباه هذه البحوث، وليس من المعقول أن أخرج من هذا المحصول الضخم صفر اليدين؛ ولم أقِف من الأمر عند المعرفة النظرية، بل طبَّقتها مرتين حين كنت في مراكز الريف فأفلحت إفلاحًا عجيبًا؛ ولو شئتم عرضت أمامكم بعض هذه التجارب التي أجرَيتها في قدرة النفس البشرية على نقل الخواطر من ذهن إلى ذهن بغير ما يعهد الناس من وسائل التعبير.
فحدَّق صديقي حسن نظراته في وجهي، ولمَحت فيه ميلًا إلى الضحك، عرَفته فيه منذ ائتلف قلبانا في هذه الصداقة القوية؛ ولكنه حين رآني أسترسل جادًّا في الحديث، أخذ يعلوه العجَب، وتبدو في عينه الدهشة مما أقول، كأنه أراد أن يهمس: أأنت مازِح أم هذا جانب منك خدَعتني فيه؟!
ولكني لم آبَه لما يختلج في نفس صديقي حسن آنئذٍ، ودُرت ببصري في أعضاء الجماعة النفسية قائلًا: هل تُؤمِنون بقدرة الروح على نقل الخواطر من شخص إلى شخص على بُعد ما بينهما من شُقة؟ فأجاب الرئيس: «إنك يا سيدي كمن يسأل بائع الفاكهة هل يبيع فاكهة! إن نقل الأفكار والخواطر في مُقدِّمة البحوث التي تُعنى بها جماعتنا، بل إنه علة ائتلافها وسبب وجودها؛ نحن مُعيروك آذانًا مُرهَفة مُصغية، فحدِّثنا في هذا الأمر ما شئت من حديث، وأجرِ ما شئت من تجارِب، فما أحسب إلا أن الجمعية قد كسبتك عضوًا قديرًا خطيرًا.»
قلت: إذن فاسمعوا؛ سأخرج من الغرفة الآن، فاختاروا من هذه الأشياء التي حولكم شيئًا، ثم شبِّكوا أيديكم بحيث يُمسِك كلٌّ بجاره، وركِّزوا أذهانكم جميعًا في الشيء المُختار، على أن يُشير أوَّلكم بيده المُطلَقة إلى ذلك الشيء؛ أما أنا فسأصعد إلى الغرفة العليا، ثم أُغلِق من دوني الباب، وأنقر بعصاي على الأرض نقرات مُتصِلة، فإذا ما أخذت في هذا النقر بالعصا، فاجلسوا وشبِّكوا أيديكم على النحو الذي أسلفت، وركِّزوا تفكيركم فيما تختارون؛ وسأخبط أرض الغرفة بعصاي خبطتَين غليظتَين لتعودوا إلى حيث كنتم، قبل أن أهبط إليكم؛ فلو استطعتم أن تُركِّزوا عقولكم في الشيء المُختار، فلن أجد عسرًا في قراءة ما تُفكِّرون فيه على صفحات أذهانكم، كأنني أقرأ في كتاب منشور.
فقال الرئيس: إن حدث هذا كان مثالًا ناصعًا، وبرهانًا قاطعًا على قوة النفس البشرية في قراءة الأفكار؛ ابدأ بتجربتك يا محمود، فنحن مُنفِّذون لك ما تُريد؛ وأما صديقي حسن فلمْ يزدد إلا دهشة وعجَبًا، أهذا هو صديقي الذي خالَطته أعوامًا، فلمْ أشهد منه إلا ضحكًا وسخرية من سخف العقول التي تأخذ بهذه الآراء؟!
