شيطان الجُرَذ
حدَّثني صاحبي، وكان ممن يفهمون عن الحيوان الأعجم؛ أن جرذًا يافعًا كانت تسري فيه الحياة مرِحة وثَّابة، فكان كله قوة وكله أملًا وكله حركة ونشاطًا، كأنما انسكب في أعصابه من الحياة أكثر مما تسع أعصابه، فهو لا يستطيع — وإن أراد — أن يقر في مكان ساعة من زمان، ولا يعرف من دهره إلا أن يسير في مناكب الأرض سعيًا وإن لقِي في سبيل ذلك حتفه؛ فما أرخص الموت عنده بالقياس إلى إثبات وجوده وتقرير ذاته، حتى لا يُطوى العمر دون أن يُحِسه الوجود؛ فإن هالَك هذا الأمل العريض يَنشده مثل ذلك البدن الواهن العاجز فابتسمت إشفاقًا وسخرية؛ أجابك في مثل سخريتك بأن الوجود وجوده هو، وبأنه من الغفلة أن يكون وألا يكون في آن معًا؛ فاضحك ما شئت فلن يَنثني الجرذ عن أن يكون في دنياه شيئًا كما أراد له بارئه أن يكون!
وكان الجرذ وحيد أُمه، فرأت منه تلك الأم العجوز المُحطَّمة ذلك الوثوب فلم يكُن معناه في قاموس ألفاظها إلا النزَق والطيش، فلم تدَّخر وسعًا في الحد من نشاط وليدها وهو قُرة عينها وأملها الذي يُعيد لها الشباب بشبابه، فكانت تستقبله في لهفة الأم الحدَبة الحنون، وتكيل له عظات السنين نصحًا بألا ينصاع لدعوة شيطانه الخبيث: ألا ترحم يا ابناه أمك المُكتهِلة؟ ما ضرَّك أن تهدأ في كمينك بين ذراعي وأمام بصري؟ لئن يكُن قد أغراك بالدنيا رعدها وبرقها؛ فما ذاك يا ولدي إلا رعد خُلَّب وبرق كذوب! وإن يكُن قد أهاب بك صوت المَجد؛ فما ذاك يا بُني إلا صيحة الشيطان فيك، يأبى عليك الأمن فينصب لك حبائل الموت باسم المَجد والخلود! خُذها كلمة أملَتها تجربة السنين: لن يغنم الحي من حياته إن كان حكيمًا بأكثر من الدعَة والهدوء؛ ماذا تُجدي عليَّ الدنيا بأسرها إن راعَك سِنَّور فدهاك ففجعني فيك؟ القناعةَ القناعةَ يا ولدي، فأقل العيش مع القناعة خير وفير، وملك الأرض كلها مع الطموح الكاذب يسيرٌ حقير!
عاد الجرذ يومًا من جولة المساء فاستقبلته أُمه بهذا النصح الذي وقع منه مَوقِع السحر، فتسلَّل إلى مَخدَعه واندَس في فراشه وهو يُردِّد: نعم ماذا تُجدي الدنيا بأسرها إن راعني سِنَّور فدهاني فأوردني مُر الحتوف؟! صدقت يا أُماه، فلن أبرح الدار بعد اليوم، وحسبي من دهري زادٌ يُقيم الأوَد ويحفظ الأنفاس، إن الشرف ليقتضيني ألا أستمع لهذا الشيطان الملعون الذي يُوسوِس لي كلما أقبل المساء أن أتستَّر تحت جناحه الأسحم وأسطو على مِلك غيري من عباد الله! كلا! إن هذا الشيطان العابث ليُزخرِف لي الرذيلة بإكليل المَجد الزائف، ويُشوِّه في عيني الفضيلة فيُسمِّيها لي استكانة وخنوعًا!
وأخذت الفأرَ اليافع سِنةٌ من النوم وهو يُغالِب في نفسه هذه الأهواء المُصطرِعة المُتنازِعة، فصوْت أُمه يدعوه إلى مُلاينة الدهر والرضا بأخشن العيش وأغلظه ليغنم السلامة ويُجنِّب نفسه الخطر؛ ونعيم الدنيا يُغريه بالمُنازلة والجهاد حتى يظفر لنفسه بأمتع العيش وأنعمه، فلا ينبغي أن يقنع باليسير وغيرُه غارق إلى آذانه في الوفير الغزير ويقول: هل من مزيد؛ والحياة تُعطيه! ولم يكَد يَغط الجرذ المذكور في نعاسه حتى رأى في نومه، ويا لَهول ما رأى؛ رأى في السماء سحابة حمراء أخذت تتشكَّل وتستوي حتى استقامت أمام ناظرَيه كائنًا مُخيفًا، ترتعش شفاهه من الغيظ وتكاد تقدح عيناه الشرَر؛ وأخذ يُحدِّق في الفأر الصغير وكأنما يُرسِل في نفسه من نظراته سهومًا مسمومة يرتعد لها الفأر ويرتاع، فقال الجرذ في رجفة الجازع: من؟
– أنا شيطانك الأمين.
– اغرب عني فلن أستجيب لك بعد اليوم، إني أعوذ منك بنصيحة أُمي!
