النساء قوَّامات
إذا عشتَ في أمة هازلة حمَّلك الناس مَحمِل الهزل إن كنت جادًّا، وأخذوك مَأخَذ الجِد إن كنت مازحًا، حتى لا تدري إن أردت معهم الجِد ولم تُسعِفك روح الفكاهة، كيف تتوجَّه إليهم بالخطاب؛ ولست أرى لك حيلة سوى أن تُقسِم لهم في مُستهَل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء، أنك فيما تُحدِّثهم به إنما قصدت إلى الجِد ولم تقصد إلى المزاح.
والذي أتقدَّم به الآن بين يديك أيها القارئ الكريم أتقدَّم به في استحياء وخجل لما أُحِسه فيه من نُبوٍّ وشذوذ وخروج على مألوف الرأي والعادة، مُلتمِسًا منك الغفران إن كنت على ضلال، وراجيًا منك التأييد والتعضيد والفعل والتنفيذ إذا رأيتني قد وُفِّقت إلى صواب؛ الذي أتقدَّم به الآن بين يديك جادًّا كل الجِد مُؤمِنًا كل الإيمان، رأيٌ في الإصلاح لست أرى للإصلاح سبيلًا سواه، بعد تفكير أدَرته في رأسي أعوامًا طِوالًا؛ وقد هداني إليه حادث عابر — وكم في تاريخ الإنسان من كشف عظيم هدى إليه حادث عابر — والرأي في بساطة واختصار هو أن نُلقي بزمام أمرنا في أيدي نسائنا حينًا من الدهر، فنجعل النساء قوَّامات على الرجال قرنًا كاملًا، لعلهن في نصفه الأول مُستطيعات أن يُصلِحن ما أفسدت أيدي الرجال مَدى خمسين قرنًا، وأن يضَعن في نصفه الثاني أساسًا جديدًا لحياة جديدة؛ وللرجال بعد ذلك أن يستردُّوا قوامتهم على النساء، إن وجدوا أن ذلك عندئذٍ في حدود المُستطاع؛ أُريد أن تكون الكلمة العليا في الأسرة للمرأة لا للرجل، بحيث يُفاخِر المرء أقرانه بأنه قد تعهَّدته أمه لا أبوه؛ أُريد أن أرى في مناصب الدولة جميعًا — رفيعها ووضيعها على السواء — نساءً لا رجالًا، فيكون منهن الوزيرات والمُديرات والمأمورات والضُّباط والشرَطيات والقاضيات ونائبات البرلمان، وأن يُحرَم الرجال حق الانتخاب على النحو الذي حُرمته المرأة اليوم؛ أُريد أن يكون الرأي للمرأة في كل شيء قرنًا كاملًا من الزمان.
أوحى إليَّ بهذه الفكرة حديث قصير مع فتًى وفتاة، كلاهما تخرَّج في الجامعة؛ فوجدت في الفتى خِفة ورعونة وتفاهة رأي، بقدر ما وجدت في الفتاة تماسُكًا واتِّزانًا وسدادًا؛ فلمْ يسعني إذ كنت أُجالِسهما وأستمع إلى الحوار بينهما سوى أن أُسائل نفسي مُتعجِّبًا: أيكون هذا الفتى قوَّامًا على هذه الفتاة لو تزوَّج منها؟! ألا يكون لهذه الفتاة الرزينة الرصينة المُتزِنة العاقلة رأي في سياسة بلدها، وأن يُطلَب الرأي من مثل هذا الفتى؟! أستغفر الله، بل لا يكون لهذه الفتاة رأي في سياسة بلدها ويُطلَب الرأي من «عبد الله الطبال»، وهو رجل ذو بلاهة كان يبيع في حارتنا الطعمية منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكان لنا مَوضِع العبث والهزل والفكاهة ونحن أطفال.
