الفصل العاشر
جلَس توم في غرفته الصغيرة المبنية أعلى إسطبل الخيول ونظَر في فخر وسرور إلى خِطابٍ كان قد تسلَّمه لتوِّه من جورج شيلبي، وقد بدت له الكتابة المستديرة الصبيانيَّة أفضلَ وأروع خطٍّ رآه في حياته.
قال توم: «صدِّقيني يا سيدة إيفا، سيُصبح ذلك الفتى رجلًا رائعًا، إنه لا يستطيع أن يُوقِف هذا الأمر فهذه هي طبيعته. إنه لم يبلغ من العمر سوى أربعة عشر عامًا، ويُمكنه أن يُرسل إليَّ خطابًا هنا يَطْرب له قلبي. اقرَئيه عليَّ مرةً أخرى من فضلكِ سيدتي الصغيرة، هلَّا فعلتِ؟»
قرأَت إيفا الخطاب مرةً أخرى وانهمرَت الدموع على وَجنَتَي توم فيما كان يسمع الكلماتِ التي كتَبها الفتى الذي يُحبه.
عزيزي العم توم العجوز؛ لقد وصلَنا خطابك، ويا إلهي! نحن في غاية السرور لأن نعرف أنكَ مُرتاحٌ كثيرًا، لكنني أفتقدُكَ كثيرًا، كلُّنا نفتقدكَ. قريبًا ما سيَلتئِم شملنا في المنزل مرةً أخرى. كانت أمي تُعطي دروس موسيقى من أجل أن تجمع المال لشرائكَ مرةً أخرى، لكن هذا لن يكون ضروريًّا؛ ذلك أن العمة كِلوي ذَهبَت تعمل طاهية في لويفيل وستُوفِّر كل ما ستجمع من مالٍ لشرائك، وسأُساعدها أنا. إنها إذا ما حصَلَت على أربعة دولارات في الأسبوع على مدار اثنَين وخمسين أسبوعًا فهذا يعني أنها حصَلَت على اثنَين وخمسين ضعفَ الأربع دولارات؛ ما يُساوي مائتَي دولار وثمانية دولارات. إن أطفالكَ بخير، وطفلكَ الصغير يسير الآن على قدمَيه على نحوٍ أفضل. كوخك مُغلَق الآن، لكن حين تعود سآمُر بأن يكون أكبر في المساحة، وأفضلَ في الشكل مما كان عليه من قبلُ. إنني أَدرُس القراءة والكتابة والعديد من المواد الأخرى. هل ما زلت تحتفظُ بالدولار الذي أعطيتُكَ إياه؟ إنني أشعر بالسعادة أنني أعطيتُكَ إياه. ولا أجد ما أقوله أكثر من ذلك، سوى أنني أُحبكَ وأنني أدعو في صلاتي كُلَّ يومٍ أن تعود إلى المنزل.
تنهَّد توم تنهيدةً طويلة بفِعل شعوره بالإعجاب، وغَمغَم بدعوة ﻟ «السيد جورج»، ثم خرج مع سيِّدته الصغيرة ليُشاهدا غروب الشمس.
كانت العائلة قد انتَقلَت إلى منزلها الصيفي عند بُحيرة بونتشارترين، وكان المنزل المبني على الطراز الهندي الشرقي مُحاطًا بحدائق الأزهار التي تُطِل على مَظهرٍ جميل من المياه التي كانت تَلمَع في تلك اللحظة بفعل أشعة الغروب الذهبية. غاصَت إيفا في كُرسيِّها المصنوع من الخُوص بينما جلَس توم إلى جوارها على الضفَّة المليئة بالطحالب. كانت صداقةُ تلك الفتاة الصغيرة وذلك العبد تزدادُ قوةً يومًا بعد يوم، وكان الرجل على استعدادٍ لأن يُضحِّي بحياته من أجلها إذا ما تطلَّب الأمر؛ ذلك أنه كان يرى فيها ما لا يراه الآخرون — أن تلك الروح الطفوليَّة الجميلة كانت تنشُر أجنحتها من أجل أن تعُود إلى الفردوس.
