لماذا لا نَخلُق (٢)
زعمت لك في المقال السابق أننا لا نكاد نخلق شيئًا واحدًا جديدًا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، وأعذتُها نظراتٍ منك صادقة أن تحسب الشَّحم فيمن شحمه ورَم، حين أعذتُك بالله من خديعة الشيطان التي قد تُوهِمك بشبه بين العالِم وطالب العلم، بين الأديب وشارح الأفكار، بين الفيلسوف وقارئ الفلسفة، أو بين الفنَّان ومن يتحدَّث في الفن وينقده؛ وزعمت لك أن الفرق بعيد بُعد ما بين السماء والأرض بين الرجل يخلق ما يقوله خلقًا من العدم أو ما يُشبِه العدم، وبينه يفهم ما خلقه سواه ويَعِيه، بل يُطبِّقه ويستخدمه أحسن استخدام وتطبيق؛ فربما رأيت طُلابنا في المدارس يتعلَّمون الطبيعة والكيمياء، والرياضة والأدب، ورأيت الناس في شوارعنا وبيوتنا يستخدمون السيارة والمِسرَّة والبرق والمِذياع، ربما رأيت ذلك كله فصِحت لنفسك في إعجاب: أما والله إن منا لعلماء ومُعلِّمين ومُتعلِّمين، أين الفرق — إذن — بيننا وبين بلاد الغرب التي سارت بذِكرها الرُّكبان؟ فأنا أعلم سرعة الوقوع في مثل هذا الخطأ؛ مثال ذلك أني كنت أتحدَّث إلى طبيب مصري قدير نابه على شاطئ البحر من مدينة «برايتن» في إنجلترا.
قال الطبيب الصديق: جئت إلى هذه البلاد «إنجلترا» يحدوني الأمل أني لا شك واجدٌ عند أساطين الطب ما يستثير مني العجَب والإعجاب، فإذا بالأساطين لا يكادون يُسمِعونني في الطب جديدًا؛ أفنحن بعد ذلك مُصدِّقون لما يُذيعه المُعجَبون بهذه البلاد وأصحابها؟
فقلت له: لا تخلط يا صديقي بين الإبداع والتقليد، وحذارِ أن تمزج بين الابتكار والتَّكرار؛ فهؤلاء الناس هم الذين خلقوا لك الطب خلقًا بعد بحث ودراسة وتمحيص، ثم دوَّنوا علمهم في كتاب ثم أرسلوا لك الكتاب وأنت في القاهرة المُعِزية ناعم البال، فنشطت كما ينشط «الشطار» وحفظت الكتاب عن ظهر قلب من الغلاف إلى الغلاف، فإذا ما جئت اليوم ها هنا وسمعت صاحب الكتاب ومُبدِع ما فيه يتحدَّث إليك بما يرِن في أذنيك رنين المعهود والمألوف، فلا يخدعنَّك ذلك عن الحقيقة الساطعة، وهي أن من بحث ودرس ومحَّص ثم دوَّن نتائج بحثه ودرسه وتمحيصه هو الطبيب العالم؛ أما أنت فتلميذ «شاطر» حفظ ووعى وطبَّق ما حفظ وما وعى.
فلو فرضنا أن جماعة من الجن تآمَرت على ثمار المدنية كلها فمحتها محوًا بين عشية وضحاها، واستيقظ الناس ذات يوم ليرَوا أن بلادهم قد خلت من سياراتها وطياراتها وعلومها وآدابها وتصاويرها وتماثيلها، بل لو فرضنا أن جماعة الجن المُتآمِرة قد أحكمت تدبير المؤامرة فعمَدت إلى محو كل أثر لهذه الأشياء من أذهان عارفيها، لو فرضنا ذلك لتوقَّعنا لإنجلترا أو فرنسا — مثلًا — أن تُنتِج السيارة والطيارة من جديد، وأن تخلق علومها وتُنشئ آدابها من جديد، وأن ترسم تصاويرها وتنحت تماثيلها من جديد، لأن هذه الأشياء كلها كانت من خلقها وإبداعها، وليس أيسر على الخالق من أن يُعيد خلقه سيرته الأولى؛ أما نحن الذين لم نخلق من هذا كله شيئًا، فسيُكتَب علينا بعد مؤامرة الجن أن ننتظر في خلاء حتى يفرغ أولئك الخالقون من خلقهم وإنتاجهم، فننقل بعض ما خلقوا وما أنتجوا؛ ثم سرعان ما يأخذنا الغرور فنصيح لأنفسنا هاتفِين: الآن قد استوى الماء والخشبة! لقد زال ما بيننا وبين الغرب من فروق! لكن الفرق بعيد بُعد ما بين السماء والأرض، بين الابتكار والتَّكرار؛ هم في الغرب يخلقون، وقُصارى جهدنا أن ننقل عنهم بعض ما خلقوا؛ فلماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال الذي ألقيته في ختام المقال السابق وردَدت عليه في إيجاز بما أراه جوابًا صوابًا، وهو أننا لا نخلق ولا نبتكر لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق إنما يحتاج إلى سيادة وعزة وطموح، وقد وعدتك أن أُفصِّل القول في هذا الرأي بعض التفصيل.