عدت إلى داري بعد هذا الحادث العابر، أُسائل نفسي في الطريق مُتعجِّبًا مرة أخرى: أيكون هذا التفاوُت الفسيح الذي شهدته بين الفتاة والفتى شذوذًا يحدث مرة ويتخلَّف مائة مرة، أم يكون هو القاعدة السارية الجارية التي تقع مائة مرة وتتخلَّف مرة؟ وما كدت أبلغ داري وأستقِر إلى مكتبي حتى أخذت الأمر مَأخَذ الجِد والعلم الصحيح؛ فمن العبث أن نعيش في عصر يفوح هواؤه بالعلم والعلماء، وتُدار أداته في الأنابيب والمَعامِل، ثم نقِف حيال ذلك كله، موقف المُتحدَّى، فنطَّرح وراء ظهورنا وسائل العلم وأساليب العلماء؛ وأبسط هذه الوسائل والأساليب أن نبني أحكامنا على حقائق محسوسة ملموسة، وألا نُقيمها على خيال واهم أو رأي عابر؛ ينبغي لك إن أردت اليقين أن تبسط الحقائق أمام نظرك أولًا، لتهتدي بهديها، وتنتزع منها الحكم الصحيح، والحقائق التي لا بد لك أن تبسطها في هذا البحث الذي نحن الآن بصدده ليست حشرات ولا غازات ولا صخورًا ولا معادن؛ الحقائق المطلوبة ها هنا أساسًا للبحث عددٌ من النساء وعدد من الرجال، تجمعهم بالذاكرة في رأسك ولا تدعوهم للاحتشاد في ردهة دارك، واجعل العدد أكبر عدد ممكن، ثم قارِن بينهما اثنين اثنين، بحيث تقرن الرجل إلى من يُساويه من النساء سنًّا وتعليمًا وظروفًا، ثم انظر أي الجنسين كان أسلم نظرًا وأسدَّ رأيًا في مواقف بذاتها مرَّت بك وكوَّنت جزءًا من تجاربك.
هذا ما صنعته أنا، استعدت بالذاكرة عشرات المواقف التي تعارَض فيها رجل وامرأة ممن تقارَبت ظروفهم، فوجدت في كل زوج اخترته للبحث، أنه حيثما اختلف الاثنان في وجهة النظر، كان الرجحان حليف المرأة في تسع مرات من كل عشر؛ وإني أيها القارئ لأُناشِدك الذمة والضمير والإخلاص، إني لأستحلفك الله والوطن الذي نُريد معًا أن نُصلِحه، أن تخلو لنفسك ساعة واحدة فتعرض لمن تعرف من ذكور وإناث، هادئ النفس خالص النية مُبرَّأً من الهوى؛ اعرض لمن تعرف من أزواج وزوجات، وبنين وبنات، وإخوة وأخوات، وطلاب وطالبات، ومُوظَّفين ومُوظَّفات؛ اعرض هؤلاء أزواجًا أزواجًا، وكُن أمينًا في عرضك، فلا تقرن الجاهلة إلى المُتعلِّم، ولا الصغيرة إلى الكبير، لا تُوازِن بين قُرَوية ومُتحضِّر، بل اختر أمثلتك ممن تشابَهت حالهم وتقارَب مُحيطهم، ثم نبِّئني بعد ذلك أي الجنسين وجدته أسلم تفكيرًا وأنفذ بصيرة؟ أما أنا فلمْ يعُد عندي في الأمر مَوضِع لريب، لقد آمنت إيمانًا أرسخ من شُم الجبال، بأن المرأة في مصر أحكَم رأيًا من الرجل في مصر، وأنه ينبغي لذلك أن يكون لها الأمر والسلطان ولو إلى حين.