كانت الفتاة الصغيرة تضع الكتاب المُقدَّس على ركبتَيها، وفيما كانت تنظُر إلى شمس الغروب المصبوغةِ بالألوان الأُرجوانية والذهبية المتلألئة، قالت في نَبرةٍ عميقة:
«توم، أين تعتقد أن تكون أرض الميعاد الجديدة؟»
كانت الفتاة تُؤلِّف الكلمات وهي تُغنِّي، وقد أضافت إلى النغمة الغريبة التي استَخدمَتها سَجعًا قلَّدَه الطائر المحاكي الذي كان في الأَيْكة.
قالت إيفا وهي تبتسم: «مسكينة هي توبسي، ألا تعتقد يا توم أنها تُحاوِل الآن أن تكون صالحة؟ إنني أَشعُر بالأسى لأنني سأتركها.»
انقبض قلبُ توم وسألها: «ماذا؟ إلى أين تذهبين سيدتي إيفا الصغيرة؟»
قامت الطفلة من مكانها وأشارت بيدها إلى الأعلى نحو السماء، وقد أشرق الضوء من خلفها، فرآها توم وكأنها مَلاك.
«سأذهب هناك أيها العم توم، إلى الأعلى — وقريبًا أيضًا. ينبغي أن أُخبر أبي قريبًا، ثم ينبغي علينا أن نُساعده في تحمُّل هذا الأمر، أنت وأنا.»
«أتسمع ذلك أيها العم توم، توبسي تُحبني!»
انفَجَر توم باكيًا.
قال توم: «أوه سيدتي الصغيرة، أيتها الحَمَلُ الأبيض الصغير. لقد أرسلكِ الربُّ إلينا لتُباركينا. إنك تَلْمسين قلوبنا السوداء الحزينة بيدَيك الحانيتَين، فتُذهبين عنها الحزن! تعالي يا سيدتي الصغيرة، إن خيوط المساء تنسدل علينا، هيا لندخل.»
وذهبا باتجاه المنزل في الوقت المناسب ليُشاهدا السيدة أوفيليا وهي تجرُّ توبسي نحو غرفة الصالون.
قالت السيدة أوفيليا: «تعالي إلى هنا الآن. سأُخبر سيِّدَكِ.»
احتمَت توبسي كالعادة خلف كرسيِّ السيد سانت كلير. كان الرجل دومًا ما ينظر إلى سلوكها الغريب نظرةَ اندهاشٍ أكثر منها نظرةَ غضب. أما السيدة ماري — وذلك هو الاسم الذي كان عبيدها يُطلِقونه عليها — فقد كانت أكثَر حِدَّةً في معاملتها لها.
سأل أوجاستين: «ما الأمر؟»
«الأَمْر أنني لا أستطيع أن أَصبِر على الابتلاء بهذه الفتاة الصَّغيرة بعد الآن! لقد تَخطَّى الأمرُ كلَّ حُدودَ التحمُّل؛ لا يُمكِنني أن أَتحمَّل ذلك بعد الآن! لقد حبَستُها وأعطيتُها ترنيمة تَدرُسها، ولكن ماذا فَعلَت هي؟ لقد تَجسَّسَت عليَّ لتَعرِف أين أُخبِّئ المفتاح، وذَهبَت إلى مكتبي وراحت تقُصُّ القَلَنْسُوات، من أجل أن تَصنَع المعاطف للدُّمى! لم أرَ في حياتي شيئًا كهذا أبدًا!»
قالت ماري: «لقد أخبرتُكِ يا ابنة عمي أنه لا يُمكن تربيةُ هذه المخلوقات من دون استخدام الشدةِ والقسوة.» ثم قالت وهي تَنظُر إلى سانت كلير وكأنها تُؤنِّبه: «لو كُنتُ مُخوَّلةً بالتعامُل معهم الآن، لكُنتُ أرسلتُ تلك الفتاة للخارج وأمرتُ بضربها ضربًا مُبرحًا.»