أخذت عصاي واتَّجهت صَوب الباب، وقد أوصَيتهم قبل أن أغيب عن أنظارهم، أن يُركِّزوا أفكارهم في الشيء المُختار تركيزًا شديدًا، وخرجت إلى البهْو وصعدت السلم، وفتحت باب الغرفة العليا في صوت مسموع، ثم أقفلته في عنف ليعلموا أني قد بلغت مكاني فيأخذوا فيما أوصيتهم به؛ هنا وقف الرئيس وأقفل باب المكتبة ليزدادوا استحكامًا، وشبَّكوا أيديهم، وكنت قد بدأت أنقر بعصاي نقرًا خفيفًا على أرض الغرفة العليا؛ وقد مد الرئيس يده المُطلَقة — وكان هو الذي وقف في نهاية السلسلة — ووضع إصبعه على مِصباح المكتب، فهَزَّ الباقون رءوسهم بالمُوافَقة، وأخذوا جميعًا يُركِّزون عقولهم في هذا الصباح، وقد ساد بينهم صمت عميق تكاد تسمع فيه تردُّد الأنفاس؛ فكان صوت عصاي وهي تنقر على أرض الغرفة العليا يُدوِّي في أرجاء المكان، ثم وقفت نقرات العصا لحظة قصيرة، ثم خبطت بها خبطتَين غليظتَين إيذانًا بالنهاية؛ ففَكَّ الأعضاء أيديهم وعادوا إلى أماكنهم الأولى، وفتح الرئيس باب المكتبة؛ فهبطت السُّلم وأقبلت على الجالسين كأني أعنتُّ الذهن إعناتًا مُرهِقًا، وقلت: لا تنظروا إلى الشيء المختار، بل فكِّروا فيه لتنتقل الفكرة من عقولكم إلى عقلي. فلبثوا جالسِين في صمت رزين يُزيغون الأبصار هنا وهنالك، وطفِقت أعبُر الغرفة جيئة وذهابًا ثم خطَوت خطوًا فسيحًا سريعًا مُفاجِئًا نحو المكتب، ورفعت المِصباح وأنا أتهلَّل بالبِشر، وقلت: هذا ما اخترتموه، لقد قرأت الفكرة في عقولكم جليَّة واضحة، كأني أقرأ في كتاب منشور!
فضجَّ المكان بعد ذلك الصمت الرهيب، وقال الرئيس في صوت المُتحمِّس: ألا فلينظر إلى هذه التجربة الرائعة كل كافر بالنفس البشرية وقُواها! فلنُسجِّل هذا في دفاترنا برهانًا قاطعًا على إمكان قراءة الأفكار، ننشره في الناس يوم ننشر خلاصة ما نقوم به من الأبحاث.
فقلت وقد أحسست بنفسي التِّيه والإعجاب: لو شئتم أجرَيت لكم تجربة أخرى، ولكم أن تزيدوا الأمر دقة وصعوبة؛ وأخذت العصا وصعدت السُّلم وبدأت أنقر على أرض الغرفة العليا نقرًا خفيفًا؛ قال الرئيس لزملائه: «سنختار هذه المرة شيئًا دقيقًا بحيث لو عرفه لم يعُد مَحل لريب مُرتاب، سأختار كتابًا من أحد هذه الرفوف، وسأفتحه كما اتَّفق، وستكون الصفحة المفتوحة هي ما نُركِّز فيه الفكر»؛ فوافق الزملاء وشبَّكوا أيديهم، وخطا الرئيس إلى أحد الرفوف وانتزع كتابًا وضعه على المكتب، ثم دَس سبابته بين صفحاته وفتح، فإذا هي صفحة ١٧٦ فأشار إليها بيُسراه، وشبَّك يُمناه في يد جاره، ووقف الجميع في صمت يُفكِّرون في الشيء المُختار، ونقرات العصا مُتصِلة على أرض الغرفة العليا، ثم وقف النقر لحظة قصيرة، ثم ضُربت الأرض بالعصا ضربتَين غليظتَين إيذانًا بالنهاية؛ ففُكَّت الأيدي وأُعيد الكتاب حيث كان، واتَّخذ كل من في الغرفة مَجلِسه، وهبطت السُّلم ودخلت حجرة المكتب، فألفيت الجميع في سكون رصين رزين لا تسمع فيه نَأْمة ولا حركة؛ وقد أخذت أذرع الغرفة بخُطاي كأنني أُفكِّر؛ وما هي إلا أن وقفت بغتةً وقلت في لهجة حادَّة: «إن بينكم رجلًا لا يُركِّز تفكيره في الشيء المُختار تركيزًا شديدًا»؛ ونظرت إلى صديقي حسن، فرشَقه أعضاء الجماعة النفسية بنظرات ملؤها اللوم والتأنيب، وبدا على وجه حسن من العلائم ما يدُل على أنه كان بالفعل شارد الفكر، ولكنه أحس أنه في قوم جادِّين فيما هم فيه، لا يلهون ولا يعبثون، فحصر ذهنه في الصفحة المُختارة حصرًا قويًّا؛ وساد الصمت، ووقفت أُجيل البصر في أرجاء الغرفة، أُصعِّده وأُصوِّبه، ثم خطَوت خطوًا سريعًا مُباغِتًا إلى رَف بين رفوف الكتب، وأنزلت منه كتابًا وضعته على المكتب وفتحته في صفحة ١٧٣، ونظرت إلى الرئيس قائلًا: ألم يقَع اختياركم على هذه الصفحة؟ فاندفع الجالسون إلى المكتب يشرئبُّون بأعناقهم إلى الكتاب، وقد فغروا أفواههم عجَبًا وإعجابًا؛ فسألتهم: هل أصَبت هذه المرة أيضًا؟
قال الرئيس: لقد قارَبت الصواب قربًا شديدًا، لقد اخترنا صفحة ١٧٦، فلمْ تُخطئ إلا قليلًا حين حسبتها صفحة ١٧٣، إن في المكتبة مئات من الكتب فيها ألوف الألوف من الصفحات، فيا له من نصر عظيم حين تُخطئ في صفحات ثلاث! أستغفر الله ماذا أقول؟ أأقول إنك أخطأت مع أن هذا الخطأ اليسير هو بعينه دليل الصواب؟ ألم يَشرد صاحبنا — وأشار إلى حسن — بفكره لحظة هي كفيلة أن تُسبِّب هذا الانحراف القليل؟!