لعلك لحَظت أني أُحدِّد القول بالرجل في مصر والمرأة في مصر ولا أُطلِق الحكم إطلاقًا؛ وأراني هاهنا مُضطرًّا إلى تنبيهك إلى خطأ يقع فيه كثيرون وأُعيذك أن تقع فيه إذا ما أخذت في البحث؛ والخطأ أن تبدأ بقول عام تُلقيه على عواهنه وتتشبَّث به؛ هذا لا يجمل أن تصنعه مهما يكُن قائل هذا الرأي ومهما تكُن منزلته من نفسك ونفوس الناس؛ فاجعل بداية بحثك أمثلة فردية جزئية واقعة، واترك نفسك على الحياد، وانظر إلامَ تُؤدِّي بك هذه الأمثلة المُختارة؛ أنا أُشير عليك بهذا بعد خبرة طويلة؛ فكم من مرة ثار فيها هذا الجدل: أيهما أقدر على تصريف الأمور، الرجل أم المرأة؟ وكم من مرة كلما ثار الجدل أخذتني الغيرة على الرجولة والرجال، وخشيت أن يُكتسَح سلطانهم وتضيع حقوقهم، فكنت أحتجُّ للرجل على المرأة بكثرة النابغين وقلة النابغات وما إلى ذلك من جدل نظري عقيم؛ لكني الآن أُوثِر طريقة أخرى في التفكير مُنتِجة مُفيدة، وهي أن أُخصِّص ولا أُعمِّم إلا بعد تخصيص، أُوثِر الآن أن أختبر الموقف الفرد وألا أرِف بجناحَين عريضَين في أطباق الهواء مُسرِعًا لأنتهي إلى تعميم في الحكم بين طَرفة عين وانتباهها؛ فليس ذا غَناء أن أُوازِن بين المرأة والرجل، كائنة من كانت المرأة، وكائنًا من كان الرجل؛ بل لا بد لي أن أحصر موضوع البحث وأُضيِّق حدوده، فأبدأ بهذه المرأة وهذا الرجل، وبهذه المرأة الأخرى وهذا الرجل الآخر، وبهذه المرأة الثالثة وهذا الرجل الثالث؛ ثم أنتقل بعد ذلك إلى المرأة في مصر والرجل في مصر، إن وجدت أن الأفراد الذين أخضعتهم للبحث يُبرِّرون مثل هذا التعميم؛ وليس من حقي أن أقول عن المرأة في أنحاء العالم ما أقوله عن المرأة في مصر، ولا عن الرجل في أنحاء العالم ما أقوله عن الرجل في مصر، إذ قد يكون في مصر من الظروف الخاصة التي لا تُشارِكها فيها سائر الأقطار، والتي قد يكون من شأنها أن تكون المرأة في مصر أسلم نظرًا من الرجل وأسد رأيًا؛ والواقع أن هذا هو ما انتهيت إليه وما آمنت به وما أزعمه لك وما أرجو لك أن تأخذ به بعد بحث وتحقيق.
وإذا اتفقنا على صواب الرأي بقي علينا أن نُعلِّله، وقد فتح عليَّ الله بتعليلين أذكرهما لك وأرجو منك المزيد.
التعليل الأول هو أن الذكَر في مصر مُدلَّل لذكورته والأنثى مَهيضة الجناح لأنوثتها؛ قد تكون هذه ظاهرة طبيعية في العالم كله وفي عصور التاريخ كلها، لكني لا أكاد أراها في بلد من بلاد الأرض قد بلغت ما بلغته في مصر، وتكاد الآية الكريمة: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تتَّجه بالسؤال إلى المصريين اليوم كما اتَّجهت به إلى جاهلية القرون الغابرة؛ فلست أرى كبير فرق بين وأْدهن بالجسم ووأْدهن بالروح.
هذا الولد المُدلَّل يشعر منذ اللحظة الأولى لحياته الواعية أن فعله مقبول وقوله مُستطاب، فماذا عليه لو فعل الفضائح وقال الهُراء؟ إنه «ولد» وإنه مُدلَّل وإن مكانته في القلوب عالية رفيعة؛ إن تجهَّم له الوالد لفعله فهو يعلم في يقين أن الوالد هازل في تجهُّمه، وإن انتهرته الوالدة لقوله، فهو كذلك يعلم أنها مازحة في انتهارها؛ وتأتي بعدئذٍ مرحلة قريبة جدًّا من هذا، الانزلاق إليها سهل مُمهَّد يسير، وهي أن يستبِد هذا الولد ويطغى، لن يعود طلبه رجاءً، بل أمرًا يجب أن يُطاع، ولن تعود الحدود الضابطة لفعله وقوله هي ما له من حق وما لغيره من حقوق، بل يُصبِح الأمر كله رغبة يُريد إشباعها بأسرع الطُّرق؛ فلماذا يتأنَّى دقيقة أو دقيقتين ليُفكِّر هل أسرع الطُّرق لإشباع رغبته مشروع أو غير مشروع، فيه الإنصاف لغيره أو فيه الإجحاف عليهم؟
خُذ هذا الولد المُدلَّل الذي استبدَّ في بيته، وضعْ على شفته العليا شاربًا، يكُن لك الرجل المصري في شتَّى وجوه الحياة؛ هو لا يعنيه قُلامةَ ظُفر أن يعمل بحيث لا يُجاوِز حدود الحكمة والعدل والإنصاف، إنه رجل لا يعرف إلا أن يسلك لغايته أقصر السُّبل، ولتكُن السُّبل المُختارة ما تكون؛ ومن هنا كان الطُّغيان الضارب بأطنابه وكان الفساد؛ ولن أعتذر للقارئ عن كثرة ما قلته وما سأقوله ما استطعت أن أحمل القلم، عن الطُّغيان والطُّغاة، فذلك عندي ذنَب الأفعى ورأسها.