قال سانت كلير: «ليس لديَّ شَكٌّ في ذلك.»
قالت ماري: «ليس هناك فائدةٌ من تردُّدِكَ في اتخاذ قرارٍ بشأن هذه الفتاة يا سانت كلير. إن ابنة العم امرأةٌ عاقلة، وتَرى الأمر بالوضوح ذاتِه الذي أراه به.»
قالت السيدة أوفيليا: «في الواقع، سأتخلَّى عن تلك الفتاة. لا يُمكِنني أن أُطيق المزيد من المُشكِلات.»
كانت إيفا تقف مُشاهِدةً صامتة أثناء هذا المشهد كلِّه حتى تلك اللحظة، ثم أشارت إلى توبسي أن تتبعها. وكانت هناك حُجرةٌ زجاجية صغيرة عند زاوية الشُّرفة كان سانت كلير يستخدمها كغُرفةٍ للقراءة، فاختفَت إيفا وتوبسي في ذلك المكان.
قال سانت كلير: «ماذا تفعل إيفا الآن؟ أُريد أن أراها.»
ثم تَقدَّم على أصابع قدمَيه بحذرٍ شديد ورفع ستارةً تُغطي الباب الزجاجي ونظَر بداخل الغرفة. وبعد لحظة، وضَع إصبَعَه على شَفتَيه وأشار في صمتٍ إلى السيدة أوفيليا لتأتي وتنظُر هي الأخرى. كانت الطفلتان جالستَين على الأرض وجانِبا وجهَيهما أمام ناظِرَي سانت كلير وأوفيليا، فكان وجه توبسي بمظهرها المعتاد من اللهو الطائش ولامُبالاتها في مقابلِ وجه إيفا المتَّقِد بالمشاعر، وعيناها الواسعتان تعُجَّان بالدموع.
«ما الذي يجعلُكِ سيئةً إلى هذا الحد يا توبسي؟ لماذا لا تُحاولين أن تكوني صالحة؟ ألا تُحبِّين أيَّ أحدٍ يا توبسي؟»
«لا أعرف شيئًا عن الحب.»
«لكن يا توبسي، إذا حاولتِ فقط أن تكوني صالحة، فربما …»
قالت توبسي: «إذا كنتُ سأُحاوِل أن أكون صالحة، فينبغي أن أكون أيَّ شيء سوى كوني زَنْجيَّة. لو كان بالإمكان سَلْخي والتخلُّصُ من جِلدي الأسود، لحاولتُ حينها أن أكون صالحة.»
«لكن الناس يُمكن أن يُحبوكِ إذا كنتِ سوداءَ يا توبسي. كانت السيدة أوفيليا تُحبَّك لو أصبحتِ فتاةً صالحة.»
أطلقَت توبسي ضحكةً حادَّة قصيرة.
قالت إيفا: «ألا تعتقدين ذلك؟»
قالت توبسي بينما بدأَت تُطلق الصفير: «لا، لا يُمكنها أن تتحمَّلني؛ لأنني زَنْجية. إنها تُفضِّل أن يلعَقَها ضِفْدَع! لا يُمكن لأحدٍ أن يُحب الزنوج، ولا يُمكن للزنوج فعلُ شيء حيال ذلك! لا يُهمني.»
قالت إيفا في تفجُّرٍ مفاجئ للمَشاعر: «أوه، توبسي، أيتها الطفلة المسكينة، أنا أُحبك!» ثم وضَعَت يدها البيضاء النحيلة الصغيرة على كَتفِ توبسي واستَطردَت: «أُحبُّكِ؛ لأنكِ لم تحصُلي على أبٍ أو أم أو أصدقاء؛ لأنك طفلةٌ مسكينة أسيءَ مُعاملتها! أُحبكِ وأُريدكِ أن تكوني فتاةً صالحة. أعتقد أنني لن أعيش طويلًا، ويُحزنني حقًّا أن تكوني بهذه الشقاوة. أتمنَّى لو تُحاولين أن تكوني فتاةً صالحة؛ لأجلي. لن يطول وقتُ وجودي معكِ.»
