لماذا لا نَخلُق (١)
لست أعرف للحياة معنًى إلا أنها قدرة الكائن الحي على الخلق والإبداع؛ هذه الشجرة كائن حي، لأنها تخلق من التراب غصونًا وأوراقًا وزهورًا وثمارًا؛ وهذا الطائر كائن حي، لأنه يخلق مما يُشبِه العدم بَيضًا تخرج منه الأفراخ؛ والإنسان حي بقدر ما هو مُبدِع خلَّاق، والأُمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع.
قال صاحبي: هذا كلام مكرور مُعاد؛ ماذا يُجدي أن تقول القول فلا تأتينا في القول بجديد؟
قلت: معذرة يا صاحبي، فلكَم لقيتُ من الناس من يَضطرُّك اضطرارًا أن تُقسِم له أغلظ الأيمان أن الحشائش خُضر وأن السماء زرقاء! لكَم لقيتُ من الناس في هذا البلد الأمين من يُحزِنه أن يُقال عن الإنسان إنه خالق مُبتكِر قوي غلَّاب، بقدر ما يُفرِحه أن يُقال له عنه إنه ضعيف عاجز مسكين! إن من الناس من أصابهم الله في أنفسهم بالعُقم والجمود، ونظروا إلى الدنيا من حوْلهم بمَناظير نفوسهم، فلم يرَوا فيها إلا ضعفًا وعجزًا وعُقمًا وجمودًا؛ قُل لهم: إن الإنسان مُستطيع ذات يوم أن يغزو الكون بعلمه، وأن يستخرج أسرار الطبيعة من بطونها ليُسخِّرها تسخيرًا، يعبسوا لك ويُقطِّبوا الجَبين؛ وقُل لهم: إن هذا الإنسان مخلوق ضعيف مُتهافِت هزيل، يُصفِّقوا لك إعجابًا وتعظيمًا! إنهم يُرحِّبون بما يَحد من قدرة الإنسان، وتتهلَّل بالبشر أساريرهم إن قيل إن سلطان القدَر فوق كل سلطان؛ إن سادت طبقة من الناس على طبقة فهذا حكم القدَر، وإن هبطت أثمان السلع في السوق فهذا حُكم القدَر، أو ارتفعت الأثمان فهذا حكم القدَر، وإن تفشَّى البؤس والمرض والفقر والجوع فهذا أيضًا حكم القدَر؛ وسأنسى كثيرًا جدًّا مما قرأت، ولكن مهما أُنسيت فلن أنسى أبد الدهر مقالًا قرأته لأديب فاضل جليل فنزل على نفسي نزول الصواعق، وكان قد زاد من حسرتي أنه مقال جميل! قرأت مقالًا ينهى فيه الأديب الجليل الفاضل ابنه أن يحزن لمَنظَر بائس جائع يجمع الفُتات من ثنايا القُمامة والروَث والطين، قائلًا لابنه: يا بُني لا يجمل بك أن تحزن فهذا حُكم القدَر، وإن في حُكم القدَر لحكمةً تخفى عن الأبصار! ثم قرأت للأديب الفاضل نفسه مقالًا يعرض فيه على قُرائه بعض ما وصل إليه العلماء في الغرب، فأشاع في كلامه تهكُّمًا على العلماء ومجهودهم، لأنهم في رأيه يخبطون رءوسهم في جُدر صمَّاء! إننا لا ننقد العلماء لأننا نعرف أين يُخطئون وكيف يصلحون، لكننا ننقدهم لأنهم يخلقون ونحن لا نُحب الخالقين! ننقدهم لأنهم قادرون ونحن لا نُحِب القادرين، ننقدهم لأنهم لم يستسلموا للعجز ونحن إنما نُحِب العاجزين!
نحن لا نخلق جديدًا، ولا نُريد أن نخلق جديدًا، بل يُسيء إلينا أن نسمع عن إنسان أو عن أُمة أنها تُحاوِل أن تخلق جديدًا؛ لكن الحياة معناها القدرة على خلق الجديد، والإنسان حي بمقدار ما هو مُبدِع خلَّاق، والأُمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع؛ ألا يأخذك يا صاحبي الهم والغم والحزن أن تتلفَّت فلا ترى إلا جدبًا ونُضوبًا وعُقمًا وجمودًا؟ إننا لا نكاد نخلق شيئًا واحدًا جديدًا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن نتقدَّم به بين يدي الله يوم الحساب، فنُقيم الدليل على أن الحياة التي هيَّأت لنا أسبابها لم تذهب أَباديدَ.