وعلى نقيض ذلك ما نشأت عليه الفتاة؛ فقد أدركت منذ اللحظة الأولى لحياتها الواعية أنها «بنت» وأنها بالقياس إلى شقيقها الذكَر لا تُساوِي شَرْوى نَقير، وإذن فلا بد لها من إقامة الدليل على أنها إنسان — ولا تقُل إن هذه بديهية لا تحتاج إلى برهان، فأنت في كثير جدًّا من الأحيان مُضطَر إلى البرهنة على أنك إنسان كغيرك من بني الإنسان — إي والله، أدركت البنت منذ اللحظة الأولى لحياتها الواعية ألا مندوحة لها عن إقامة الدليل على أنها إنسان كإخوتها الذكور، وإذن فلتُفكِّر مرتين قبل أن تنطق، حتى لا يُقال: أأنثى وتنطق بالهُراء؟ أحشَفًا وسوءَ كَيلة؟ ولتتدبَّر الأمر مرتين قبل أن تعمل، فيكفيها من مصائب الزمن أنها أنثى! وهكذا ينشأ لك من هذه الفتاة إنسان أقرب ما يكون إلى الحاكم الذي يضبطه برلمان يُحاسِبه على ما يقول ويفعل؛ فلئن كانت ظروف الأسرة المصرية قد خلقت من الولد طاغية مُستبِدًّا، فقد خلقت هذه الظروف نفسها من البنت إنسانًا عاقلًا مُتزِنًا صائب الرأي سديد النظر.
وتعليل آخر لتفوُّق المصرية على المصري: أن المرأة أقرب إلى الحُكم بغريزتها من الرجل، والرجل أقرب إلى الحُكم بمَنطِق العقل من المرأة؛ فلو عاش رجل وامرأة في ظروف سويَّة تُهذِّب الغريزة والعقل المَنطِقي معًا، لكان من العسير أن تحكم لأحدهما على الآخر، إلا أن تغوص في بحث فلسفي عويص في أيهما آمَن دليلًا: الغريزة أم مَنطِق العقل؟ أمَا وظروف الحياة في مصر ليست مما يُعين العقل على التفكير بمَنطِق سليم، إذ تُوشِك ألا تجد فيها شيئًا تَنبني فيه النتائج الصحيحة على مُقدِّمات صحيحة، أمَا وظروف الحياة المصرية تفعل هذا الصنيع في مَنطِق الرجل، ولا تُفسِد شيئًا من غريزة المرأة، لأن الغريزة أرسخ في النفس أساسًا وأعمق جذورًا من أن تُنال منها الزَّعازِع، فهذه الغريزة عند المرأة لم يعُد يُقابِلها شيء عند الرجل؛ أمامَك في كِفة الميزان غريزة فطرية وفي الكِفة الأخرى عقل مُختَل فاسد، فقُل بعد ذلك ما شئت في صدق الغريزة دائمًا أو خطئها أحيانًا، فهي على كل حال شيء يُقابِله لا شيء — أستغفر الحق — بل يُقابِله ما هو شر من لا شيء؛ لأن الفساد خير منه العدم.
أعود أيها القارئ فأستحلفك الذمة والضمير والإخلاص للوطن، أن تتدبَّر الأمر في روِيَّة وهدوء؛ فإن رأيت صوابًا ما زعمته لك، فاستجمع قُواك وتوكَّل على الله، وانزِل عن سلطانك لمن هي أحق منك بالسلطان.