– بل يا أحمق لُذ بقيادي من نصيحة أُمك؛ نصيحة؟ إنها لَلضلال المُبين! كأني بك قد أصَخت إلى هذا الهُراء الذي لقَّنته أُمك إياك منذ حين! يا بُني، لا تخدعنَّك ألفاظ الفضيلة والحكمة الجوفاء؛ إنها سموم أنشأها لكم القوي إنشاءً لتسكُن أعصابكم وتهدأ نفوسكم، حتى إذا ما تدارَيتم في بطون جحوركم أخذ يتقلَّب في نعيمه ويتمرَّغ في أسباب ترَفه؛ لماذا يكفيك من عيشك كِسرة خشنة ولغيرك أطيَب الآكال؟ ألست تُؤدِّي للحياة واجب الحياة على أتم نحو وأكمل صورة؟ فقُم وانهض إلى الدنيا العريضة مُجاهِدًا حتى تنتزع من مِخلَب الدهر حياة مَريئة، فيكون لك بها نشوتان؛ نشوة الغنيمة نفسها ونشوة الظفر بالغنيمة، قُم واملأ الدنيا ضجة وصياحًا حتى يعترف لك الوجود بالوجود.
– ولكن السِّنَّور الأشهب يجول في البيت فيَملأ أبهاءه بمُوائه.
– تبًّا لكم يا معشر الجِرْذان! إنكم لا تنفكُّون تضعون لأنفسكم الحوائل تبريرًا لعجزكم أمام ضمائركم المُعتلَّة، إن هذا السِّنَّور نفسه لَداعية لك أن تنهض وتسري في أنحاء الدار، حتى إذا ما ظفرت ببُغيتك صِحت في استكبار الظافر، تلك بُغيتي أصبتُها وأنف السِّنَّور في الرُّغام؛ وهل يلذُّ السعي ويطيب الجهاد بغير ذلك العدُو العنيد تُغالِبه فتَغلبه؟ أكنت تُريد أيها الجندي الخائر أن تُحارِب في الموقعة بغير أعداء ثم تزعم لنفسك النصر والظفَر؟
– إن لكلامك يا شيطاني لسِحرًا أبلغ السِّحر، حتى لكَأن ألفاظك يا لعينُ شواظ من نار تلتهب أُوارًا في حشاي، لكَم ودِدت أن أُتابِعك لولا أن تقول أمي ويقول الجرذان: لقد تابَع الغِر شيطانه المَريد!
– إن فعلوا فقُل لهم: لَهذا الشيطان صوت الحق والحياة، وإنكم لدُعاة الجمود والموت؛ فشيطاني أحق أن أتبع. إن ما يُشير به الكهول يا بُني بِاسم الحكمة خدعةٌ باطلة، واسمه الصحيح هو الجبن والخوَر؛ أفأنت بحاجة إلى أن أُذكِّرك بأنه لن يُصيب نعيم الدنيا إلا الفاتك اللهِج؟ هذه دُوَل الأرض جميعًا فانظر أيها الظافر، أهي التي خشِيت وثبة النمر فقبَعت في عُقر دارها أم من تنمَّرت فوَثبت فكان لها من رقاع الأرض أوفر الحظوظ؟ إنه لخير لك ألف مرة أن تستأسِد يومًا ثم تموت من أن تعيش في هذا الخمول قرنًا كاملًا.
فثارَت نخوة الفأر واشتعلت حماسته، ونفض الفراش من حوله وأقسم ألا يستسلم بعد الساعة لدعوة أُمه العجوز، وانتفض انتفاضة عنيفة استيقظ على إثرها من نعاسه، واستوى جالسًا في مَخدَعه يستعيد ما أملاه عليه شيطانه في حُلمه، وإذا به كلمة الحق والقوة والحياة، ثم جهر في صوت مسموع: نعم لن أصبر على هذا العيش الغليظ لحظة واحدة! وسمعت أُمه القول فارتعدت في نومها فازعة: ماذا تقول يا بُني؟
– وداعًا يا أُماه، فانعمي أنت بأنفاسك الذليلة لتغنمي العافية؛ أما أنا فلن أدعَ نحوًا من أنحاء البيت إلا ارتدتُه ونعمت بما فيه، وهنيئًا بعد ذلك بمِخلَب القط.
وتسلَّل الجرذ إلى حُجَر الدار وأبهائها، فهذا طعام شهي يأكله وذاك شراب سائغ يستقيه، فإذا أثقل الكرى جفنَيه تخيَّر لنفسه بين أَرْدية الدِّمَقس مَرقدًا وثيرًا. وتعاقبت الأيام والليالي والفأر الصغير النشيط ناعم في عيش هنيء مَريء، حتى كان مساء مشئوم؛ وإذا بمِخلَب السِّنَّور يهوي في ظلمة الليل فيغرس أظافره في الجرذ المُمتلئ، ويصيح هذا صيحة ترِن أصداؤها في جُحر الأُم، فتأتي لاهثة جازعة لترى وليدها ووحيدها جريحًا طريحًا أمام القط الكاسر.
– يا ويلتاه! لقد كان ما خِفت أن يكون.
– عَنِّي يا أُماه؛ لَلموت بعد نعيم العيش أشهى من الحياة في ظلمة الجحور.