والرأي عندي هو أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، وعبيد في فلسفتنا الاجتماعية، وعبيد في بِطانتنا الثقافية.
فنحن عبيد في فلسفتنا الأخلاقية؛ لأن مقياس الفضيلة والرذيلة عندنا هو طاعة سلطة خارجة عن أنفسنا أو عصيانها، فأنت فاضل إن أطعت، فاسق إن عصيت، فلست أنت الذي يُشرِّع لنفسه ما يأخذ وما يدع وما يعمل وما لا يعمل، ويستحيل أن تكون إنسانًا حرًّا إلا إذا كان لك من نفسك مُشرِّع يهديك سواء السبيل، بغض النظر عما تُمليه السلطة الخارجة عن نفسك، وبغض النظر عن كل ما يترتَّب على عملك من ثواب أو عقاب؛ إذا أنت أحسنت إلى الفقير لأنك مأمور أن تُحسِن إلى الفقير، فأنت في إحسانك عبدٌ يأتمِر بأمر سيده، وقد يكون هذا السيد رأس القبيلة أو رئيس الحكومة أو قانون الدولة أو أباك أو كائنًا من كان، لكن جوهر الأمر واحد في جميع الحالات؛ أما إذا أحسنت إلى الفقير صادرًا في ذلك عما تُمليه عليك نفسك من واجب يُحتِّمه العقل الخالص ومَنطِقه، كنت في ذلك سيدًا حرًّا يستهدي نفسه سواء السبيل.
قد يعمل زيد من الناس عملًا فاضلًا حين يُنفِّذ بعمله هذا أمرًا صدر له من سلطة خارجة عن نفسه، وعدَته ثوابًا إن عمله، وتوعَّدته عقابًا إن تركه؛ وقد يعمل عمرو نفس العمل الفاضل الذي عمله زيد، لا لأنه مأمور بفعله، بل لأن مَنطِق عقله يهديه من تلقاء نفسه إلى فعله؛ أقول قد يتشابه زيد وعمرو كل التشابُه فيما يعملان في موقف مُعيَّن، لكنهما يختلفان في الدافع إلى العمل، فيكون الدافع عند زيد هو تنفيذ الأمر الذي صدر إليه، بينما يكون الدافع عند عمرو هو الاهتداء بهُدى نفسه، فيكون زيد في عمله عبدًا، ويكون عمرو في عمله حرًّا، على الرغم من تشابُه ما يعملان.
وأنا زعيم لك أننا نحمل في صدورنا أنفُس العبيد، لأن فلسفتنا الأخلاقية كلها قائمة على تنفيذ ما نُؤمَر به.
ونحن كذلك عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، سواء في ذلك الأسرة بصفة خاصة والمجتمع كله بصفة عامة؛ فالأسرة عندنا قائمة — من الوجهة النظرية على الأقل — على الاستبداد من صاحب الأمر والطاعة العمياء ممن يعتمدون في حياتهم عليه؛ فالزوج صاحب الكلمة النافذة على زوجته، وللوالدَين كلَيهما سلطة التحكُّم في الأبناء؛ وكثيرًا ما قلت ذلك لأصدقائي فأجابوني بإشارات التهكُّم من وجوههم وأيديهم: تعالَ فانظر، ترَ الزوجة مُستبِدة طاغية، وترَ الأبناء ذوي إرادة نافذة ودلال؛ لكن تهكُّم الأصدقاء لا يُقنِع، لأنني لا أزال أنظر إلى الناس من حوْلي فأُلاحِظ أن الأسرة المثالية التي يفخر بها سيدها ويتمدَّح بها الناس، هي التي يكون للزوج فيها على زوجته كلمة لا تُرَد، ويكون للوالدَين فيها حق الأمر الذي يجب على الأبناء أن يصدعوا به؛ ولا أزال أنظر إلى الناس من حوْلي فأُلاحِظ أنه بمقدار ما يكون للزوجة من مساواة بزوجها، وللأبناء حق مناقشة الوالدَين فيما يرغبون وما لا يرغبون، تكون الأسرة بعيدة عن الكمال في أعيُن الناس.