لا نكاد نخلق شيئًا واحدًا جديدًا في العلم، وأُعيذك يا صاحبي أن تُخدَع فتمزج بين العلماء وطلبة العلم؛ فالفرق بعيد بُعد ما بين الأرض والسماء، بين عالم يُنتِج الرأي الجديد وبين رجل يحفظ ويفهم ما أنتجه العالم من رأي جديد؛ علماؤنا تلاميذ كبار، والفرق بينهم وبين التلاميذ الصغار هو أن هؤلاء الصغار لا يزالون يحفظون ما درسوه، وأما أولئك الكبار فقد أنْستهم مَشاغِل الزمن ما حفظوه؛ الفرق بعيد بُعد ما بين السماء والأرض بين الرياضي وطالب الرياضة، وقد يكون طالب الرياضة طفلًا قصير السراويل، وقد يكون رجلًا له لِحية وشارب، الفرق بعيد بين فيثاغورس حين أقام البرهان على نظريته في الهندسة وبين التلميذ — صغيرًا كان أو كبيرًا — يحفظ هذا البرهان؛ هذا التلميذ وفيثاغورس قد يتساوَيان في العلم بهذه النظرية وبرهانها، ومع ذلك ففيثاغورس رياضي لأنه خلق البرهان خلقًا من العدم أو ما يُشبِه العدم، والتلميذ تلميذ لا أكثر ولا أقل لأنه لم يزِد على أن حفظ وفهم؛ فإن زعم لك زاعم بعد اليوم أن بيننا العلماءَ والرياضيين، فاسأل: ماذا خلقوا من جديد في العلم أو الرياضة، ولا تسأل ماذا حفظوا، وإن كان للحُفاظ عند الله أجر وثواب!
ونحن لا نكاد نخلق شيئًا جديدًا في الأدب، وإني أُعيذك مرة أخرى أن يخدعك الترقيم الأسود على الصفحات البِيض، أُعيذك أن تُخدَع بما يقوله أدباؤنا عن أنفسهم وما يتقارَضونه فيما بينهم من حمد وثناء؛ واجعل مِقياسك شيئًا واحدًا إن أردت الهداية والسداد، وهو الخلق والإبداع؛ سلْ أدباءنا: كم «شخصية» خلقها الأدب المصري كله من أول الزمان إلى يومنا هذا، بحيث أضاف بخلقها إلى مخلوقات الله إنسانًا جديدًا يشيع ذِكره بين الناس أضعاف ما يشيع ذِكر سائر الناس؛ ولست أُريد أن أزيد من يأسك أيها القارئ الكريم، وإلا لذكرت لك حقيقة مُروِّعة ستهولُك وتُشيع الحسرة في نفسك، وهي أن من أدباء الغرب من خلق وحدَه ستين «شخصية» أو سبعين! أديبنا — مثل العالم عندنا والرياضي — تلميذ كبير، مقالته تختلف عن موضوع الإنشاء يكتبه التلميذ الصغير في الكم لا في الكيف، تختلف في الدرجة لا في النوع، فالأديب محصوله من الأفكار أعظم من محصول التلميذ الصغير، وثروته من الألفاظ أغزر، فإذا قيل للتلميذ الصغير — مثلًا — اكتب موضوعًا في «وجوب العناية بالأطفال»، ثم قيل للأديب الكبير اكتب مقالًا في هذا الموضوع، جاءنا الأول في موضوعه الإنشائي بفكرة واحدة وجاءنا الثاني في مقالته بعشرة أفكار أو عشرين، وربما أخطأ التلميذ الصغير في النحو واستعمال الكلمات عشر مرات، وأخطأ الأديب الكبير مرة واحدة؛ فالفرق — كما ترى — بين التلميذ والأديب فرق عددي لا فرق في نوع المكتوب؛ أما أن يكتب أديبنا شيئًا من نوع آخر فليس ذلك في مقدوره، لسبب بسيط، وهو أنه عاجز عن الخلق، وليس في استطاعته أن يُبدِع وأن يبتكر؛ ستقول: وماذا تُريد من الأديب أن يصنع سوى أن يكتب أفكارًا كثيرة في لغة جميلة لكي يجيء ما كتبه مقالة أدبية ممتازة؟ وليس لي جواب عن سؤالك إلا أن أُشير عليك بقراءة المقالة الأدبية عند أبطالها «مونْتيني» و«أَدِسُنْ» و«لام» وغيرهم لتعلم في يقين أن الأدب المصري كله لا يكاد يحتوي على مقالة أدبية واحدة من الطِّراز المُمتاز؛ ولست أريد أن أزيد من يأسك، وإلا لذكرت لك حقيقة مُروِّعة ستهولُك وتُشيع الحسرة في نفسك، وهي أن الأديب المصري لا يكاد يعرف إلا المقالة وسيلةً للتعبير، على حين أن المقالة في الآداب الغربية لا تكاد تكفي وحدَها أن تُنشئ أديبًا.