امتلأَت عينا الطفلة السوداء المستديرتان الحادَّتان بالدموع، فتساقَطَت قطراتٌ كبيرة من الدموع على وجنتَيها، واحدة تلو الأخرى ثم سقَطَت على يد إيفا البيضاء، ثم وَضَعَت توبسي رأسَها بين رُكبتَيها وراحت تنتحب.
قالت إيفا: «أيتها المسكينة توبسي! ألا تعرفين أن السيد المسيح يُحب الجميع على حَدٍّ سواء؟ إنه على استعداد لأن يُحبَّكِ كما أُحبُّك أنا. إنه يُحبك بقَدْر ما أُحبكِ. وسيُساعدكِ لأن تكوني صالحة، ويُمكنكِ أن تذهبي إلى الفِردَوس في النهاية وأن تُصبحي مَلاكًا إلى الأبد، تمامًا كما لو كُنتِ بيضاء البشرة. فكِّري في الأمر فقط يا توبسي! يُمكنكِ أن تكوني إحدى تلك الأرواح الزكية التي يُغنِّي العم توم عنها.»
قالت الطفلة: «أوه، عزيزتي السيدة إيفا! سأُحاوِل، سأفعل؛ لم أهتمَّ لهذا الأمر من قبلُ قَطُّ.»
تَركَ سانت كلير الستارة في تلك اللحظة وقال: «يُذكِّرني ذلك بأمي.»
قالت إيفا بعد بِضعةِ أيام: «أمي!» كانت في سريرها الأبيض الصغير الآن، وكان والدها الذي يُحبها كثيرًا أكثرَ من نفسه ومن حياته قد أُجبِر على الاعتراف بأن بقاءها معه لن يدوم طويلًا. وكانت أمها مشغولة باعتلالها وحالتها المرَضية كثيرًا، لدرجة أنها لم تُلاحظ أن الملاك ذا الجَناحَين الرماديَّين كان ينتظر الطفلة.
قالت إيفا بصوتها العذب الرنَّان: «أمي! أريد أن أقصَّ جزءًا كبيرًا من شَعري؛ أرجوكِ اسمحي لي بذلكَ.»
قالت ماري متفاجئة: «لماذا؟»
«أريد أن أُعطيَه لأصدقائي بنفسي فيما ما زلتُ هنا. أرجوكِ اطلُبي من عمتي أن تقُصَّ شَعري.» دَخلَت السيدة أوفيليا ونظرَت إلى الطفلة في استغراب.
قالت الطفلة مداعبةً إياها: «تعالَي يا عمتي، جُزِّي فروة الحَمل.»
دخل سانت كلير الغرفة وسأَل: «ماذا تفعلين؟»
رفعَت عينَيها في عينَيه وقالت: «أريد أن أهبَ خُصل شعري يا أبي.» فاستدار بينما غَمغَم قائلًا:
«طفلتي، ابنتي الصغيرة. كل شيء سيحدُث كما قلتِ.»
«إذن ينبغي أن أرى كلَّ مَن هم هنا معًا. أرجوك، ابعَث في طلبهم أن يأتوا إليَّ. لديَّ أشياءُ لا بُد أن أقولها لهم.»
خرجَت أوفيليا وأَرسَلَت رسولًا، وسرعان ما كان جميع الخدَم في الحُجرة.
انتصبَت إيفا في جَلسَتها وابتَسمَت لهم ابتسامةً رقيقة حتى إن أكثر الموجودين شَعروا أنها كانت تَبتسِم من الفردوس.
قالت إيفا: «لقد طَلبتُ حُضوركم جميعًا؛ لأنني أُحبُّكم. أحبُّكم جميعًا، وهناك شيء أريد أن أقوله لكم، وأريد منكم أن تتذكروه دومًا، سأغادركم. في غضون بضعة أسابيع لن تَروني مجددًا.»