مثل هذه الأسرة شبيه بالدولة الاستبدادية على نطاق ضيِّق، فيها حاكم بأمره طاغية، وشعب يُطيع ولا يُناقِش، فيها راعٍ ورعيته بالمعنى الحرفي لهاتين الكلمتين، أعني أن فيها راعيًا وقطيعًا من الخِراف؛ لو كان سيد الأسرة ممن يُحِبون الصمت في الدار وجب على العيال أن يصمتوا في حضرته، وفي ذلك تضحية واضحة لمصلحة العيال في سبيل مزاج العائل؛ ولو كانت الأسرة دولة حرة، لفكَّر الكبير في سبيل مصلحة الصغير بمقدار ما يتوقَّع من الصغير أن يُفكِّر له في صالحه، الكبير من طبيعته الصمت والصغير من طبيعته الزياط؛ فبأي حق يكُم أصحاب الجيل الحاضر أبناء الجيل المُقبِل؟ لكنها فلسفة اجتماعية ورِثناها في نظام الأسرة وتمسَّكنا بها، وهي تنطوي — كما قدَّمت — على بث أخلاق العبيد في نفوس الناشئين.
ونحن عبيد في فلسفتنا الاجتماعية أيضًا بالنسبة للمجتمع كله على وجه العموم؛ فالمجتمع عندنا قائم على أساس أن الناس درجات؛ وليس من اليسير على عقولنا أن تفهم ولا أن تُسيغ أن الناس قد تختلف أعمالهم مع تساويهم في القيمة الإنسانية؛ فمن يحتل درجة أعلى له الحق — من الوجهة النظرية على الأقل — أن يستبِد بمن هو في درجة أدنى، والعكس صحيح؛ أي أن من يحتل في المجتمع درجة أدنى عليه واجب أن يذِل لمن هو أعلى منه؛ وإنه ليكفيك أن تُلقي نظرة خاطفة على تتابُع الدرجات بين مُوظَّفي الحكومة، وشدة اهتمام المُوظَّفين بها اهتمامًا يكاد لا يُبقي لهم من الوقت لحظة واحدة يأكلون فيها هنيئًا ويشربون مريئًا — ولا أقول لحظة واحدة يعملون فيها ما يُؤجَرون على عمله — يكفيك هذا لترى أساس المجتمع واضحًا مُنعكِسًا في نظام الحكومة؛ والنظر إلى الناس على أنهم درجات مُنطوٍ على عبودية وطغيان، عبودية لمن يقع فوقك، وطغيان بمن هو دونك في سُلم البشر.
ونحن كذلك عبيد في بِطانتنا الثقافية، نَكره المُتشكِّك ونَمقته، ونُحِب المُؤمِّن المُصدِّق ونُقدِّره؛ يسودنا مَيل شديد إلى الإيمان بصدق ما قاله الأوَّلون، كأنما هؤلاء الأوَّلون ملائكة مُقرَّبون، وكأننا أنجاس مَناكيد، ولو حلَّلت هذا الموقف تحليلًا صحيحًا، ألفَيته موقف العبد نحو سيده، فأنت تقرأ الكتاب — والكتاب القديم بوجه خاص — فلا ينشط فيك عقل الناقد الذي ينظر إلى الكاتب نظرة النِّد للنِّد يُناقِشه الحساب فيما يقول، بل تقِف مما تقرؤه موقف المُستمِع الذي حرَّم الله عليه أن يتشكَّك في صدق ما يُقال؛ ومن هذا القبيل مَيل الناس بصفة عامة إلى تصديق المطبوع، وميل التلاميذ إلى الإيمان بصدق ما يقوله المُعلِّم؛ هذه وأمثالها عبودية فكرية، ويستحيل أن تكون إنسانًا حرًّا بغير شيء من الفكر المُستقِل الناقد الحر.
فلئن زعمت لك أننا لا نكاد نخلق شيئًا جديدًا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، ثم زعمت لك أن علة ذلك العجز هو ما نحمله في صدورنا من أنفُس العبيد، لأن الخلق لا يكون بغير عزة وطموح، فإنما أردت شيئًا كهذا الذي سُقته إليك مثلًا يُوضِّح ما أُريد.