فقلت: نعم، سيدي الرئيس، لم أكَد أدخل الغرفة، حتى أحسست إحساسًا عجيبًا، أحسست كأن جاذبًا يجذب فكري عن غاية يقصد إليها، أحسست كأن عاملًا يحول بيني وبين ما أُريد، فأدركت من فوري أن أحد الحضور قد شرد بفكره عن الشيء المُختار.
قال الرئيس: هذه تجربة نادرة! هذا مثال عجيب لقراءة الأفكار! هذه حالة تنهض دليلًا قويًّا على أن تركيز الفكر في شيء سبب في انتقال الفكرة إلى شخص آخر، وشروده حائل يحول دون هذا الانتقال، إن زلة صديقنا هذا قد جاءت مُؤكِّدة للتجربة مُؤيِّدة لها؛ فلولا هذه الغفوة منه ما عرفنا كيف تكون الحال إذا ما حِيل دون تركيز الفكر. ماذا تقول؟ أتقول إنك أحسست كأن شيئًا يقِف في طريقك ويصرفك عن غايتك؟
قلت: نعم، سيدي الرئيس، شعرت بذلك شعورًا قويًّا، فقد رأيت نفسي بادئ الأمر مُنجذِبة نحو الكتاب حين دخلت الغرفة، ولكني أحسست فجأة أن الفكرة الواضحة في نفسي قد غشَّاها غموض واضطراب؛ ولما عاد صديقي حسن إلى تركيز فكره رأيت فكرة الكتاب تزداد في ذهني وضوحًا شيئًا فشيئًا، وشعرت كأنما يدفعني إليه دافع ليس إلى مقاومته من سبيل.
فدار الحديث بين الأعضاء ساعة حول هذه القدرة العجيبة للنفس الإنسانية على استطلاع ما يختلج في نفوس الآخرين من خلجات وأفكار؛ ولما آن موعد انصرافهم صافَحوني مُهنِّئين مُعجَبِين، وخرجوا إلا حسنًا، فقد بقى ليقضي معي شطرًا أطول من الليل؛ فما كدنا نعود إلى مجلسَينا حتى نظر إليَّ حسن في دهشة، وقال: ما ظننتك يا محمود مشغوفًا بالبحوث النفسية قبل الليلة، فلَطالَما زعمت لي عن نفسك أنك منطقي جافٌّ صارم في منطقك، ولَطالَما أنكرت لي ما يذيع في مَجالِس الناس من أنباء عن قوى النفس وأسرارها، لأنها كانت لا تتَّفق في رأيك مع المنطق العقلي المُستقيم.
فقلت: ماذا؟ أتُراك قد انخدعت يا حسن كهؤلاء المجانين؟
قال: ما أرى في الأمر خداعًا، لقد تحوَّطنا للأمر تحوُّطًا شديدًا، ومع ذلك فقد أبدَيت قدرة عجيبة على استطلاع خلجات العقول!
فقلت: إذن لقد وُفِّقت في خداعكم أكثر مما توقَّعت لنفسي، إن الأمر كله خداع في خداع، كنت أصعد السُّلم وأبدأ في النقر الخفيف بعصاي، ثم آمر الخادم أن يُواصِل هذا النقر حتى أخِف مُسرِعًا من السُّلم الخلفي لأنظر إليكم من ثغرة ضئيلة في النافذة المُطِلة على الحديقة، حتى أشهد ما تفعلون، فأعود سريعًا إلى الغرفة العليا وآخذ عصاي من الخادم فأخبط بها خبطتَين غليظتَين ثم أهبط إليكم عالمًا بكل أمركم.
قال: لئن كان هذا الخداع الساذج مما يجوز على هؤلاء المُثقَّفِين، أفَيكون عجيبًا بعد هذا أن تنخدع عامة الناس؟