في تلك اللحظة قاطَعَها نَحيبُ الحضور أجمعين، فأصبَح صوتُها خافتًا تمامًا. انتظَرت الفتاة لحظةً ثم قالت:
«إذا كنتم تُحبونني فلا تُقاطِعوني هكذا. اسمَعوا ما سأقول. أُريد أن أُحدِّثكم عن أرواحكم، يُؤسفني أن أكثركم غير عابئين. أنتم تُفكِّرون فقط في هذا العالم. أريدكم أن تتذكروا أن هناك عالَمًا جميلًا يعيش فيه السيد المسيح. سأذهب إلى هناك، ويُمكنكم أن تذهبوا إلى هناك أيضًا. إن ذلك العالم هو مِن أَجلِكم كما هو من أجلي. لكن إذا أردتُم الذَّهاب إلى ذلك العالم، فلا ينبغي أن تعيشوا حياةً فارغة طائشة مستهترة. لا بد أن تكونوا مسيحيين، وسيُساعدكم المسيح. لا بد أن تُصلُّوا له، وأن تَقرءوا …»
توقفَت الفتاة ونظرت إليهم في شفقة، وقالت في نبرةٍ حزينة للغاية:
«أوه، أعزائي! أنتم لا تعرفون القراءة، يا لأرواحكم المسكينة!» ثم خبَّأَت وَجهَها في الوِسادة وانتحبَت، فاستحثَّتها العبَرات المخنوقة لمن كانت تُوجِّه لهم حديثها، الراكعين حولها، على الحديث مرةً أخرى.
فقالت بينما رفعَت وَجهَها عن الوِسادة وابتَسمَت ابتسامةً عريضة فيما كانت الدموع لا تزال في عينَيها: «لا بأس، لقد صلَّيتُ لكم جميعًا، وأعلم أن السيد المسيح سيُساعدكم، حتى ولو كنتم لا تعرفون القراءة. حاوِلوا جميعًا أن تُقدِّموا أفضل ما لديكم من عمل؛ صلُّوا كل يوم؛ اطلبوا منه أن يُساعدكم. سأراكم جميعًا في الفردوس.»
جاءت غمغمةُ توم وأمها وبعض الكبار في السن من الحضور الذين ينتمون إلى الكنيسة الميثودية قائلين: «آمين!» أما الصغار الطائشون الذين كانوا مذهولين تمامًا في تلك اللحظة فكانوا يَبكُون مُطأطئين رءوسَهم.
قالت إيفا: «أعلم أنكم تُحبونني جميعًا. ليس هناك من بينكم مَن أساء معاملتي يومًا، وأريد أن أُعطيَكم شيئًا تَذكرونني به حين تنظرون إليه. سأُعطيكم جميعًا خُصلًا من شعري، وحين تنظرون إليه، تذكَّروا أنني أحببتُكم وأنني ذهبتُ للفردوس، وأنني أريد أن أراكم جميعًا هناك.»
تجمَّعوا جميعًا حول الفتاة والدموع تُغرِق أعينَهم، وأخذوا من يدِها آخِرَ دليل على حُبها لهم. جثَوْا جميعًا على رُكَبهم وانتحَبوا وصلَّوْا وقبَّلوا حاشية ثيابها، وصَبَّ كبار السن منهم على مَسَامعها كلماتٍ تُعبِّر عن اعتزازهم بها وحُبِّهم لها، فاختَلطَت تلك الكلمات بالدعاء لها ومُباركتِها على طريقتهم الخاصة بعرقهم.
وفيما كانوا يأخذون هديتها، أشارت السيدة أوفيليا لكلِّ واحد منهم أن يخرجوا من الغرفة.
في النهاية كان الجميع قد غادَروا، عدا توم والممرِّضة.
قالت إيفا: «إليكَ خُصلةً جميلة أيها العم توم. أوه، أنا في غاية السرور أيها العم توم؛ لأنني أعرف أنني سأراك في الفردوس، أنا واثقة من ذلك، ويا أمي العزيزة الطيبة الحنون!» ثم قالت بينما لفَّت ذراعَيها في حبٍّ غامر حول رقبة ممرضتها العجوز وقالت: «أعرف أنكِ ستكونين هناك أيضًا.»