لقد حدث مرة أني كنت أُمثِّل بلادنا في مؤتمر ثقافي جمع عشرات من مُمثِّلي الدُّوَل الأخرى، وأُريدَ منا أن يكتب كلٌّ قائمةً تحتوي على عشرة كُتب أدبية من إنتاج بلده مما يصح أن يُترجَم إلى سائر اللغات فيكون أدبًا عالميًّا، لأنهم رأوا في ذلك وسيلة لتوثيق العُرى بين الأمم، فانتبذتُ في المساء ركنًا أُفكِّر وأُفكِّر ثم أُفكِّر، لعلي مُهتدٍ إلى عشرة كُتب أُقدِّمها للعالم نموذجًا لأدبنا، مما يصح أن يكون أدبًا عالميًّا، فلمْ أجد، وإني أتحدَّى قارئًا يزعم عني الخطأ والضلال أن يُذكِّرني بما قد نسيت من روائعنا الأدبية التي يجوز لنا أن نتقدَّم بها إلى العالم فخورِين! ولست أُريد أن أزيد من يأسك أيها القارئ الكريم، وإلا لذكرت لك حقيقة مُروِّعة ستهولُك وتُشيع الحسرة في نفسك، وهي أن الرجل من إنجلترا أو فرنسا — مثلًا — لو سئل هذا السؤال لأغمض عينيه، ووضع يده على كاتب واحد من أدباء بلده، في جيل واحد من الزمان، وانتقى للناس عشرة كُتب لهذا الكاتب الواحد في هذا الجيل الواحد!
إننا لا نكاد نخلق من الأدب شيئًا جديدًا، هذا ما أزعمه وما أعتقد أن قارئي سيُجادِل فيه أشد الجدل، لأنه سيجد حوله كتبًا تُطبَع وخُطبًا تُسمَع، وسيجد في الصُّحف أنهارًا بعد أنهار من النثر والنَّظم؛ ما هذا كله إن لم يكُن أدبًا؟ والحق أني أُقدِّر كل التقدير شيئًا كثيرًا جدًّا من هذا كله وإن تمنَّيت على الله شيئًا فهو أن يُكثِر لنا من أمثاله ليُزيل عن أبصارنا غِشاوة وعن بصائرنا حِجابًا؛ لكني مع هذا التقدير كله والإعجاب كله لا زلت أزعم — وفي القلب حسرة — أننا لا نكاد نخلق في الأدب شيئًا جديدًا؛ قد يكتب لك الأديب المصري، فإذا الذي يكتبه رأي في علم الاجتماع يبسطه، أو في علم النفس يشرحه، أو قطعة من التاريخ يرويها، أو مذهب في السياسة يُريد له الذيوع والشيوع؛ قد يكتب لك الأديب المصري عن المتنبي ليقول لك إنه شاعر عظيم، أو يُترجِم لك عن شكسبير ليقول إنه شاعر أعظم؛ وهذا كله نافع جدًّا ومُفيد جدًّا، ونتمنَّى على الله أن يزيد لنا منه، لكنه رغم نفعه وفائدته شيء والخلق الأدبي شيء آخر.
كلا، ولم نخلق شيئًا واحدًا جديدًا في الفلسفة، وإني أُعيذك مرة ثالثة أن تُخدَع بما يزعمه لك «تلاميذ» الفلسفة عن أنفسهم، فأُقسِم لك بالله غير حانث أنني ضحكت وقهقهت حتى استلقَيت في مَقعَدي حين قرأت ذات يوم لأستاذ جليل تعلَّم الفلسفة ويُعلِّمها، يقول في مَجرى كلامه: «نحن الفلاسفة …»! وقُل مثل هذا في الفن وما شئت من نواحي الفكر.
أعود فأقول إن الإنسان حي بمقدار ما هو مُبدِع خلَّاق، والأُمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع؛ ثم أعود فأزعم أننا لا نكاد نخلق شيئًا واحدًا جديدًا في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن.
لماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال.
والجواب عندي هو أننا لا نخلق ولا نبتكر؛ لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق لا يكون إلا بعد سيادة وعِزة وطموح؛ وسأشرح لك هذا الرأي في المقال التالي.