قالت المُمرِّضة المخلِصة: «أوه، سيدة إيفا. ألا ترين كيف أني لا أُطيق العيش بدونكِ مهما كان!»
دفعَتها السيدة أوفيليا وتوم برفقٍ خارج الغرفة وظنُّوا أن الجميع قد ذهَبوا، لكنهم حين استدارَت أوفيليا وجَدوا توبسي واقفة.
قالت فجأة: «من أين جِئتِ؟»
قالت توبسي وهي تَمسَح الدموع من عينَيها: «كُنتُ هنا.»
«أوه، سيدة إيفا. كنتُ فتاةً سيئة؛ لكن ألن تُعطيني خُصلةً من شَعركِ أيضًا؟»
«بلى يا توبسي المسكينة! تأكدي أنني سأفعل. هاكِ، تَذكَّري في كل مرة تنظرين إلى هذه أنني أُحبكِ، وأنني أريدك أن تكوني فتاةً صالحة!»
قالت توبسي في لهفة: «أوه، سيدة إيفا، أنا أُحاول! لكن من الصعب جدًّا أن أكون صالحة! يبدو أنني لستُ مُعتادةً على هذا الأمر!»
«الرب يعرف هذا يا توبسي، وهو يُشفِق على حالكِ، وسيُساعدكِ.»
خرجَت توبسي من الغرفة وهي تُخبِّئ عينَيها في مِئزرَها، لكنها وضعَت الخُصلة الثمينة في صَدْرها وهي في طريق خروجها.
خَرجَت السيدة سانت كلير من الغرفة ومعها أوفيليا، وذهب أوجستين وأخذ ابنتَه الصغيرة في حضنه، وجلَسوا في صمتٍ بعضَ الوقت، ثم همست الفتاة له:
«غنِّ لي يا أبي.» وغَنَّى لها حتى غلبَها النُّعاس ورأسُها يستند إلى صَدْره. جلس يُشاهد من بين دموعه في عينَيه رموشَها الطويلة وهي تُظلل وَجْنتَيها الحمراوَين بفعل الحمَّى، ثم فتَحَت عينَيها الواسعتَين وقالت:
«أبي، عِدني أن تُطلِق سَراح العم توم. عِدني الآن.»
أجابها: «سأفعل يا أَعزَّ ما لي، سأفعل.»
قالت: «أبي، الظلام يزداد، لا يُمكنني أن أرى وَجهكِ.» ورفعَت يدَيها ولمسَت وَجنَته بلمساتٍ لطيفة. «لكنني أَعتقِد أنني أسمع توبسي تُغنِّي في مكانٍ ما. عامِل كل أصدقائي معاملةً طيبة يا أبي. أين توم؟»
تسلَّل توم إلى الغرفة وقال: «هنا يا سيدتي، أنتظر عند الباب.» ثم جلس على الأرض عند قدمَي السيد سانت كلير. أمسكَ بحاشية ثيابها وتساقطَت الدموع من عينَيه عليها. ثم رفع ناظرَيه ونظر بعُمقٍ في عينَي سيده؛ وفيما كانا ينتظران، نسي أكثرُ مَن أحبَّ إيفا أنهما كانا سيدًا وعبده وشبك كلٌّ منهما يدَه في يد الآخر من أجل حضور الملاك. وبعد بُرهةٍ قصيرة رفعَت إيفا رأسَها وابتسَمَت.
«ماذا يا إيفا؟ ماذا يا عزيزةَ قلبي؟»
لكنَّ وجهَها الجميل غاص في صدره وانتصَب توم على ركبتَيه وقال في أسًى:
«لقد رحلَت يا سيدي؛ إنها بين يدَي الرب الأبدية الآن. لقد ذهَب الحَمَل الأبيض الصغير إلى منزله.»